معركة الديمقراطية جزء من المعركة من أجل الحياة الإسلامية
تمت الإضافة بتاريخ : 27/02/2011م
الموافق : 24/03/1432 هـ
قال الكاتب والباحث الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، إن أجواء الحرية وإطلاق العنان للاجتهاد، سيوصل إلى حلول إسلامية لكل المشكلات.ويرى الشنقيطي في هذا اللقاء أن الحركات الإسلامية بحاجة إلى مراجعة رؤيتها السياسية في التغيير، أخلاقيا واستراتيجيا، من رؤية محكومة بالخوف من السلطة والطمع فيها، إلى رؤية محكومة بالأمل في الشعب والسعي إلى تحريره.
نص المقابلة:
** لنبدأ بالموقف من الديمقراطية التي ينزع جل المفكرين الإسلاميين إلى الإيمان بها على علاتها العقدية اسمحوا لنا بداية أن نتساءل: أين مفكرو الإسلام من اتهام البعض لهم بعدم تجاوز الإشكالات التي رافقت بدايات التأسيس للتيارات الإسلامية؟
محمد بن المختار الشنقيطي: لقد حسمتْ كل الحركات الإسلامية السياسية موقفها من الديمقراطية، بتبني الديمقراطية، والاقتناع بأن الشرعية السياسية هي مفتاح الأداء السياسي الجيد والتراكم السياسي المتوازن الذي ينهض بالمجتمعات. وباستثناء التيار السلفي الذي لا يزال متناقضا في موقفه من الديمقراطية ـ إذ هو يقاوم الاستبداد عمليا ويسوِّغه نظريا ـ فإن هذا الأمر أصبح محسوما في الأدبيات الإسلامية. ولا أتفق مع من يقول إن للديمقراطية ’’علاَّت عقدية’’، فالديمقراطية ليست موقفا عقديا، وإنما هي صيغة إجرائية تسمح لنظام العقائد والقيم في المجتمع بالتعبير عن نفسه بحرية، وبتجسيد ذاته في قوانين وضوابط عملية.
والقيم والعقائد تختلف من مجتمع لآخر. فقد يصوت برلمان دولة أوربية لصالح قانون يبيح عمل قوم لوط، بينما يصوت برلمان دولة مسلمة على قانون يحرم ذالك، وتتم كلتا العمليتين بأسلوب ديمقراطي شفاف رغم تناقض النتائج. فنتيجة الديمقراطية في مجتمع مسلم ستأتي بأحكام الإسلام من دون ريب، ونتائجها في مجتمع غير مسلم ستأتي بغير ذلك، ولا يتوقع منها غير ذلك. فالمعركة من أجل الديمقراطية اليوم هي جزء من المعركة من أجل الحياة الإسلامية، والديمقراطية هي الطريق إلى الإسلام، وليست انحرافا عنه.
أما عن عجز بعض الإسلاميين في بعض الدول العربية عن تجاوز مرحلة التأسيس، فهذا صحيح، وهو من أسباب التباطؤ في تطور بعض الحركات الإسلامية. وخذ ـ مثلا ـ قضية العمل السري الذي كان جزءا من تراث الحركات الإسلامية في طور التأسيس، بحكم ظروف القمع التي ولدت فيها تلك الحركات. فالعمل السري لم يعد ضروريا في بعض الدول العربية.
لكن بعض الإسلاميين لا يملكون شجاعة العمل العلني، ومواجهة المجتمع في فضاء مفتوح يمحِّص الكفاءات، ويظهر الخلل وجوانب القصور في حركة التغيير الاجتماعي. بل يميل هؤلاء إلى العمل في الظل، والتحرك تحت جنح الظلام، لأن ذلك أستر للعيوب، وأضمن للابتعاد عن عين الرقيب المتربص من خارج الصف، وعين المحاسب النبيه من داخل الصف.
والعمل في الظلام من خصائص المستبد، كما لاحظ عبد الرحمن الكواكبي، فكتب منذ أكثر من مائة عام في كتابه (طبائع الاستبداد): ’’لو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواظر في غشاء الليل’’. وفي أجواء العمل السري يسهل على من لا كفاءة لهم أن يتشبثوا بالقيادة، ويسدوا منافذها أمام غيرهم، فحالة الطوارئ الذهنية والعملية التي تصاحب العمل السري هي أحسن مُعين لعديمي الكفاءة على بقائهم في أي منصب قيادي، ولمن تجاوزتهم حركة المجتمع للتشبث بما ليسوا له بأهل، حيث لا مجال للفرز الواضح أو للمدافعة العاصمة من الفساد.
والمحافظة على شرعية القيادة مع ظلمات العمل السري أمر عسير للغاية، فالشرعية والسرية أمران لا يجتمعان في الغالب الأعم، والاستبداد والسرية حليفان في الغالب الأعم. فكما تميل أنظمة الاستبداد بحكم طبيعتها الاستبدادية إلى السرية والتكتم، فإن الحركات السرية تميل بحكم طبيعتها السرية إلى الاستبداد. وقد سرتني كثيرا تصريحات بعض القادة الإسلاميين في موريتانيا مؤخرا، حينما أعلنوا تخلي الحركة الإسلامية في موريتانيا عن العمل السري، وانخراطها في العمل العام المفتوح
** ربما يواجه الإسلاميون تهمة استعجال الوصول إلى مقاليد الحكم، وأن غايتهم ومنتهى أملهم هو السلطة كلّها وعلى جميع مستوياتها، وعلاقتهم كانت قوية ـ في موريتانيا وعلى سبيل المثال للحصر ـ بالمحاولة الانقلابية الدامية التي قادها فرسان التغيير عام 2003، ثم إنهم هم أول من اعترف من أحزاب المعارضة بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أوصلت الجنرال محمد ولد عبد العزيز إلى السلطة؟
محمد بن المختار الشنقيطي: من الطبيعي أن تسعى كل حركة سياسية أو حزب سياسي إلى الوصول إلى السلطة، فهذا جزء من تعريف العمل السياسي. لكن الوصول إلى السلطة ليس ’’غاية ومنتهى أمل’’، وإنما هو وسيلة لبناء المجتمع. ومع ذلك فلا يبدو لي أن الحركة الإسلامية في موريتانيا تستعجل الوصول إلى السلطة، وإنما هي تسعى إلى أن تكون جزءا فاعلا في الفضاء السياسي، وأن تتمتع بالحرية الكاملة في إبلاغ رسالتها الفكرية والسياسية إلى الناس.
وربما يفسر هذا جزئيا اعتراف الحركة المبكر بسلطة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وقربها منه مقارنة مع بعض قوى المعارضة الأخرى. وذلك أن عزيز هو أول رئيس موريتاني يمنح الإسلاميين حقوقهم الدستورية في العمل السياسي والثقافي دون قيد أو شرط. كما تقدر الحركة له الجدَّ في محاربة الفساد، وهي سابقة جديرة بالتقدير من كل الموريتانيين، نظرا لما رأيناه خلال العقدين الماضيين من سلب ونهب هدّ أركان الدولة الموريتانية، وترك شعبنا في فقر مدقع رغم الثروات الهائلة في برنا وبحرنا.
أما دعم الحركة الإسلامية لمحاولة الانقلاب عام 2003، فقد كان جزءا من الثأر للمظالم التي ارتكبها ولد الطايع ضد أبناء الحركة وتعامله معهم بأسلوب التجريم والتشهير، وهو ما فعله ضد قطاعات عريضة من الشعب، بمن فيها جل الحركات والأحزاب السياسية، فلم يعدل معاوية في شيء مثل عدله في توزيع الظلم على الجميع. وبالمناسبة فإن أغلب القوى السياسية المعارضة لولد الطايع، دعمت فرسان التغيير، بمن في ذلك قادة أحزاب سياسية معروفة، ومترشحون سابقون للرئاسة، وحركيون يساريون. فلم تكن الحركة الإسلامية سوى جزء من هذه الفسيفساء التي جمعتها روح الثأر ضد نظام ولد الطايع الذي استعبد الأحرار، ونهب البلاد، وتحالف مع إسرائيل.
ومع ذلك، أنصح الإسلاميين في كل مكان بعدم القفز إلى السلطة بوسائل غير شرعية، حتى وإن مكنهم ميزان القوى الداخلي من ذلك. ويتعين هذا الأمر في الدول التي تعيش تحولا ديمقراطيا، ويتمتع فيها الإسلاميون بحقوقهم الدستورية في العمل السياسي. فالموقف السليم أخلاقيا وسياسيا في هذه الدول هو أن ترضى القوى الإسلامية بموقعها، جزءا من التطور السياسي السلمي نحو سلطة شرعية وفاعلة، حتى تنمو إلى حزب أغلبية يحكم بالقانون ويحكُمه القانون. وفي تجربة الحركة الإسلامية السودانية عبرة، فهي حركة استعجلت الثمرة، في ظروف تهديد وخوف، فاقتطفت الثمرة مريرة المذاق، وأساءت التصرف في المسؤولية التي تحمَّلتها افتئاتا على شعبها، وهدمت تراث نصف قرن من تاريخها، كان مفعما بالعمل التنظيمي والسياسي المبدع.
لقد كان انقلاب الإنقاذ في السودان آخر نجاح باهر للمنهج الحركي الذي انتهجه الإسلاميون السودانيون، لكنه وضعهم على عتبة أول فشل سياسي مدوٍّ في تاريخهم. وهكذا تحوَّل ذلك الاختراق العظيم لجهاز الدولة الذي نجح فيه الإسلاميون السودانيون، وفشل فيه غيرهم من الإلاميين في الدول العربية، إلى أكبر كارثة على حركة التغيير التي بشر بها قادة الحركة، وربَّوا عليها أجيالا من الإسلاميين داخل السودان وخارجه. لقد تمخض النجاح العظيم في منهج الحركة عن فشل عظيم في إدارة الدولة، وهنا تكمن المفارقة، وتظهر العبرة التي نحتاج إلى الاعتبار بها اليوم.
وتكمن العبرة هنا في أن التضحية بالشرعية السياسية لصالح أي قيمة أخرى هدم لأساس الاجتماع السياسي، واختلال في الموازين الأخلاقية والسياسية. وليست الحركة الإسلامية السودانية هي وحدها التي تستحق العتب على هذه النكسة في التطور السياسي السوداني، ولكن يتحمل ذلك أيضا أولئك الضباط المغامرون من قادة الجيش السوداني الذين هددوا الحكومة السودانية المنتخبة عام 89 بالتخلص من الإسلاميين أو مواجهة العواقب، في تهديد صريح بالانقلاب العسكري عليها وعلى الإسلاميين.
فالمشكلة في جوهرها ترجع إلى ضعف الثقة بين الفاعلين الاجتماعيين في أوطاننا، وتفريطهم في بناء قواعد سلمية لتداول السلطة وحل الخلاف. كان نيلسون مانديلا يقول مزدهيا وهو شاب يافع يقود الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي: ’’إن الحق والديناميت إلى جانبنا’’. وكان يقول: ’’إذا حرَمك أهل السلطة من الحرية، فإن طريقك إلى الحرية هو السلطة’’. لكن ذلك الحكيم الإفريقي أدرك ـ بعد أن عركتْه التجارب وأنضجتْه السنون ـ أن الحق يمكن أن ينتصر من دون الديناميت، وأن تحدي القوة الغاشمة بالحق الظاهر غير الملجلِج كفيل بتعريتها وهدّ أركانها في النهاية.
ويبدو أن الحركة الإسلامية في السودان نهجت نهج الزعيم الإفريقي الشاب، حينما قررت أن لا يستضعفها نظام قمعي أو يصادر مشروعها السياسي، كما استضعف غيرها من الحركات الإسلامية وصادر مشروعها بطلقة بندقية وتسطير بيان.. لكنها فرطت في الحكمة السياسية التي توصل إليها مانديلا في كهولته ونضجه، وعبر عنها في مذكراته المعنونة (طريقي الطويل نحن الحرية) بالقول: ’’الثورة ليست مجرد الضغط على الزناد، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف’’.
وعموما، أرى أن المستقبل في الدول العربية خصوصا، وفي العالم الإسلامي عموما، سيكون لمن يتبنون منهج ’’اللبرالية الإسلامية’’، التي تتمسك بقيم الإسلام دون إكراه، وتتشبث بحرية الفرد والمجتمع دون وصاية. كما أرى أن الحركات الإسلامية بحاجة إلى مراجعة رؤيتها السياسية في التغيير أخلاقيا واستراتيجيا، من رؤية محكومة بالخوف من السلطة والطمع فيها، إلى رؤية محكومة بالأمل في الشعب والسعي إلى تحريره. وهذا النهج هو الذي انتهجتْه القوى الإسلامية في تركيا، وقصرت فيه القوى الإسلامية في الدول العربية حتى الآن.
** آخرون يرون أن الصحوة الإسلامية بحضورها الثقافي والإعلامي والنقابي وتغلغلها القوى في العمل الاجتماعي تسعى لسدّ الفراغ الذي أحدثه تراجع المدّ اليساري، وإلى تقديم نفسها بديلاً سياسيّاً اجتماعياً عنه.. ما تعليقكم على هذا الطرح؟
محمد بن المختار الشنقيطي: أعتقد أن في هذا تبسيطا للظاهرة السياسية الإسلامية، وهي ظاهرة كانت ضاربة الجذور في تراث الأمة وتاريخها قبل وجود اليسار. فاليسار ليس أكثر من صفحة عابرة في تاريخ هذه الأمة، ظهر في عتمة التأثير الأجنبي، ثم انحسر بانحساره. بينما تعتبر الصحوة الإسلامية امتدادا لتاريخ طويل من حركات الإحياء والإصلاح. فليست الصحوة الإسلامية بديلا عن اليسار، بل هي امتداد ليقظة أمة تتقدم إلى مسرح التاريخ بعد ليل طويل من الانحطاط والاستعمار. ولست أقلل من شأن اليسار ودوره في حركات التحرر ومقارعة الاستبداد، لكني أرى أن الربط بينه وبين الصحوة الإسلامية ربط غير سديد بمنطق التحليل التاريخي.
المصدر : مجلة العصر