الشيخ راشد الغنوشي
التواصل الحضاري والديني والأخلاقي والإنساني أصلاً من أصول الإسلام
’’هل الدولة الإسلامية وهم؟’’
بهذا السؤال افتتحنا الحوار مع الشيخ راشد الغنوشي ’’ مؤسس حركة النهضة التونسية’’ الذي رحب صدره برغم البداية المستفزة، وأوضح أن الإسلام عقيدة ونظام للحياة وأن المطلوب من المسلم أن يتقي الله ما استطاع، وأن يعمل على إنفاذ شرائع الإسلام حسب ما يتيح له واقعه الخاص والعام من إمكانيات وفرص لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن همه في مكة إقامة الدولة أو تطبيق الشريعة، وإنما التعريف بعقائد الإسلام وجمع من استجاب له في جماعة تحيا بالإسلام وفق المتاح.
وهو ما ينعكس على مفهوم الدولة الإسلامية – والتي تعني باختصار - نظام سياسي اجتماعي تتحدد هويته من خلال الالتزام بمرجعية النص بوصفه المصدر الأعلى للتشريع، والالتزام بالشورى مصدرًا للشرعية، أي اعتبار الأمة مصدر شرعية الحكم والحاكم.ولا مجال في الدولة الإسلامية لسياسة تصادم الرأي العام: في إجماعه أو في أغلبه .وأوضح أن للشورى ضوابط أخلاقية ثابتة نصت عليها الشريعة - مثل أنه لا اجتهاد مع النص - تجعل الشورى تتحرك في دائرة أخلاقية إنسانية، وليس في دائرة مصلحية لمجموعة أو لقومية.
وتناول أيضاً فكرة التواصل الحضاري والديني والأخلاقي والإنساني وأنها تعتبر أصلاً من أصول الإسلام ومستقبل الإسلام اليوم هو أعظم من أن يتحكم فيه هذا الحدث أو ذاك، مهما عظم شأنه؛ لأنه كلمة الله الأخيرة.
وأوضح الدور التي أسهمت به الفضائيات في إحياء وتنشيط وحدة شعورية والذي يدل بأن المسلمين لا يزالون أمة واحدة، يملؤها شعور بالوحدة يدفعها إلى الارتقاء من مستوى الشعور إلى مستوى المصالح الإستراتيجية المشتركة.
* يطرح بعض المفكرين طرحا مفاده أن الدولة الإسلامية وهم لا يمكن للمسلمين أن يعيشوه، وأنه نتيجة تصورات لا تلقى مقومات من الواقع.. فما رأيكم بهذا؟
- هذا الرأي خاطئ ويأتي ضلاله إما من جهل بالإسلام، فهو ليس مجرد عقائد وشعائر معزولة عن الحياة، وإنما هو برنامج إلهي شامل لحياة الإنسان، فردا وجماعة، وذاك معنى من معاني التوحيد الإسلامي {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} ولو أن نبي الإسلام اكتفى بالإعلان أن رسالته لا تتعدى تغييرا لأفكار، وتعليما لشعائر، ثم ترك الناس ينظمون حياتهم: مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وسائر علائقهم وما يشتهون، ما لقي ما لقي من عنت ومقاومة، وما بحث عن أرض يقيم عليها مشروعه ضمن نظام دولة، كما فعل في المدينة، فكان عليه السلام النبي المرسل وقائد الدولة. وقد يصدر هذا الرأي الضال عن كيد دفين للإسلام تهميشًا للإسلام وصرفًا له عن أداء رسالته في إصلاح الحضارة البشرية: قيمًا وأنظمة حياتية، بعضها منصوص عليه صراحة في الكتاب والسنة، وبعضها ترك للعقل المسلم التقي أن يستنبطه من عموميات النصوص ومقاصدها وفق ضوابط الاجتهاد المعروفة.
ولقد حسبنا أن هذه الضلالة (المتمثلة في ادعاء خلو رسالة الإسلام من معاني السياسة والاقتصاد والنظم البشرية، وأنه مجرد نِحلة) قد فرغ من دحضها وتسفيهها ومواراتها التراب أئمةُ الإسلام، وحتى المنصفون من المستشرقين، وذلك منذ قرن، ولكن يبدو أن لأولئك خلفاء حريصين على أن تظل الجراثيم تتناسل إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* هل يمكن اعتبار إقامة الدولة الإسلامية هدفًا خياليًّا؟ ولماذا يجب علينا إعلان رغبتنا في بناء دولة إسلامية في الظرف الحالي؟
- فكرة الدولة الإسلامية ليست فكرة خيالية ولا اختراعا لهذا الفيلسوف أو ذاك، وإنما هي التعبير الاجتماعي عن عقيدة التوحيد، وهذه العقيدة وهذا التعبير الاجتماعي عنها ليسا بالأمر المستحدث حتى يتجادل الناس عنه نفيًا وإثباتًا؛ فهذه أمة أسستها عقيدة ونظمت العقيدة نشاطها الاجتماعي والحضاري، فضلا عن الفردي، ولا تزال تفعل ذلك منذ أربعة عشر قرنًا أبدعت فيها الأمة أعظم إنجازاتها الحضارية، وقادت العالم لعشر قرون.
فهل لجيل من الأمة أو لجيلين انقطع التسلسل التاريخي بينهم وبين هذا السياق الممتد، ولفَحتهم رياح فكرية وغزوات عسكرية، هل لهم أن يُعرضوا صفحًا عن كل هذا التاريخ وهذا التراث العظيم، وعن حقائق ينطق بها النص المؤسس لهذه الحضارة: كتابا وسنة، أنه عقيدة ونظام للحياة، بسبب جهل أو خضوع لموازين قوة قاهرة معادية؟! إنه ظلم لديننا ولحضارتنا ولأمتنا، ظلم للعلم وللحقيقة أن نقف مبهورين أمام النموذج العلماني الغربي وكأنه الحقيقة المطلقة والإمكان الحضاري الوحيد مع أنه لم يكن إلا امتدادًا لحضارتنا، ولم يدّع العارفون به وأهله المثالية له، بل هم لا يزالون يعملون فيه تقويمًا وتهذيبًا وتطويرًا في محاولة لتجاوز إشكالاته، بل أزماته - إن لم تكن كوارثه - التي تجاوزت ساحاته التي انطلق منها إلى العالم كله حيث تسود الحروب وتتصحر الحقول ويعم الفقر والمرض معظم البشرية لصالح قلة متبطرة لا ترعوي عن إتيان أي جريمة من أجل استبقاء هذه العلاقات الدولية الظالمة والمنذرة بشتى الكوارث.
وبدل أن نبحث في كنوز ديننا وتراثنا عما نسهم به في تطوير الحضارة المعاصرة نقف منبهرين أو جالدين لذاتنا. وقد تبلغ الذلة والخنوع ببعضنا إلى حد الضيق بهذا الدين أو ببعضه لمجرد أن فيه ما يخالف النموذج السائد فنندفع إلى ما يشبه البحث عن دين جديد نخترعه اختراعًا، ونقول: هذا هو الإسلام الذي ترضون عنه! فنفعل ما فعل الأحبار والرهبان من تبديل وتغيير للآيات عن مواضعها فيكون الإنسان بدل أن يعبد الله ويخضع له صانعًا لإلهه أسوة بما كان يفعل الجاهليون!!.
* ماذا نعني بالدولة الإسلامية في الفكر السياسي؟ وهل للدولة الإسلامية بداية ونهاية؟ ثم هذا الذي نرى عليه اليوم البلاد الإسلامية أين موقعه ضمن سياق الدولة الإسلامية..؟
- الدولة الإسلامية -باختصار- نظام سياسي اجتماعي تتحدد هويته من خلال الالتزام بمرجعية النص (من كتاب وسنة) بوصفه المصدر الأعلى للتشريع، والالتزام بالشورى مصدرًا للشرعية، أي اعتبار الأمة مصدر شرعية الحكم والحاكم. إذن فلا مجال في دولة إسلامية لتشريع يناقض النص، ولا مجال في الدولة الإسلامية لسياسة تصادم الرأي العام: في إجماعه أو في أغلبه، وهو ما يقتضي وضع آليات وترتيبات تجعل من إرادة الأمة الملتزمة بالشريعة سلطة حقيقية تمارس حقها -بل واجبها- في نصب الحاكم ومراقبته وتسديده وعزله.
أما حال الدول الإسلامية القائمة فبحسب قربها أو بعدها من هذا التصور، إن في مستوى التشريع أو في مستوى سلطة الأمة المعبر عنها في العصر الحديث خير تعبير بالديمقراطية، فكلما اقتربت الدولة من الشريعة ومن الديمقراطية يكون حظها من الإسلام، والعكس بالعكس.
* ما رأي فضيلة الشيخ راشد الغنوشي في اتفاق كبار المشايخ والعلماء في العراق، سنة وشيعة، على رفض تبني فكرة إقامة دولة إسلامية في العراق؟
- لم يبلغنا مثل هذا الاتفاق. وعلى افتراض حصوله فليس هو - بحال - تنازلاً عن جزء من الإسلام جوهريٍّ مما لا يحق لفرد ولا جماعة أن تأتيه؛ بقدر ما هو قراءة في الواقع وتنزيل النظرية عليه. فليس المسلم مدعوا إلى أن يطبق كل الإسلام في كل حال، وإنما مطلوب منه أن يتقي الله ما استطاع؛ إذ التكليف بشرط الوسع؛ فإذا قدر إخواننا أن جملة ظروفهم لا تسمح اليوم بتطبيق جزء من الإسلام فذلك من حقهم. ويبقى جهدهم موصولا لاستكمال تطبيق ما عجزوا عنه اليوم من أمر الله.
* هل تأويل إسلاميي تركيا للعلمانية وإثباتهم عدم التعارض بين الإسلام كدين والعلمانية كمبدأ سياسي.. هل هذان العاملان يعنيان تخلي أفضل تجارب الحكم الإسلامي عن مبدأ الدولة الإسلامية؟
لم يبلغنا عن إخواننا الأتراك تنظير يتصادم مع مبادئ الإسلام، وإنما هم يعملون وسعهم على إنفاذ ما استطاعوا وفق ظروفهم وذلك تكليفهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا عنه. وليس في هذا المنحى تخلٍّ ولا تفريط، وإنما هو تقدير للممكنات.
* سؤالي يدور حول موقف الإسلام من الديمقراطية، وكيفية تقديم الحركات الإسلامية الإسلام للغرب بعد أحداث 11 سبتمبر، وعن رؤيتك لمستقبل الإسلام من ناحية، ومستقبل الحركات الإسلامية من ناحية أخرى؟
- الإسلام دين. والديمقراطية جملة من الترتيبات تضمن أن القرار الذي يخص الجماعة لا يستبد به الفرد، وهذه الترتيبات - في عمومها - اجتهاد بشري هو أرقى ما وصل إليه الإنسان من ترتيب في هذا الشأن. ولأن الإسلام جاء بالشورى نظاما لحياة المسلمين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي أن كل ما يخص الجماعة ينبغي أن لا ينفرد به شخص أو مجموعة دونها، أو دون تفويض منها، وهو ما يفتح مجال اللقاء فسيحًا بين الشورى والديمقراطية. إلا أن للشورى ضوابط أخلاقية ثابتة نصت عليها الشريعة - مثل أنه لا اجتهاد مع النص - تجعل الشورى تتحرك في دائرة أخلاقية إنسانية، وليس في دائرة مصلحية لمجموعة أو لقومية، كما هي حال الديمقراطيات العلمانية التي تجعل مصلحة قومية محددة المقياس الأعلى والمتحكم الوحيد في القرار، فيكون احتلال العراق مثلا أو فلسطين ما دام قد اتُّخذ بشكل ديمقراطي من مؤسسات منتخبة مشروعًا أي ديمقراطيًّا. بينما تظل الشورى ملتزمة بضوابط أخلاقية إنسانية. أما عن مستقبل الإسلام فهو أعظم من أن يتحكم فيه هذا الحدث أو ذاك، مهما عظم شأنه؛ لأنه كلمة الله الأخيرة، رغم أن البادي للعيان حتى اليوم أن الحدث المذكور قدم خدمة كبيرة لكل المتربصين بالإسلام فضرب على قوس واحدة مؤسسات خيرية وحركات إسلامية ودولا وأفكارا وقيمًا ومؤسسات تعليمية، ولكن يقيننا أن هذا الدين متين، وأن كيد الله أعظم، وأن العاقبة للمتقين.
* هل في الدولة الإسلامية حقوق إنسان كالتي نراها في أوربا مثلا؟
- الأصل أن الإسلام جاء متممًا لمكارم الأخلاق، فما من خير وجده الإسلام إلا واستبقاه ونماه، وهو ما جعل فكرة التواصل الحضاري والديني والأخلاقي والإنساني أصلاً من أصول الإسلام. فعل ذلك مع النبوات فأوجب الإيمان بها دون تمييز، وفعل ذلك مع الإرث الحضاري السابق فاستوعبه، وحتى تراث الجاهلية لم يلقه جملة، بل التقط ما فيه من خير مثل الأنفة والشجاعة والمروءة والكرم. ورجال الإصلاح في عصورنا الحديثة إزاء حضارة الغرب انتهوا إلى فعل ذلك، فأقروا مبدأ ’’الاقتباس’’ - حسب تعبير خير الدين - عن حضارة الغرب. ولقد سبق للفيلسوف الأندلسي ابن رشد أن أصّل هذا المبدأ في رسالته المعروفة ’’فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال’’.
وما من شك في أن فكرة حقوق للإنسان مجردًا عن لونه ودينه وجنسه وثروته ومكانته، تلك التي أثمرها التنوير الغربي: فكرة مهمة جدًّا، وطموح إنساني عظيم، رغم أن البون لا يزال شاسعًا بين هذا المثال: أن تكون للناس جميعا حقوق متساوية، والواقع القائم على الحيف والظلم والتمييز. ولكن ذلك لا ينتقص - بحال - من قيمة الفكرة ذاتها فهي فكرة تقدمية بحق. ولا يسع الإسلام إزاءها إلا التعبير عن سعادته بها فقد كان خطابه إنسانيًّا يتجه إلى البشرية كلها بصفتها تلك: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا}، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. هذا بشكل عام. أما عندما نأتي للتفاصيل فإن هذه الفكرة الإنسانية السامية عندما تتنزل في واقع حضاري معين فإنها تصطبغ إلى حد أو آخر بصبغته، وتتخذ لها فيه بعض الخصوصيات التي تنسي الأصل أي الإنسانية الجامعة.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - مثلا - كسب بشري مهم كما قلنا، وتطور إنساني محمود في جملته، ويتساوق - في جملته - مع الخط العام لقيم الإسلام ومقاصده، بل وحتى تجربته التطبيقية الحضارية، ولكن ذلك لا يمنع أن تأتي التفاصيل مختلفة بين بيئة حضارية وأخرى. فمثلا في البيئة الغربية هنالك اتجاه عام اليوم إلى رفع كل الضوابط عن الممارسة الجنسية عدا ضابط الحرية الشخصية بما يجعل الاغتصاب فقط هو المحظور في هذه الممارسة، وما عدا ذلك من العلاقات فمباح باعتباره فرعًا من تصورهم لحقوق الإنسان الفرد. بينما لا يعتبر الإسلام هذا الضابط فقط، أي ضابط الحرية الشخصية، بل له تصور آخر للمجتمع يجعل الممارسة الجنسية فرعًا لحقوق الإنسان باعتباره عضوا في جماعة بشرية، هذه الممارسة هي أداة أساسية في بنيانها والمحافظة عليها، فمنع من هنا العبث بها.
* ما تقول في الخلافة على منهاج النبوة؟ هل يمكن أن تطبق في واقعنا المعاصر الآن، أم أنه حل بعيد المنال، خصوصًا أن هناك حركات إسلامية تعمل على تحقيق هذا الهدف؟
- إقامة الخلافة على منهاج النبوة وفق الوسع والاجتهاد هدف لكل المسلمين الواعين بدينهم، وهو ليس هدفًا خياليًّا؛ فالبشرية اليوم مدفوعةً بثورة تقنية الاتصال هي أقدر اليوم على التواصل من الأمس، فضلا عن أن ضرورات السياسة والاقتصاد والدفاع قد دفعت كثيرًا من الأمم إلى جمع صفها، ومن ثم فإن المسلمين -وإن تعددت أقطارهم ودولهم ولغاتهم- هناك ما يجمعهم في الدين والمصلحة وضرورات الحياة، ولِمَ تتوحد عشرات الأمم الغربية بعد تناحر طويل ولا يتوحد المسلمون؟!.
الفضائيات اليوم أسهمت أيما إسهام في إحياء وتنشيط وحدة شعورية بين المسلمين غير مسبوقة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي - على ما في هذا الرباط من وهن وشكلية - هو تلويح بأن المسلمين لا يزالون أمة واحدة، يملؤها شعور بالوحدة يدفعها إلى الارتقاء بهذه الوحدة من مستوى الشعور إلى مستوى المصالح الإستراتيجية المشتركة، وذلك بقطع النظر عن الأشكال والأسماء؛ فالمهم المقصد والمسميات.
الدولة الإسلامية في الغرب!
* هل من المنطقي أن تقوم الحركة الإسلامية بالغرب بالتكلم عن أو العمل لإقامة الدولة الإسلامية، أم أن هذا الأمر ليس من واجبات الوقت والتحدث عنه يعتبر من الحديث الذي لا ينبني عليه عمل؟
- قدمنا أن المسلم مطلوب منه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يعمل على إنفاذ شرائع الإسلام حسب ما يتيح له واقعه الخاص والعام من إمكانيات وفرص. تشهد على ذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن همه في مكة إقامة الدولة أو تطبيق الشريعة، وإنما التعريف بعقائد الإسلام وجمع من استجاب له في جماعة تحيا بالإسلام وفق المتاح، وكذا أصحابه عليه السلام الذين هاجروا إلى الحبشة لم يكن مقصدهم هناك إقامة الدولة الإسلامية، وإنما النجاة بأنفسهم والدعوة إلى الله بحسب الوسع، لكن حين توفرت ظروف مناسبة لتطبيق أوسع للإسلام في شكل دولة فعلوا ذلك في المدينة وظل هذا النهج الواقعي هو المتبع طيلة تاريخ الإسلام، حتى أن العالم الإسلامي المعاصر قد دخل معظمه في مسمى دار الإسلام بتدرج استغرق بعضه مئات السنين. لقد عاش المسلمون الأُوَل هناك أقلية ضمن أنظمة غير إسلامية تتوفر على أقدار من السماحة مثل إندونيسيا وماليزيا ومعظم دول أفريقيا التي تمثل جزءا من العالم الإسلامي اليوم، وهذه العملية لم تتوقف.
فطرح أي مطلب قبل أن تنضج الظروف المناسبة لتحقيقه ليس فيه شيء من الحكمة؛ بقدر ما هو معيق لتحقيق المطلب في المستقبل. مطلب الدولة الإسلامية في الغرب اليوم هو مطلب غير واقعي وبالتالي غير إسلامي.
(المصدر: موقع ون إسلام بتاريخ 20 أكتوبر 2010)
التواصل الحضاري والديني والأخلاقي والإنساني أصلاً من أصول الإسلام
’’هل الدولة الإسلامية وهم؟’’
بهذا السؤال افتتحنا الحوار مع الشيخ راشد الغنوشي ’’ مؤسس حركة النهضة التونسية’’ الذي رحب صدره برغم البداية المستفزة، وأوضح أن الإسلام عقيدة ونظام للحياة وأن المطلوب من المسلم أن يتقي الله ما استطاع، وأن يعمل على إنفاذ شرائع الإسلام حسب ما يتيح له واقعه الخاص والعام من إمكانيات وفرص لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن همه في مكة إقامة الدولة أو تطبيق الشريعة، وإنما التعريف بعقائد الإسلام وجمع من استجاب له في جماعة تحيا بالإسلام وفق المتاح.
وهو ما ينعكس على مفهوم الدولة الإسلامية – والتي تعني باختصار - نظام سياسي اجتماعي تتحدد هويته من خلال الالتزام بمرجعية النص بوصفه المصدر الأعلى للتشريع، والالتزام بالشورى مصدرًا للشرعية، أي اعتبار الأمة مصدر شرعية الحكم والحاكم.ولا مجال في الدولة الإسلامية لسياسة تصادم الرأي العام: في إجماعه أو في أغلبه .وأوضح أن للشورى ضوابط أخلاقية ثابتة نصت عليها الشريعة - مثل أنه لا اجتهاد مع النص - تجعل الشورى تتحرك في دائرة أخلاقية إنسانية، وليس في دائرة مصلحية لمجموعة أو لقومية.
وتناول أيضاً فكرة التواصل الحضاري والديني والأخلاقي والإنساني وأنها تعتبر أصلاً من أصول الإسلام ومستقبل الإسلام اليوم هو أعظم من أن يتحكم فيه هذا الحدث أو ذاك، مهما عظم شأنه؛ لأنه كلمة الله الأخيرة.
وأوضح الدور التي أسهمت به الفضائيات في إحياء وتنشيط وحدة شعورية والذي يدل بأن المسلمين لا يزالون أمة واحدة، يملؤها شعور بالوحدة يدفعها إلى الارتقاء من مستوى الشعور إلى مستوى المصالح الإستراتيجية المشتركة.
* يطرح بعض المفكرين طرحا مفاده أن الدولة الإسلامية وهم لا يمكن للمسلمين أن يعيشوه، وأنه نتيجة تصورات لا تلقى مقومات من الواقع.. فما رأيكم بهذا؟
- هذا الرأي خاطئ ويأتي ضلاله إما من جهل بالإسلام، فهو ليس مجرد عقائد وشعائر معزولة عن الحياة، وإنما هو برنامج إلهي شامل لحياة الإنسان، فردا وجماعة، وذاك معنى من معاني التوحيد الإسلامي {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} ولو أن نبي الإسلام اكتفى بالإعلان أن رسالته لا تتعدى تغييرا لأفكار، وتعليما لشعائر، ثم ترك الناس ينظمون حياتهم: مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وسائر علائقهم وما يشتهون، ما لقي ما لقي من عنت ومقاومة، وما بحث عن أرض يقيم عليها مشروعه ضمن نظام دولة، كما فعل في المدينة، فكان عليه السلام النبي المرسل وقائد الدولة. وقد يصدر هذا الرأي الضال عن كيد دفين للإسلام تهميشًا للإسلام وصرفًا له عن أداء رسالته في إصلاح الحضارة البشرية: قيمًا وأنظمة حياتية، بعضها منصوص عليه صراحة في الكتاب والسنة، وبعضها ترك للعقل المسلم التقي أن يستنبطه من عموميات النصوص ومقاصدها وفق ضوابط الاجتهاد المعروفة.
ولقد حسبنا أن هذه الضلالة (المتمثلة في ادعاء خلو رسالة الإسلام من معاني السياسة والاقتصاد والنظم البشرية، وأنه مجرد نِحلة) قد فرغ من دحضها وتسفيهها ومواراتها التراب أئمةُ الإسلام، وحتى المنصفون من المستشرقين، وذلك منذ قرن، ولكن يبدو أن لأولئك خلفاء حريصين على أن تظل الجراثيم تتناسل إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* هل يمكن اعتبار إقامة الدولة الإسلامية هدفًا خياليًّا؟ ولماذا يجب علينا إعلان رغبتنا في بناء دولة إسلامية في الظرف الحالي؟
- فكرة الدولة الإسلامية ليست فكرة خيالية ولا اختراعا لهذا الفيلسوف أو ذاك، وإنما هي التعبير الاجتماعي عن عقيدة التوحيد، وهذه العقيدة وهذا التعبير الاجتماعي عنها ليسا بالأمر المستحدث حتى يتجادل الناس عنه نفيًا وإثباتًا؛ فهذه أمة أسستها عقيدة ونظمت العقيدة نشاطها الاجتماعي والحضاري، فضلا عن الفردي، ولا تزال تفعل ذلك منذ أربعة عشر قرنًا أبدعت فيها الأمة أعظم إنجازاتها الحضارية، وقادت العالم لعشر قرون.
فهل لجيل من الأمة أو لجيلين انقطع التسلسل التاريخي بينهم وبين هذا السياق الممتد، ولفَحتهم رياح فكرية وغزوات عسكرية، هل لهم أن يُعرضوا صفحًا عن كل هذا التاريخ وهذا التراث العظيم، وعن حقائق ينطق بها النص المؤسس لهذه الحضارة: كتابا وسنة، أنه عقيدة ونظام للحياة، بسبب جهل أو خضوع لموازين قوة قاهرة معادية؟! إنه ظلم لديننا ولحضارتنا ولأمتنا، ظلم للعلم وللحقيقة أن نقف مبهورين أمام النموذج العلماني الغربي وكأنه الحقيقة المطلقة والإمكان الحضاري الوحيد مع أنه لم يكن إلا امتدادًا لحضارتنا، ولم يدّع العارفون به وأهله المثالية له، بل هم لا يزالون يعملون فيه تقويمًا وتهذيبًا وتطويرًا في محاولة لتجاوز إشكالاته، بل أزماته - إن لم تكن كوارثه - التي تجاوزت ساحاته التي انطلق منها إلى العالم كله حيث تسود الحروب وتتصحر الحقول ويعم الفقر والمرض معظم البشرية لصالح قلة متبطرة لا ترعوي عن إتيان أي جريمة من أجل استبقاء هذه العلاقات الدولية الظالمة والمنذرة بشتى الكوارث.
وبدل أن نبحث في كنوز ديننا وتراثنا عما نسهم به في تطوير الحضارة المعاصرة نقف منبهرين أو جالدين لذاتنا. وقد تبلغ الذلة والخنوع ببعضنا إلى حد الضيق بهذا الدين أو ببعضه لمجرد أن فيه ما يخالف النموذج السائد فنندفع إلى ما يشبه البحث عن دين جديد نخترعه اختراعًا، ونقول: هذا هو الإسلام الذي ترضون عنه! فنفعل ما فعل الأحبار والرهبان من تبديل وتغيير للآيات عن مواضعها فيكون الإنسان بدل أن يعبد الله ويخضع له صانعًا لإلهه أسوة بما كان يفعل الجاهليون!!.
* ماذا نعني بالدولة الإسلامية في الفكر السياسي؟ وهل للدولة الإسلامية بداية ونهاية؟ ثم هذا الذي نرى عليه اليوم البلاد الإسلامية أين موقعه ضمن سياق الدولة الإسلامية..؟
- الدولة الإسلامية -باختصار- نظام سياسي اجتماعي تتحدد هويته من خلال الالتزام بمرجعية النص (من كتاب وسنة) بوصفه المصدر الأعلى للتشريع، والالتزام بالشورى مصدرًا للشرعية، أي اعتبار الأمة مصدر شرعية الحكم والحاكم. إذن فلا مجال في دولة إسلامية لتشريع يناقض النص، ولا مجال في الدولة الإسلامية لسياسة تصادم الرأي العام: في إجماعه أو في أغلبه، وهو ما يقتضي وضع آليات وترتيبات تجعل من إرادة الأمة الملتزمة بالشريعة سلطة حقيقية تمارس حقها -بل واجبها- في نصب الحاكم ومراقبته وتسديده وعزله.
أما حال الدول الإسلامية القائمة فبحسب قربها أو بعدها من هذا التصور، إن في مستوى التشريع أو في مستوى سلطة الأمة المعبر عنها في العصر الحديث خير تعبير بالديمقراطية، فكلما اقتربت الدولة من الشريعة ومن الديمقراطية يكون حظها من الإسلام، والعكس بالعكس.
* ما رأي فضيلة الشيخ راشد الغنوشي في اتفاق كبار المشايخ والعلماء في العراق، سنة وشيعة، على رفض تبني فكرة إقامة دولة إسلامية في العراق؟
- لم يبلغنا مثل هذا الاتفاق. وعلى افتراض حصوله فليس هو - بحال - تنازلاً عن جزء من الإسلام جوهريٍّ مما لا يحق لفرد ولا جماعة أن تأتيه؛ بقدر ما هو قراءة في الواقع وتنزيل النظرية عليه. فليس المسلم مدعوا إلى أن يطبق كل الإسلام في كل حال، وإنما مطلوب منه أن يتقي الله ما استطاع؛ إذ التكليف بشرط الوسع؛ فإذا قدر إخواننا أن جملة ظروفهم لا تسمح اليوم بتطبيق جزء من الإسلام فذلك من حقهم. ويبقى جهدهم موصولا لاستكمال تطبيق ما عجزوا عنه اليوم من أمر الله.
* هل تأويل إسلاميي تركيا للعلمانية وإثباتهم عدم التعارض بين الإسلام كدين والعلمانية كمبدأ سياسي.. هل هذان العاملان يعنيان تخلي أفضل تجارب الحكم الإسلامي عن مبدأ الدولة الإسلامية؟
لم يبلغنا عن إخواننا الأتراك تنظير يتصادم مع مبادئ الإسلام، وإنما هم يعملون وسعهم على إنفاذ ما استطاعوا وفق ظروفهم وذلك تكليفهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا عنه. وليس في هذا المنحى تخلٍّ ولا تفريط، وإنما هو تقدير للممكنات.
* سؤالي يدور حول موقف الإسلام من الديمقراطية، وكيفية تقديم الحركات الإسلامية الإسلام للغرب بعد أحداث 11 سبتمبر، وعن رؤيتك لمستقبل الإسلام من ناحية، ومستقبل الحركات الإسلامية من ناحية أخرى؟
- الإسلام دين. والديمقراطية جملة من الترتيبات تضمن أن القرار الذي يخص الجماعة لا يستبد به الفرد، وهذه الترتيبات - في عمومها - اجتهاد بشري هو أرقى ما وصل إليه الإنسان من ترتيب في هذا الشأن. ولأن الإسلام جاء بالشورى نظاما لحياة المسلمين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي أن كل ما يخص الجماعة ينبغي أن لا ينفرد به شخص أو مجموعة دونها، أو دون تفويض منها، وهو ما يفتح مجال اللقاء فسيحًا بين الشورى والديمقراطية. إلا أن للشورى ضوابط أخلاقية ثابتة نصت عليها الشريعة - مثل أنه لا اجتهاد مع النص - تجعل الشورى تتحرك في دائرة أخلاقية إنسانية، وليس في دائرة مصلحية لمجموعة أو لقومية، كما هي حال الديمقراطيات العلمانية التي تجعل مصلحة قومية محددة المقياس الأعلى والمتحكم الوحيد في القرار، فيكون احتلال العراق مثلا أو فلسطين ما دام قد اتُّخذ بشكل ديمقراطي من مؤسسات منتخبة مشروعًا أي ديمقراطيًّا. بينما تظل الشورى ملتزمة بضوابط أخلاقية إنسانية. أما عن مستقبل الإسلام فهو أعظم من أن يتحكم فيه هذا الحدث أو ذاك، مهما عظم شأنه؛ لأنه كلمة الله الأخيرة، رغم أن البادي للعيان حتى اليوم أن الحدث المذكور قدم خدمة كبيرة لكل المتربصين بالإسلام فضرب على قوس واحدة مؤسسات خيرية وحركات إسلامية ودولا وأفكارا وقيمًا ومؤسسات تعليمية، ولكن يقيننا أن هذا الدين متين، وأن كيد الله أعظم، وأن العاقبة للمتقين.
* هل في الدولة الإسلامية حقوق إنسان كالتي نراها في أوربا مثلا؟
- الأصل أن الإسلام جاء متممًا لمكارم الأخلاق، فما من خير وجده الإسلام إلا واستبقاه ونماه، وهو ما جعل فكرة التواصل الحضاري والديني والأخلاقي والإنساني أصلاً من أصول الإسلام. فعل ذلك مع النبوات فأوجب الإيمان بها دون تمييز، وفعل ذلك مع الإرث الحضاري السابق فاستوعبه، وحتى تراث الجاهلية لم يلقه جملة، بل التقط ما فيه من خير مثل الأنفة والشجاعة والمروءة والكرم. ورجال الإصلاح في عصورنا الحديثة إزاء حضارة الغرب انتهوا إلى فعل ذلك، فأقروا مبدأ ’’الاقتباس’’ - حسب تعبير خير الدين - عن حضارة الغرب. ولقد سبق للفيلسوف الأندلسي ابن رشد أن أصّل هذا المبدأ في رسالته المعروفة ’’فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال’’.
وما من شك في أن فكرة حقوق للإنسان مجردًا عن لونه ودينه وجنسه وثروته ومكانته، تلك التي أثمرها التنوير الغربي: فكرة مهمة جدًّا، وطموح إنساني عظيم، رغم أن البون لا يزال شاسعًا بين هذا المثال: أن تكون للناس جميعا حقوق متساوية، والواقع القائم على الحيف والظلم والتمييز. ولكن ذلك لا ينتقص - بحال - من قيمة الفكرة ذاتها فهي فكرة تقدمية بحق. ولا يسع الإسلام إزاءها إلا التعبير عن سعادته بها فقد كان خطابه إنسانيًّا يتجه إلى البشرية كلها بصفتها تلك: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا}، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. هذا بشكل عام. أما عندما نأتي للتفاصيل فإن هذه الفكرة الإنسانية السامية عندما تتنزل في واقع حضاري معين فإنها تصطبغ إلى حد أو آخر بصبغته، وتتخذ لها فيه بعض الخصوصيات التي تنسي الأصل أي الإنسانية الجامعة.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - مثلا - كسب بشري مهم كما قلنا، وتطور إنساني محمود في جملته، ويتساوق - في جملته - مع الخط العام لقيم الإسلام ومقاصده، بل وحتى تجربته التطبيقية الحضارية، ولكن ذلك لا يمنع أن تأتي التفاصيل مختلفة بين بيئة حضارية وأخرى. فمثلا في البيئة الغربية هنالك اتجاه عام اليوم إلى رفع كل الضوابط عن الممارسة الجنسية عدا ضابط الحرية الشخصية بما يجعل الاغتصاب فقط هو المحظور في هذه الممارسة، وما عدا ذلك من العلاقات فمباح باعتباره فرعًا من تصورهم لحقوق الإنسان الفرد. بينما لا يعتبر الإسلام هذا الضابط فقط، أي ضابط الحرية الشخصية، بل له تصور آخر للمجتمع يجعل الممارسة الجنسية فرعًا لحقوق الإنسان باعتباره عضوا في جماعة بشرية، هذه الممارسة هي أداة أساسية في بنيانها والمحافظة عليها، فمنع من هنا العبث بها.
* ما تقول في الخلافة على منهاج النبوة؟ هل يمكن أن تطبق في واقعنا المعاصر الآن، أم أنه حل بعيد المنال، خصوصًا أن هناك حركات إسلامية تعمل على تحقيق هذا الهدف؟
- إقامة الخلافة على منهاج النبوة وفق الوسع والاجتهاد هدف لكل المسلمين الواعين بدينهم، وهو ليس هدفًا خياليًّا؛ فالبشرية اليوم مدفوعةً بثورة تقنية الاتصال هي أقدر اليوم على التواصل من الأمس، فضلا عن أن ضرورات السياسة والاقتصاد والدفاع قد دفعت كثيرًا من الأمم إلى جمع صفها، ومن ثم فإن المسلمين -وإن تعددت أقطارهم ودولهم ولغاتهم- هناك ما يجمعهم في الدين والمصلحة وضرورات الحياة، ولِمَ تتوحد عشرات الأمم الغربية بعد تناحر طويل ولا يتوحد المسلمون؟!.
الفضائيات اليوم أسهمت أيما إسهام في إحياء وتنشيط وحدة شعورية بين المسلمين غير مسبوقة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي - على ما في هذا الرباط من وهن وشكلية - هو تلويح بأن المسلمين لا يزالون أمة واحدة، يملؤها شعور بالوحدة يدفعها إلى الارتقاء بهذه الوحدة من مستوى الشعور إلى مستوى المصالح الإستراتيجية المشتركة، وذلك بقطع النظر عن الأشكال والأسماء؛ فالمهم المقصد والمسميات.
الدولة الإسلامية في الغرب!
* هل من المنطقي أن تقوم الحركة الإسلامية بالغرب بالتكلم عن أو العمل لإقامة الدولة الإسلامية، أم أن هذا الأمر ليس من واجبات الوقت والتحدث عنه يعتبر من الحديث الذي لا ينبني عليه عمل؟
- قدمنا أن المسلم مطلوب منه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يعمل على إنفاذ شرائع الإسلام حسب ما يتيح له واقعه الخاص والعام من إمكانيات وفرص. تشهد على ذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن همه في مكة إقامة الدولة أو تطبيق الشريعة، وإنما التعريف بعقائد الإسلام وجمع من استجاب له في جماعة تحيا بالإسلام وفق المتاح، وكذا أصحابه عليه السلام الذين هاجروا إلى الحبشة لم يكن مقصدهم هناك إقامة الدولة الإسلامية، وإنما النجاة بأنفسهم والدعوة إلى الله بحسب الوسع، لكن حين توفرت ظروف مناسبة لتطبيق أوسع للإسلام في شكل دولة فعلوا ذلك في المدينة وظل هذا النهج الواقعي هو المتبع طيلة تاريخ الإسلام، حتى أن العالم الإسلامي المعاصر قد دخل معظمه في مسمى دار الإسلام بتدرج استغرق بعضه مئات السنين. لقد عاش المسلمون الأُوَل هناك أقلية ضمن أنظمة غير إسلامية تتوفر على أقدار من السماحة مثل إندونيسيا وماليزيا ومعظم دول أفريقيا التي تمثل جزءا من العالم الإسلامي اليوم، وهذه العملية لم تتوقف.
فطرح أي مطلب قبل أن تنضج الظروف المناسبة لتحقيقه ليس فيه شيء من الحكمة؛ بقدر ما هو معيق لتحقيق المطلب في المستقبل. مطلب الدولة الإسلامية في الغرب اليوم هو مطلب غير واقعي وبالتالي غير إسلامي.
(المصدر: موقع ون إسلام بتاريخ 20 أكتوبر 2010)