دين الإسلام هو الفطرة
د. محمد العبدة
في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء». ثم قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: (فطرة اللَّـه التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق اللَّـه).
وفي صحيح مسلم، عن عياض رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول اللَّـه تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».
الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، كما في صحيح مسلم من رواية الأعمش «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة»، وفي رواية أبي معاوية عنه: «إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه»، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: (ألست بربكم، قالوا: بلى)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه وينصرانه» يعني أنهم يغيرون الفطرة، والدليل أنه شبّه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها، ثم تجدع بعد ذلك، فالعيب حادث طارئ.
والإشارة إلى الولادة على الفطرة يعم جميع الناس، وحديث عياض صريح في ذلك، أن اللَّـه سبحانه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك. قال المفسر ابن عطية: «الفطرة هي الهيئة التي في نفس الإنسان، التي هي ُمعدة ليستدل بها على ربه»، أي أنها السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة.
وفي تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللَّـه التي فطر الناس عليها) قال العلامة ابن عاشور: «أي فأقم وجهك للدين الحنيف الفطرة، فالفطرة هنا جملة الدين، وما فُطر وخُلق عليه الإنسان ظاهرًا وباطنًا، أي جسدًا وعقلاً، فسير الإنسان على رجليه فطرة جسدية، ومحاولة مشيه على اليدين خلاف الفطرة، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه خلاف الفطرة، ومعنى وصف الإسلام بأنه الفطرة أن الأصول التي في الإسلام هي من الفطرة، أو أن الفطرة تهتدي إلى أصوله وشرائعه»([1]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على حديث «كل مولود يولد على الفطرة»: «ونحن إذا قلنا أنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفًا، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين، فإن اللَّـه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، ولمعرفته ومحبته، ومن ظن أن (البشر) خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، فهذا القول فاسد؛ لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير، فكان ينبغي أن يقال: يُسلّمانه ويهودانه..»([2]).
وابن تيمية هنا يرد على الذين ينكرون هذه الفطرة المركوزة في الإنسان، والتي تدعوه للإقرار بوجود اللَّـه، وأن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، والإنسان ليس بحاجة إلى مقدمات علم الكلام وآراء المعتزلة ليؤمن باللَّـه.
* فوائد من الحديث:
بما أن الفطرة هي الحالة التي خلق عليها النوع الإنساني، فهي صالحة لتقبل الحق والخير، وهي صالحة لصدور الفضائل الإنسانية، وإنما بعثت الرسل مُذكِّرين ومعلمين لأصحاب الفطر السليمة، ومنذرين ومقيمين للحجة على الذين فسدت فطرتهم بسبب الأهواء والجهل والبيئة المنحرفة التي تحيط بهم (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين).
2- بما أن معرفة الخالق هي المطلب الأعظم، فقد يسر اللَّـه ذلك على الإنسان بما أودع في فطرته من الإقرار بوجوده ووحدانيته، ولذلك قالت الرسل لأقوامهم: (أفي اللَّـه شك)، «فنحن لا نريد أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، ولكن نريدها عقيدة لها فاعلية ولها قوة إيجابية»([3]).
3- من مقاصد الشريعة الحفاظ على الفطرة وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها، «فالزواج وإرضاع الطفل من الفطرة، وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة، والنفور من الشدة والإعنات من الفطرة، وعلى العلماء أن يسايروا هذا الوصف الجامع، ويجعلوه رائدهم في إجراء الأحكام، ومنها الاعتدال والسماحة في الأمور، قال الإمام مالك: دين اللَّـه يسر، وهذا من استقرائه للشريعة»([4]).
4- بما أن الإسلام هو آخر الرسالات، وأنه دين عام لسائر البشر، فقد جعله اللَّـه سبحانه مساوقًا للفطرة، فلا يمكن جمع البشر، وهم المختلفون في العوائد والمشارب، جمعًا عمليًّا، ما لم يرتكز هذا الاجتماع على شيء موجود في سائر النفوس، وهذا مما يسهل الدعوة إلى اللَّـه ونشر الإسلام بين الناس، فلم يخلق الكائن البشري لمجرد الإنتاج والاستهلاك، فكما أن لنا حواس نرى بها ونسمع فكذلك هيَّأ اللَّـه سبحانه الفطرة لندرك الأشياء والحقائق، «وقد أحس الإنسان بالحاجة إلى العبادة في كل العصور، وفي كل الأقطار، فالعبادة تكاد تكون عنده ميلاً طبيعيًّا»([5]).
أليس هذا من الفطرة، ولكن هذا العالم لم يعبر عنها، لأنه لم يطلع على الإسلام بالشكل الكافي.
([1]) الطاهر بن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام/ 16.
(2) درء تعارض العقل والنقل 8/361.
(3) مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي/55.
(4) ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام/21.
(5) ألِكسَس كاريل: تأملات في سلوك الإنسان/
د. محمد العبدة
في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء». ثم قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: (فطرة اللَّـه التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق اللَّـه).
وفي صحيح مسلم، عن عياض رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول اللَّـه تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».
الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، كما في صحيح مسلم من رواية الأعمش «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة»، وفي رواية أبي معاوية عنه: «إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه»، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: (ألست بربكم، قالوا: بلى)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه وينصرانه» يعني أنهم يغيرون الفطرة، والدليل أنه شبّه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها، ثم تجدع بعد ذلك، فالعيب حادث طارئ.
والإشارة إلى الولادة على الفطرة يعم جميع الناس، وحديث عياض صريح في ذلك، أن اللَّـه سبحانه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك. قال المفسر ابن عطية: «الفطرة هي الهيئة التي في نفس الإنسان، التي هي ُمعدة ليستدل بها على ربه»، أي أنها السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة.
وفي تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللَّـه التي فطر الناس عليها) قال العلامة ابن عاشور: «أي فأقم وجهك للدين الحنيف الفطرة، فالفطرة هنا جملة الدين، وما فُطر وخُلق عليه الإنسان ظاهرًا وباطنًا، أي جسدًا وعقلاً، فسير الإنسان على رجليه فطرة جسدية، ومحاولة مشيه على اليدين خلاف الفطرة، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه خلاف الفطرة، ومعنى وصف الإسلام بأنه الفطرة أن الأصول التي في الإسلام هي من الفطرة، أو أن الفطرة تهتدي إلى أصوله وشرائعه»([1]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على حديث «كل مولود يولد على الفطرة»: «ونحن إذا قلنا أنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفًا، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين، فإن اللَّـه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، ولمعرفته ومحبته، ومن ظن أن (البشر) خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، فهذا القول فاسد؛ لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير، فكان ينبغي أن يقال: يُسلّمانه ويهودانه..»([2]).
وابن تيمية هنا يرد على الذين ينكرون هذه الفطرة المركوزة في الإنسان، والتي تدعوه للإقرار بوجود اللَّـه، وأن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، والإنسان ليس بحاجة إلى مقدمات علم الكلام وآراء المعتزلة ليؤمن باللَّـه.
* فوائد من الحديث:
بما أن الفطرة هي الحالة التي خلق عليها النوع الإنساني، فهي صالحة لتقبل الحق والخير، وهي صالحة لصدور الفضائل الإنسانية، وإنما بعثت الرسل مُذكِّرين ومعلمين لأصحاب الفطر السليمة، ومنذرين ومقيمين للحجة على الذين فسدت فطرتهم بسبب الأهواء والجهل والبيئة المنحرفة التي تحيط بهم (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين).
2- بما أن معرفة الخالق هي المطلب الأعظم، فقد يسر اللَّـه ذلك على الإنسان بما أودع في فطرته من الإقرار بوجوده ووحدانيته، ولذلك قالت الرسل لأقوامهم: (أفي اللَّـه شك)، «فنحن لا نريد أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، ولكن نريدها عقيدة لها فاعلية ولها قوة إيجابية»([3]).
3- من مقاصد الشريعة الحفاظ على الفطرة وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها، «فالزواج وإرضاع الطفل من الفطرة، وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة، والنفور من الشدة والإعنات من الفطرة، وعلى العلماء أن يسايروا هذا الوصف الجامع، ويجعلوه رائدهم في إجراء الأحكام، ومنها الاعتدال والسماحة في الأمور، قال الإمام مالك: دين اللَّـه يسر، وهذا من استقرائه للشريعة»([4]).
4- بما أن الإسلام هو آخر الرسالات، وأنه دين عام لسائر البشر، فقد جعله اللَّـه سبحانه مساوقًا للفطرة، فلا يمكن جمع البشر، وهم المختلفون في العوائد والمشارب، جمعًا عمليًّا، ما لم يرتكز هذا الاجتماع على شيء موجود في سائر النفوس، وهذا مما يسهل الدعوة إلى اللَّـه ونشر الإسلام بين الناس، فلم يخلق الكائن البشري لمجرد الإنتاج والاستهلاك، فكما أن لنا حواس نرى بها ونسمع فكذلك هيَّأ اللَّـه سبحانه الفطرة لندرك الأشياء والحقائق، «وقد أحس الإنسان بالحاجة إلى العبادة في كل العصور، وفي كل الأقطار، فالعبادة تكاد تكون عنده ميلاً طبيعيًّا»([5]).
أليس هذا من الفطرة، ولكن هذا العالم لم يعبر عنها، لأنه لم يطلع على الإسلام بالشكل الكافي.
([1]) الطاهر بن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام/ 16.
(2) درء تعارض العقل والنقل 8/361.
(3) مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي/55.
(4) ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام/21.
(5) ألِكسَس كاريل: تأملات في سلوك الإنسان/