مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
لا الأصوليون.. ولا العرب مصدر التوتر في آسيا الوسطى
هويدي 1-10-2000

أدعو إلى الحذر في قراءة الأخبار القادمة من موسكو بوجه أخص، حول «الخطر الاسلامي» الذي يهدد استقرار الاتحاد الروسي ومعه دول آسيا الوسطى. ذلك أن التصريحات الرسمية الروسية والتقارير الصحفية القادمة من هناك دأبت خلال الأشهر الأخيرة على الترويج لمقولتين: الأولى أن المجموعات الأصولية الارهابية الاسلامية تتحرك لاسقاط أنظمة المنطقة بهدف تطبيق مشروعها الذي يستهدف تطبيق الشريعة واقامة الدولة الاسلامية.
والثانية ان تلك المجموعات يقودها ارهابيون عرب من الذين تدربوا وحاربوا في أفغانستان والبوسنة.
ومن أسف أن هذا البث ينقل كما هو في الصحافة العربية، وأحياناً يبرز في ترحيب وحفاوة ظاهرين، ربما لأنه يلقى هوى لدى بعض الدوائر في بلادنا، من تلك المعنية بالتخويف من الخطر الاسلامي أياً كان مصدره، لخدمة سياسات أو تصفية حسابات داخلية.
في تقرير أخير نشرته احدى الصحف العربية الكبرى حول الأوضاع في آسيا الوسطى تركيز على أن الصراع في تلك المناطق هو بين العلمانيين والأصوليين المتطرفين الاسلاميين. وكلام عن أن المشكلة تكمن في أن أولئك المتطرفين لهم «تطلعاتهم المستقبلية التي تهدد بنسف الاستقرار في المنطقة كلياً» . وأن روسيا غير مستعدة لاحتمال انفلات الأمور في حزامها الأمني، خصوصاً أن أولئك المتطرفين «يسعون إلى تأسيس سلطة اسلامية تتحالف مع حكومة طالبان في أفغانستان التي تقدم لهم الملاذ والعون». تتكرر مثل هذه الاشارات في الرسائل والتقارير الصحفية بين الحين والآخر، بينما تمطرنا وكالات الأنباء الروسية بأخبار يومية عن تسلل للارهابيين هناك. وملاحقة لهم بالطيران من جانب السلطات المختصة هناك، وعن مشاورات بين وزراء الدفاع في الدول المعنية لتأمين حدودها وملاحقة المتسللين، وعن صفقات تعقدها موسكو مع «الدول المهددة». إلخ.
ولأنني عائد لتوي من آسيا الوسطى، فأزعم أن تلك الأخبار فيها قدر كبير من الافتعال والتشويه وسوء القصد وسأضرب ـ مثلاً بما سمعت ورأيت في جمهورية قرغيزيا القريبة من حدود الصين، وذات الأهمية الاستراتيجية الخاصة، نظراً لأنها متوسط جمهوريات عدة ـ إلى جانب مجاورتها للصين ـ منها أوزبكتسان وكازاخستان وطاجكستان المتاخمة لأفغانستان.
قبل أن أسافر إلى العاصمة القرغيزية «بشكيك»، كانت الأخبار تترى عن وجود «ارهابيين» متسللين من طاجكستان في محافظة بوتكين الجنوبية، التي تعد احدى نقاط التماس مع أوزبكستان. وان أولئك الارهابيين أصبحوا على بعد 80 كيلو متراً من العاصمة الأوزبكية طشقند. ولذلك فانهم قمعوا بشدة، ولاحقتهم الطائرات التي أبادت عشرات منهم. بل انني حينما وصلت إلى بشكيك وجدت الصحف تتحدث عن خطر أولئك الارهابيين والجهود المبذولة لتشتيت شملهم وسحقهم.
غير أنني حين اختلطت بالمثقفين وغيرهم من العارفين بما يجري في البلاد، وجدت الصورة مختلفة تماماً ـ فهناك عدد من الناس جاءوا من طاجكستان بالفعل ووصلوا إلى محافظة بوشكين. وهؤلاء ليس بينهم عربي واحد، والصحف تتحدث عن أن عددهم 60 أو 80 شخصاً، لكن المتواتر أنهم حوالي ثلاثة آلاف. وهم ليسوا أصوليين ارهابيين ولا متسللين، ولكنهم أوزبكيون، ممن تعرضوا للاضطهاد والقمع والطرد من بلادهم. وقد اتبعت معهم حكومة طشقند سياسة الاستئصال، في حملتها ضد المعارضين السياسيين، صحيح ان بعض هؤلاء من ذوى الانتماء الاسلامي، وقد تعرضوا للاستئصال لهذا السبب، لكن فيهم نسبة غير قليلة من عناصر المعارضة. وليس صحيحاً أن المشكلة في أوزبكستان أو في غيرها من جمهوريات آسيا الوسطى هي بين علمانيين واسلاميين، ولكنها في حقيقة الأمر صراع بين عناصر الأنظمة الشيوعية الذين دأبوا على احتكار السلطة وقمع الجماهير بمختلف الوسائل، وبين العناصر الوطنية والديمقراطية والاسلامية. الأولون يريدون أن يواصلوا سياسة الهيمنة والقمع، والآخرون يدافعون عن هويتهم واستقلالهم وحقهم في العيش في ظل مجتمعات اسلامية وديمقراطية .
والذين طردوا من أوزبكستان هم من ضحايا القمع وسياسة الاستئصال، وقد اضطروا للجوء إلى الجمهوريات المجاورة، ثم أرادوا العودة مرة أخرى إلى وطنهم. ومنهم من انتظم في تجمعات مسلحة، وعاد لكي يقاوم السلطة أو يصفي حسابه معها.
ليس عندي دفاع أو تبرير من أي نوع عن أي فرد أو جماعة تشهر السلاح في وجه حكومتها خصوصاً إذا كانت شرعية. لكني أنقل ماسمعت لكي نفهم الذي يجري حتى وان لم نوافق عليه، ولكي ندرك أن العنف يولد العنف، وأن القهر أو القمع هو ارهاب تمارسه السلطة، كثيراً مايرد عليه بارهاب مماثل من جانب بعض الجماعات الأمر الذي يغرق البلاد في دوامة شريرة من الاضطراب والتوتر لا تكاد تعرف لها نهاية، لكن تداعياتها بائسة في كل الأحوال.
لا يغيبن عن البال هنا أن أوزبكستان التي يتحدث رئيسها اسلام كريموف دائماً عن خطر الارهاب الاسلامي وتهديداته باسقاط أنظمة وسط آسيا، هي ذاتها التي جرت فيها انتخابات رئاسية مؤخراً، وقدم أحد الأشخاص لكي ينافس كريموف على المنصب، وفي اليوم الذي تم فيه التصويت أعلن المرشح المنافس أنه أعطى صوته «لخصمه» اسلام كريموف، في نادرة لا أعرف لها مثيلاً في تاريخ الممارسات الديمقراطية. لكنها كاشفة ودالة في ذات الوقت عن طبيعة النظام القائم هناك.
عدد المعتقلين في أوزبكستان يقدر بخمسين ألف شخص. وفي التقرير الذي أعدته منظمة «ميموريال» الروسية المعنية بحقوق الانسان عن أوضاع آسيا الوسطى في عام 99م، كان نصيب أوزبكستان وحدها 91 صفحة، بينما التقرير كله جاء في 200 صفحة، الأمر الذي يصور فداحة الانتهاكات هناك. لذلك فان غرسا من هذا القبيل لابد أن يؤتي ثماراً تتراوح بين التمرد والشوك.
لماذا تبالغ التصريحات الرسمية والأبواق الروسية المعبرة عنها في تصوير ما نسميه بالخط الأصولي الاسلامي مع التلويح بالدور العربي فيه؟ (للعلم: قررت الحكومة الأوزبكية طرد المنظمات التركية والعربية التي عملت بها، وأبقت على منظمة أو اثنتين في حضور رمزي مقيد الحركة وتحت رقابة صارمة).
هناك أسباب عدة تفسر ذلك المسلك من جانب موسكو في مقدمتها:
* ان السلطات الروسية تواجه مشكلة في شيشينيا، وهذه المشكلة لها صداها السلبي في مجتمعات المسلمين الذين يعيشون داخل الاتحاد الروسي (20 مليوناً)، وهوية المسلمين وحقوقهم في المساواة والاستقلال هو جوهر تلك المشكلة. ولذلك فانه يهمها أن تصرف الانتباه عن هذا الجوهر، بالادعاء بأن هناك تطرفاً اسلامياً خطراً يهدد البلاد، وان هذا الخطر ليس ناشئاً عن أية أوضاع داخلية، ولكنه قادم من الخارج، ومن العرب تحديداً.
بذات القدر فان القوى المهيمنة في جمهوريات آسيا الوسطى ، وكلها من بقايا المرحلة الشيوعية كما هو معلوم، يريحها هذا الخطاب ويحقق لها مصالحها، لأنها بدورها لا تريد أن تصور الاضطرابات التي تحدث فيها على أن لها أسباباً داخلية مرتبطة برغبة الناس في التغيير ومطالبة بعض القوى السياسية بالمشاركة ورفضها للسياسات الاستبدادية. الأمر الذي يجعل أفضل مخرج لها من ذلك المأزق متمثلاً في التهويل بالخطر الاسلامي المستورد من الخارج.
* يهم موسكو أن تروج وتلح على مقولة الخطر الاسلامي الذي يهدد آسيا الوسطى، وأن تتبنى مقولات أنظمة تلك الجمهوريات بهذا الصدد، لأن وجود ذلك الخطر واستمراره هو الذي يبرر التواجد العسكري الروسي في آسيا الوسطى. إذ يظل مطلوباًَ للدفاع عن أمن جمهوريات تلك المنطقة طبقاً لمعاهدة الأمن المشترك الجماعي المعقودة بين دول رابطة دول الكومنولث المستقلة، وللدفاع عن ظهر الاتحاد الروسي وحزامه الأمني في الوقت ذاته.
* درجة من التوتر في آسيا الوسطى تحدث استنفاراً وتعبئة عسكرية، إلى جانب الاستعانة بعضلات الشقيق الروسي الكبير. ثم انها تدفع جمهوريات آسيا الوسطى إلى الاهتمام بتسليح قواتها العسكرية، الأمر الذي ترحب به موسكو لا ريب، لتشغيل مصانع السلاح فيها والحصول على العملات الصعبة الشحيحة عندها. وليس من شك أن موسكو كانت سعيد للغاية حين أبرمت مؤخراً صفقة سلاح بقيمة 30 مليون دولار مع حكومة أوزبكستان. وقيل في سياق الخبر الذي نشر حول الصفقة أن حكومة طشقند لجأت إليها «لمواجهة المقاتلين الاسلاميين الذين تدربوا في أفغانستان» ـ (الأهرام القاهرية 9/7).
* لانستطيع أن نلغي دور قوى الضغط الموالية لاسرائيل والمهيمنة على أهم وسائل الاعلام في موسكو، إذ يهم هذه القوى التهويل بالخطر الاسلامي (كما حدث في العالم الغربي)، خصوصاً إذا أدى إلى مثل تلك النتيجة التي حدثت في أوزبكستان وأسفرت عن طرد المنظمات العربية والتركية من هناك. ذلك أن كل انحسار أو تراجع اسلامي أو عربي، هو فضاء تكسب وترتع فيه اسرائىل، المتواجدة بقوة في تلك الجمهوريات، وسفاراتها وخطوط طيرانها معها نشطة في مد الجسور بين الجانبين.
انه لأمر محزن حقاً أن يستسلم اعلامنا العربي للدعايات التي تشوه بل تقلب الحقائق في آسيا الوسطى، منتهزة فرصة غيابنا عن تلك المناطق (هل الغيبوبة وصف أكثر دقة؟) ـ كأنما لا يكفي أننا غائبون ـ وهو خطأ استراتيجي لاريب ـ وانما أيضاً نقرأ الصورة هناك على نحو مغلوط، فلا نحضر ولا نفهم، وتلك مأساة أخرى!.
أضافة تعليق