حضرة الأستاذ عبد العزيز كحيل، يشرفنا في مجلة غدي الشبابية أن نستضيف حضرتكم في صالون غدي، مقدمين للقراء نموذجاً لمفكر إسلامي معاصر، فأهلاً وسهلاً بكم.
1. كيف استفدتم من تخصصكم في الحقوق في تكوين فكر موضوعي وتحليلي، خاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية والإسلامية؟
لسم الله الرحمن الرحيم ،ليس تماشيا مع العادة المتّبعة وإنّما بكلّ صدق أشكر مجلّة غدي على استضافتي على صفحاتها الطيّبة داعيّاً الله لها بطول العمر وللعاملين بها بالتوفيق والسداد.
دراسة الحقوق تكسب صاحبها – بفضل الله – ملكةً تحليليّةً وتجعله أقرب إلى الموضوعيّة تماماً مثل الدراسات الأصوليّة والفقهيّة في الميدان الشرعيّ، والتعامل مع القانون يخلّص طالب العلم والقاضي ونحوهما من الذاتيّة ومن التعميم – إلى حدّ بعيد - ويجنح بهم إلى الصرامة والتركيز، وهذا أفادني كثيراً في مجال البحث والكتابة، حتّى إني عندما أتناول – على سبيل المثال – قضايانا العربيّة والإسلاميّة أحاول الابتعاد عن ذهنيّة التآمر والحالات النفسيّة الرخوة أو المتشنّجة وإطلاق الأحكام إلى التحليل المستند إلى الحقائق والأرقام والإحصاءات.
2. كيف تنظرون إلى واقع ’’حقوق الإنسان’’ بين الإسلام النظري والإسلام العملي؟
الانفصام بين الإسلام النظريّ والإسلام العمليّ يتجاوز موضوع حقوق الإنسان ليشمل – مع الأسف – حياة الفرد والأسرة والمجتمع المسلم كلّه إلى حدّ بعيد ، وذلك منذ أن تمّت تنحيّة الإسلام عن مجالات التربيّة والتشريع والحكم، لذلك أصبحت عندنا أجيال لا علاقة لها بحقوق الإنسان لأنّنا في الحقيقة لا نشكو فقط من الأنظمة الّتي تغتصب هذه الحقوق ولكن من الشعوب وبعض النخب الّتي لا تطالب بها وربّما لا تعتبر نفسها معنيّةً بها، ويمكننا العثور بسهولة على علماء دين وأتباع لهم يعتبرون الحديث عن حقوق الإنسان بدعةً لم يعهدها الأوّلون أو ترفاً وافداً من الغرب.
لقد أبان الباحثون ما يزخر به القرآن والسنّة من نصوص وقواعد تؤصّل لحقوق الإنسان السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والروحيّة وغيرها، وتتناول حقوق الأطفال والنساء والعمال والحكّام والشعوب، لكن كلّ هذا بقيّ إلى حدّ بعيد على شكل مواد خام ليس لها نصيب كبير في حياتنا، لذلك يجب إعادة مدّ الصلة بيننا وبين مرجعيّتنا الدينيّة الأصيلة في هذا المجال والاستفادة من التجارب البشريّة الّتي مكّنت الإنسان في الغرب من الإحساس بالكرامة والتمتّع بالحريّة أكثر منّا بكثير، وأضرب مثالا على هشاشة ثقافة حقوق الإنسان عندنا بقضية المرأة ، فهي – مع الرجل المسلم أو قبله – تصرّح أن الإسلام كرّم المرأة ومنحها كلّ حقوقها ، لكنّ الأمر لا يتجاوز هذا التقرير إلى التحرّك الميداني لممارسة هذه الحقوق بسبب معوّقات ذاتية على رأسها قاعدة سدّ الذرائع التي توسّع في الأخذ فيها كثيرون – منهم المرأة نفسها – فأفرغوا منظومة الإسلام الحقوقية النسوية من محتواها ومكّنوا بذلك للغزو الثقافي أيّما تمكين.
3. باعتبارك مشتغلا في القضايا الفكرية؛ ما هي أدواتك التي تستثمرها لخدمة الإسلام؟
أنا أعتبر نفسي خادماً لهذا الدين ولأمّة محمد – صلّى الله عليه وسلّم – وأصدر في ميدان الغايات والوسائل عن الكتاب والسنّة فأستثمر من الأدوات كلّ ما هو متاح ولا يخالف مبادئي وأخلاقي، فأنا أخطب وأحاضر وأعقد الندوات وأكتب المقالات وأؤلّف الكتب، وأحاول في كلّ هذا أن أخاطب العقل مع تحريك القلب، كما أخاطب القلب مستصحباً نور العقل، وأنا أفضّل حجّة الفقيه على جلجلة الخطيب وخطّة الداعيّة البصير على حماس المستعجل، أنتفع من التاريخ الإسلاميّ والإنساني، وأحاول تدبّر القرآن والتفقّه في السنّة أكثر من ترديد أقوال السابقين ما لم يكن كلامهم نصّاً قطعيّاً أو إجماعاً متيقّناً، وآليت على نفسي أن أبتعد قدر المستطاع عن الدروب المعبّدة لأقتحم ميادين خصبة تهيّب منها كثيرون بذرائع شتّى، هذا ما تعلّمته من السادة العلماء المجدّدين ومن الحركة الإسلاميّة الواعيّة الرّشيدة. أنا أتابع أحوال الناس وسياساتهم وأفكارهم واتجاهاتهم الإيديولوجية والفنية والدينية في الساحة العربية والإسلامية والغربية لأستفيد ، فأقرأ قراءة نقدية من خلال المقاييس الشرعية والمحكمات العقلية ، وبناء على ذلك أكتب وأتكلّم.
4. المتتبع لكتاباتكم يلحظ وجود شمولية في الفكر والتعبير تتناول جوانب شتى بأساليب متنوعة حول الإنسان والإسلام والكون، كيف تحقق لديكم ذلك، وهل أنتم مع بناء ثقافة أفقية أم تخصصية لدى المثقف المسلم؟
السلوك السليم – بالنسبة للفرد والأمّة – تبع لرؤية شموليّة متكاملة، فإن لم تتوفّر هذه الرؤية كان الخبط وإهدار الطاقات بلا فائدة، وهذا يفرض علينا بناء ثقافة رأسيّة وأفقيّة في آن واحد حتّى نجمع في تناغم وتناسق بين النخبويّة والجماهيريّة، وهذا هو أمثل المناهج كما بيّن القرآن الكريم والتجارب الإنسانيّة الناجحة، فالنخبويّة الّتي يمثّلها ’’الراسخون في العلم’’ تنتج الفكر الراقي الّذي يقوم بترشيد الإنتاج الجماهيريّ ويحصّنه من الوقوع في الرّداءة والفساد، ولا يخفى أن الإيغال في النخبوية يقطع الصلة بالناس وواقعهم ، كما أنّ الشعوبية خطر على العلم والثقافة والجدّ والاعتدال‘وقد صحّ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان في المجلس الواحد يخاطب الجميع بنفس الخطاب ثمّ يسرّ لبعض جلسائه ما لا يسمعه غيرهم ، فهؤلاء لهم من الاستعدادات ما يجعلهم من النخبة التي تستحقّ موضعا خاصا وتكاليف أكبر وأكثر رغم مشاركتهم غيرهم في قواسم عامّة كثيرة.
5. كونكم مهتمين بالفكر السياسي؛ ما هو – برأيكم – واجب الشباب المسلم لاستيعاب الواقع السياسي بمختلف تحدياته ثم المشاركة الإيجابية في إصلاحه؟
يجب أن يكون الشباب المسلم حاضراً أوّلاً على مستوى واقع الأمّة والبشريّة وما يمور من مستجدّات وتحديّات ومحاسن ومساوئ، في مجالات الحياة كلّها، والبقاء على هامش كلّ هذا يعدّ خروجاً عن النسق الإسلاميّ الّذي يحمّل المؤمنين – والشباب خاصّةً – مسؤوليّة الدين والحياة والمخلوقات كلّها ’’حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله’’، والحضور لا يعني التفرّج وإنّما التعلّم والإحساس ثمّ الإقدام على المساهمة في البناء والإصلاح والتغيير ورفع التحديّات وإفراغ الوسع في كلّ هذه الأهداف الرّفيعة، ولا شكّ أن للواقع السياسيّ العربيّ وضعاً خاصاً يستحقّ الاهتمام الأكبر، والشباب مغيّب عن قصد، ولا يتولّى أمر هذا الواقع في الغالب سوى عجزة يظنّون أن العناية اختارتهم ليتولّوا تسيير حياتنا من المهد إلى اللحد، لكنّ دور الشّباب قادم لا محالة، فعليه شحذ الهمم وإمضاء العزائم وخوض المعارك الفكرية والسياسية واقتحام مجالات العمل الخيري والتربوي، ومطاردة اليأس الذي تريد الأنظمة بثّه فيه ، واجتناب اللجوء إلى العمليات القيصرية في حركة التغيير وإنما اتّباع السنن التي تحكم المجتمعات .
كما أريد أن أضيف أنّي أريد من الشباب أن يحبّوا الحياة ، فهي مزرعة الآخرة ، ويعمروها بكلّ نافع وجميل ، وكلّ ميسّر لما خلق له.
6. يطالعنا أشخاص بتوصيف (مفكر إسلامي)، ما المقصود بهذا اللقب؟ وما هي المواصفات الفكرية والثقافية التي ينبغي للمفكر أن يتمتع بها ليكون ’’إسلامياً’’ بحق؟
من المؤسف أن هذا لقب صار ينتحله حتّى أشخاص دأبهم وديدنهم علمنة الإسلام أو الطعن في قيّمه وأحكامه وأخلاقه باسم الاجتهاد والتّجديد، ولو شئت لذكرت أسماء، فقد طافت بها الصحف والمواقع والفضائيّات، وأنا إذ لا أحجّر على أحد أن يفكّر إلاّ أنّ الإسلام أعظم من أن يقتحم حماه الفكريّة كلّ متطفّل ومدّع، فالفيزياء النوويّة لا يخوض فيها كلّ من شاء، وحتّى الموسيقى الكلاسيكيّة لا يتناولها بالكتابة والتنظير والنقد إلاّ أصحاب المعرفة الواسعة والذوق الرّفيع، لذلك أحذّر من الانخداع بالألقاب والأوصاف، والنظر بدل ذلك إلى مرجعيّة هذا المفكّر أو ذاك ومدى التزامه بالثوابت الشرعيّة وبالنّسق الإسلاميّ الّذي يبيّنه علم الأصول، أي المعرفة بمصادر الدين ومقاصده والعمل على خدمتها، أمّا أن يوصف بالمفكّر الإسلاميّ من لا يؤمن أصلاً بالمرجعيّة الإسلاميّة ويجعل من النّصوص الشرعيّة عجينةً يطوّعها لخدمة الفكر الوافد فهذا مرفوض وينبغي كشف أمره للرّأي العام ،ومن أراد أن يكون ناقدا للإسلام فله ذلك لكن بعيدا عن تزوير الألقاب وانتحال الشخصية .
7. كون العمل الدعوي هو في إطار اهتماماتكم؛ ما رأيكم بمصطَلَحَيّ ’’تأصيل الفكر الدعوي’’ و’’تقنين النّظم الدعوية’’، وما مدى حاجة الساحة الإسلامية إليها بحسب متطلبات الواقع؟
بصراحة، أظنّ أن الساحة الإسلاميّة في حاجة – حاليا - إلى ممارسة الدعوة أكثر من حاجتها إلى التنظير رغم أهميّته، فنحن نلاحظ تراجعاً مؤسفاً في حركة التعريف بالإسلام والدعوة إليه منذ انحصار مدّ الصّحوة المباركة بسبب الظروف المعروفة، وتتمثّل الأولويّة الآن – في تقديري – في إعادة بعث العمل الدعويّ سواءً الفردي أو المؤسّسي ليواكبه بعد ذلك التأصيل المشار إليه وتقنين النظم، أقول هذا لخوفي من الاستغراق في النظريّات والمباحث التجريديّة على حساب الفعل الميدانيّ الّذي هو حقيقة الدعوة ومعيار حيويّة الدعاة، كما أنّنا في زمان نحتاج فيه إلى تحفيز المشتغلين بالدعوة أكثر من تسييج نشاطهم بمزيد من الضوابط فوق تلك المتّفق عليها، هذا ما يقتضيه واقعنا المتأزّم، وأضيف في الأخير أنّ ما يسمّى بالفكر الدعوي والنظم الدعويّة متضمّن في الكتاب والسنّة وفي تراثنا الإسلاميّ ، فلا يحتاج إلى إنشاء وإنّما إلى استحضار وإعادة قراءة وتجديد، مع التركيز على النشاط الدعوي ذاته كما أشرت ، أؤكّد على هذا لأنّ في ساحتنا من يهتمّ بالوسيلة على حساب الغاية وبالأداة أكثر من المقصد، فيتضخّم التنظير و يكون الأداء هزيلا.
8. هل بات مصطلح ’’المغرَّب العربي’’ بديلاً عن ’’المغرب العربي’’؟ وإذا كان الأمر كذلك فعلى من تقع مسؤولية هذا التغريب؟، وما هي اقتراحاتكم لتعزيز أواصر التواصل بين الشباب العربي شرقاً وغرباً.
’’المغرّب العربيّ’’ تعبير أشكركم عليه لأنّه حقيقة ماثلة تدعو إلى ضحك كالبكاء، وإذا كان التغريب شرّاً كلّه لأنّه يستهدف فينا الشخصيّة والهويّة والانتماء الحضاريّ، فهوّ عندنا في المغرب العربيّ أدهى وأخطر لأنّه يستهدف اللّغة العربيّة أيضاً ويحاربها بلا هوادة، واستطاع تهميشها إلى حدّ كبير، ولم تعد الفرنسيّة عندنا مجرّد لغة يهواها التغريبيون بل هي ثقافة وفكر وانتماء للغرب وفرنسا بالذات على حساب الفضاء العربيّ الإسلاميّ بكلّ أشكاله وأبعاده، وربّما كسب التغريب في زمن الاستقلال ما لم يكسبه في زمن الاحتلال بسبب التواطؤ من جهة وضعف المناعة لدى الأمّة من جهة أخرى، ولا شكّ أنّ للأنظمة الحاكمة اليد الطولى في التّمكين للغزو الفكريّ عبر القرارات السيّاسيّة والخيّارات الثقافيّة، حتّى غدا شمال أفريقيا ’’مغرّباً عربيّاً’’. ولولا أصالة الشعوب وقوّة الإسلام لأصبح ولايات تابعة للضفّة الشماليّة من البحر المتوسّط أو لحدث له ما حدث للجزر النائية التابعة لفرنسا.
وكلّ أشكال التواصل بين الشعوب في المشرق والمغرب ستخدم وحدة الأمّة وقضاياها من غير شكّ، وللشّباب دور هام في ذلك من خلال الحضور المتبادل عبر مختلف الوسائل المتاحة لتشدّ أزر بعضهم والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة، الشباب عندنا يتفاعلون مع الشرق العربي تفاعلا كاملا في جميع الميادين ،وأرجو من أبنائنا وإخواننا في هذا المشرق أن يقرؤوا لنظرائهم في المغرب العربي ويستمعوا إليهم ويتواصلوا معهم، ونحن من قديم ننظر إلى أقطارنا المشرقية نظرة تقدير ،وقد كتب الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مقالا رائعا - أثناء الفترة الاستعمارية – عنوانه ’’ داوِ الكلوم يا شرق ’’ ، والعنوان يدلّ على المحتوى.
9. ختاماً، كلمة توجهونها لشبابنا تشدون بها أزرهم وتقدمون لهم نصيحة تعينهم في مسيرة حياتهم.
أنا لا أطلب من الشباب أن يكونوا رجالاً فوق الطبيعة (superman) لكن أريد أن يسهموا بقدر طاقتهم في صناعة الحياة وخدمة الأمّة ونصرة الدين والأخلاق، والنفق ليس مظلماً كما يصوّر المتشائمون بل بشائر الفرج بادية إن شاء الله ،فينبغي عليهم أن يتسلّحوا بالأمل وينشدوا الجمال ويشيدوا صرح الحقّ والخير ويعيشوا سعداء لتسعد بهم الدنيا.
1. كيف استفدتم من تخصصكم في الحقوق في تكوين فكر موضوعي وتحليلي، خاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية والإسلامية؟
لسم الله الرحمن الرحيم ،ليس تماشيا مع العادة المتّبعة وإنّما بكلّ صدق أشكر مجلّة غدي على استضافتي على صفحاتها الطيّبة داعيّاً الله لها بطول العمر وللعاملين بها بالتوفيق والسداد.
دراسة الحقوق تكسب صاحبها – بفضل الله – ملكةً تحليليّةً وتجعله أقرب إلى الموضوعيّة تماماً مثل الدراسات الأصوليّة والفقهيّة في الميدان الشرعيّ، والتعامل مع القانون يخلّص طالب العلم والقاضي ونحوهما من الذاتيّة ومن التعميم – إلى حدّ بعيد - ويجنح بهم إلى الصرامة والتركيز، وهذا أفادني كثيراً في مجال البحث والكتابة، حتّى إني عندما أتناول – على سبيل المثال – قضايانا العربيّة والإسلاميّة أحاول الابتعاد عن ذهنيّة التآمر والحالات النفسيّة الرخوة أو المتشنّجة وإطلاق الأحكام إلى التحليل المستند إلى الحقائق والأرقام والإحصاءات.
2. كيف تنظرون إلى واقع ’’حقوق الإنسان’’ بين الإسلام النظري والإسلام العملي؟
الانفصام بين الإسلام النظريّ والإسلام العمليّ يتجاوز موضوع حقوق الإنسان ليشمل – مع الأسف – حياة الفرد والأسرة والمجتمع المسلم كلّه إلى حدّ بعيد ، وذلك منذ أن تمّت تنحيّة الإسلام عن مجالات التربيّة والتشريع والحكم، لذلك أصبحت عندنا أجيال لا علاقة لها بحقوق الإنسان لأنّنا في الحقيقة لا نشكو فقط من الأنظمة الّتي تغتصب هذه الحقوق ولكن من الشعوب وبعض النخب الّتي لا تطالب بها وربّما لا تعتبر نفسها معنيّةً بها، ويمكننا العثور بسهولة على علماء دين وأتباع لهم يعتبرون الحديث عن حقوق الإنسان بدعةً لم يعهدها الأوّلون أو ترفاً وافداً من الغرب.
لقد أبان الباحثون ما يزخر به القرآن والسنّة من نصوص وقواعد تؤصّل لحقوق الإنسان السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والروحيّة وغيرها، وتتناول حقوق الأطفال والنساء والعمال والحكّام والشعوب، لكن كلّ هذا بقيّ إلى حدّ بعيد على شكل مواد خام ليس لها نصيب كبير في حياتنا، لذلك يجب إعادة مدّ الصلة بيننا وبين مرجعيّتنا الدينيّة الأصيلة في هذا المجال والاستفادة من التجارب البشريّة الّتي مكّنت الإنسان في الغرب من الإحساس بالكرامة والتمتّع بالحريّة أكثر منّا بكثير، وأضرب مثالا على هشاشة ثقافة حقوق الإنسان عندنا بقضية المرأة ، فهي – مع الرجل المسلم أو قبله – تصرّح أن الإسلام كرّم المرأة ومنحها كلّ حقوقها ، لكنّ الأمر لا يتجاوز هذا التقرير إلى التحرّك الميداني لممارسة هذه الحقوق بسبب معوّقات ذاتية على رأسها قاعدة سدّ الذرائع التي توسّع في الأخذ فيها كثيرون – منهم المرأة نفسها – فأفرغوا منظومة الإسلام الحقوقية النسوية من محتواها ومكّنوا بذلك للغزو الثقافي أيّما تمكين.
3. باعتبارك مشتغلا في القضايا الفكرية؛ ما هي أدواتك التي تستثمرها لخدمة الإسلام؟
أنا أعتبر نفسي خادماً لهذا الدين ولأمّة محمد – صلّى الله عليه وسلّم – وأصدر في ميدان الغايات والوسائل عن الكتاب والسنّة فأستثمر من الأدوات كلّ ما هو متاح ولا يخالف مبادئي وأخلاقي، فأنا أخطب وأحاضر وأعقد الندوات وأكتب المقالات وأؤلّف الكتب، وأحاول في كلّ هذا أن أخاطب العقل مع تحريك القلب، كما أخاطب القلب مستصحباً نور العقل، وأنا أفضّل حجّة الفقيه على جلجلة الخطيب وخطّة الداعيّة البصير على حماس المستعجل، أنتفع من التاريخ الإسلاميّ والإنساني، وأحاول تدبّر القرآن والتفقّه في السنّة أكثر من ترديد أقوال السابقين ما لم يكن كلامهم نصّاً قطعيّاً أو إجماعاً متيقّناً، وآليت على نفسي أن أبتعد قدر المستطاع عن الدروب المعبّدة لأقتحم ميادين خصبة تهيّب منها كثيرون بذرائع شتّى، هذا ما تعلّمته من السادة العلماء المجدّدين ومن الحركة الإسلاميّة الواعيّة الرّشيدة. أنا أتابع أحوال الناس وسياساتهم وأفكارهم واتجاهاتهم الإيديولوجية والفنية والدينية في الساحة العربية والإسلامية والغربية لأستفيد ، فأقرأ قراءة نقدية من خلال المقاييس الشرعية والمحكمات العقلية ، وبناء على ذلك أكتب وأتكلّم.
4. المتتبع لكتاباتكم يلحظ وجود شمولية في الفكر والتعبير تتناول جوانب شتى بأساليب متنوعة حول الإنسان والإسلام والكون، كيف تحقق لديكم ذلك، وهل أنتم مع بناء ثقافة أفقية أم تخصصية لدى المثقف المسلم؟
السلوك السليم – بالنسبة للفرد والأمّة – تبع لرؤية شموليّة متكاملة، فإن لم تتوفّر هذه الرؤية كان الخبط وإهدار الطاقات بلا فائدة، وهذا يفرض علينا بناء ثقافة رأسيّة وأفقيّة في آن واحد حتّى نجمع في تناغم وتناسق بين النخبويّة والجماهيريّة، وهذا هو أمثل المناهج كما بيّن القرآن الكريم والتجارب الإنسانيّة الناجحة، فالنخبويّة الّتي يمثّلها ’’الراسخون في العلم’’ تنتج الفكر الراقي الّذي يقوم بترشيد الإنتاج الجماهيريّ ويحصّنه من الوقوع في الرّداءة والفساد، ولا يخفى أن الإيغال في النخبوية يقطع الصلة بالناس وواقعهم ، كما أنّ الشعوبية خطر على العلم والثقافة والجدّ والاعتدال‘وقد صحّ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان في المجلس الواحد يخاطب الجميع بنفس الخطاب ثمّ يسرّ لبعض جلسائه ما لا يسمعه غيرهم ، فهؤلاء لهم من الاستعدادات ما يجعلهم من النخبة التي تستحقّ موضعا خاصا وتكاليف أكبر وأكثر رغم مشاركتهم غيرهم في قواسم عامّة كثيرة.
5. كونكم مهتمين بالفكر السياسي؛ ما هو – برأيكم – واجب الشباب المسلم لاستيعاب الواقع السياسي بمختلف تحدياته ثم المشاركة الإيجابية في إصلاحه؟
يجب أن يكون الشباب المسلم حاضراً أوّلاً على مستوى واقع الأمّة والبشريّة وما يمور من مستجدّات وتحديّات ومحاسن ومساوئ، في مجالات الحياة كلّها، والبقاء على هامش كلّ هذا يعدّ خروجاً عن النسق الإسلاميّ الّذي يحمّل المؤمنين – والشباب خاصّةً – مسؤوليّة الدين والحياة والمخلوقات كلّها ’’حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله’’، والحضور لا يعني التفرّج وإنّما التعلّم والإحساس ثمّ الإقدام على المساهمة في البناء والإصلاح والتغيير ورفع التحديّات وإفراغ الوسع في كلّ هذه الأهداف الرّفيعة، ولا شكّ أن للواقع السياسيّ العربيّ وضعاً خاصاً يستحقّ الاهتمام الأكبر، والشباب مغيّب عن قصد، ولا يتولّى أمر هذا الواقع في الغالب سوى عجزة يظنّون أن العناية اختارتهم ليتولّوا تسيير حياتنا من المهد إلى اللحد، لكنّ دور الشّباب قادم لا محالة، فعليه شحذ الهمم وإمضاء العزائم وخوض المعارك الفكرية والسياسية واقتحام مجالات العمل الخيري والتربوي، ومطاردة اليأس الذي تريد الأنظمة بثّه فيه ، واجتناب اللجوء إلى العمليات القيصرية في حركة التغيير وإنما اتّباع السنن التي تحكم المجتمعات .
كما أريد أن أضيف أنّي أريد من الشباب أن يحبّوا الحياة ، فهي مزرعة الآخرة ، ويعمروها بكلّ نافع وجميل ، وكلّ ميسّر لما خلق له.
6. يطالعنا أشخاص بتوصيف (مفكر إسلامي)، ما المقصود بهذا اللقب؟ وما هي المواصفات الفكرية والثقافية التي ينبغي للمفكر أن يتمتع بها ليكون ’’إسلامياً’’ بحق؟
من المؤسف أن هذا لقب صار ينتحله حتّى أشخاص دأبهم وديدنهم علمنة الإسلام أو الطعن في قيّمه وأحكامه وأخلاقه باسم الاجتهاد والتّجديد، ولو شئت لذكرت أسماء، فقد طافت بها الصحف والمواقع والفضائيّات، وأنا إذ لا أحجّر على أحد أن يفكّر إلاّ أنّ الإسلام أعظم من أن يقتحم حماه الفكريّة كلّ متطفّل ومدّع، فالفيزياء النوويّة لا يخوض فيها كلّ من شاء، وحتّى الموسيقى الكلاسيكيّة لا يتناولها بالكتابة والتنظير والنقد إلاّ أصحاب المعرفة الواسعة والذوق الرّفيع، لذلك أحذّر من الانخداع بالألقاب والأوصاف، والنظر بدل ذلك إلى مرجعيّة هذا المفكّر أو ذاك ومدى التزامه بالثوابت الشرعيّة وبالنّسق الإسلاميّ الّذي يبيّنه علم الأصول، أي المعرفة بمصادر الدين ومقاصده والعمل على خدمتها، أمّا أن يوصف بالمفكّر الإسلاميّ من لا يؤمن أصلاً بالمرجعيّة الإسلاميّة ويجعل من النّصوص الشرعيّة عجينةً يطوّعها لخدمة الفكر الوافد فهذا مرفوض وينبغي كشف أمره للرّأي العام ،ومن أراد أن يكون ناقدا للإسلام فله ذلك لكن بعيدا عن تزوير الألقاب وانتحال الشخصية .
7. كون العمل الدعوي هو في إطار اهتماماتكم؛ ما رأيكم بمصطَلَحَيّ ’’تأصيل الفكر الدعوي’’ و’’تقنين النّظم الدعوية’’، وما مدى حاجة الساحة الإسلامية إليها بحسب متطلبات الواقع؟
بصراحة، أظنّ أن الساحة الإسلاميّة في حاجة – حاليا - إلى ممارسة الدعوة أكثر من حاجتها إلى التنظير رغم أهميّته، فنحن نلاحظ تراجعاً مؤسفاً في حركة التعريف بالإسلام والدعوة إليه منذ انحصار مدّ الصّحوة المباركة بسبب الظروف المعروفة، وتتمثّل الأولويّة الآن – في تقديري – في إعادة بعث العمل الدعويّ سواءً الفردي أو المؤسّسي ليواكبه بعد ذلك التأصيل المشار إليه وتقنين النظم، أقول هذا لخوفي من الاستغراق في النظريّات والمباحث التجريديّة على حساب الفعل الميدانيّ الّذي هو حقيقة الدعوة ومعيار حيويّة الدعاة، كما أنّنا في زمان نحتاج فيه إلى تحفيز المشتغلين بالدعوة أكثر من تسييج نشاطهم بمزيد من الضوابط فوق تلك المتّفق عليها، هذا ما يقتضيه واقعنا المتأزّم، وأضيف في الأخير أنّ ما يسمّى بالفكر الدعوي والنظم الدعويّة متضمّن في الكتاب والسنّة وفي تراثنا الإسلاميّ ، فلا يحتاج إلى إنشاء وإنّما إلى استحضار وإعادة قراءة وتجديد، مع التركيز على النشاط الدعوي ذاته كما أشرت ، أؤكّد على هذا لأنّ في ساحتنا من يهتمّ بالوسيلة على حساب الغاية وبالأداة أكثر من المقصد، فيتضخّم التنظير و يكون الأداء هزيلا.
8. هل بات مصطلح ’’المغرَّب العربي’’ بديلاً عن ’’المغرب العربي’’؟ وإذا كان الأمر كذلك فعلى من تقع مسؤولية هذا التغريب؟، وما هي اقتراحاتكم لتعزيز أواصر التواصل بين الشباب العربي شرقاً وغرباً.
’’المغرّب العربيّ’’ تعبير أشكركم عليه لأنّه حقيقة ماثلة تدعو إلى ضحك كالبكاء، وإذا كان التغريب شرّاً كلّه لأنّه يستهدف فينا الشخصيّة والهويّة والانتماء الحضاريّ، فهوّ عندنا في المغرب العربيّ أدهى وأخطر لأنّه يستهدف اللّغة العربيّة أيضاً ويحاربها بلا هوادة، واستطاع تهميشها إلى حدّ كبير، ولم تعد الفرنسيّة عندنا مجرّد لغة يهواها التغريبيون بل هي ثقافة وفكر وانتماء للغرب وفرنسا بالذات على حساب الفضاء العربيّ الإسلاميّ بكلّ أشكاله وأبعاده، وربّما كسب التغريب في زمن الاستقلال ما لم يكسبه في زمن الاحتلال بسبب التواطؤ من جهة وضعف المناعة لدى الأمّة من جهة أخرى، ولا شكّ أنّ للأنظمة الحاكمة اليد الطولى في التّمكين للغزو الفكريّ عبر القرارات السيّاسيّة والخيّارات الثقافيّة، حتّى غدا شمال أفريقيا ’’مغرّباً عربيّاً’’. ولولا أصالة الشعوب وقوّة الإسلام لأصبح ولايات تابعة للضفّة الشماليّة من البحر المتوسّط أو لحدث له ما حدث للجزر النائية التابعة لفرنسا.
وكلّ أشكال التواصل بين الشعوب في المشرق والمغرب ستخدم وحدة الأمّة وقضاياها من غير شكّ، وللشّباب دور هام في ذلك من خلال الحضور المتبادل عبر مختلف الوسائل المتاحة لتشدّ أزر بعضهم والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة، الشباب عندنا يتفاعلون مع الشرق العربي تفاعلا كاملا في جميع الميادين ،وأرجو من أبنائنا وإخواننا في هذا المشرق أن يقرؤوا لنظرائهم في المغرب العربي ويستمعوا إليهم ويتواصلوا معهم، ونحن من قديم ننظر إلى أقطارنا المشرقية نظرة تقدير ،وقد كتب الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مقالا رائعا - أثناء الفترة الاستعمارية – عنوانه ’’ داوِ الكلوم يا شرق ’’ ، والعنوان يدلّ على المحتوى.
9. ختاماً، كلمة توجهونها لشبابنا تشدون بها أزرهم وتقدمون لهم نصيحة تعينهم في مسيرة حياتهم.
أنا لا أطلب من الشباب أن يكونوا رجالاً فوق الطبيعة (superman) لكن أريد أن يسهموا بقدر طاقتهم في صناعة الحياة وخدمة الأمّة ونصرة الدين والأخلاق، والنفق ليس مظلماً كما يصوّر المتشائمون بل بشائر الفرج بادية إن شاء الله ،فينبغي عليهم أن يتسلّحوا بالأمل وينشدوا الجمال ويشيدوا صرح الحقّ والخير ويعيشوا سعداء لتسعد بهم الدنيا.