مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إبعاد عرفات ضجة مفتعلة.. ومحاولة للتخدير
هويدي 1-7-2002

عندي شك كبير في جدية الالحاح الاميركي على استبعاد الرئيس عرفات، لظني انهم لا يزالون بحاجة اليه، على الأقل حتى يمرر لهم ما يريدون، وما يعجز سواه عن تمريره، ولأجل ذلك فإن لهم مصلحة في أن يبقى الرجل في موقعه، وان يزداد حجمه في أعين الجماهير الفلسطينية، بحيث يضاف الى رصيده انه الرجل الذي «تحدى» الادارة الاميركية والاسرائيلية بطبيعة الحال، بعدما انعقد الاجماع الفلسطيني في الحاضر أو في اية انتخابات رئاسية مقبلة. وهو بهذه الصفة يصبح مؤهلا أكثر من غيره لتوقيع الاتفاقيات الموجعة، التي يراد بها تصفية القضية واغلاق ملفها في نهاية المطاف.
أقول ذلك من باب الترجيح وليس على سبيل القطع، عارفا بانه ليس هناك قطع ولا «آخر كلام» في عالم السياسة، خصوصا في زماننا الذي غدا فيه كل مستحيل ممكنا وكل عبثي وغير معقول واردا ومعقولا، اذا توافرت شروطه. واذا رجح الاحتمال الأول الذي ادعيه، فلا استبعد ان يكون غرور القوة قد أعمى الادارة الاميركية وجعلها تركب رأسها، وتصر على ازاحة عرفات والاتيان بشخص آخر تطبق عليه المواصفات المطلوبة اميركيا واسرائىليا، وهي في ظل ذلك العمى تتصور ان ذلك الآخر المنتظر يمكن ان يملي على الشعب الفلسطيني ما يراد منه، وما يلبي الهوى الاميركي والاسرائيلي، محتميا في ذلك بالرضى الذي اسبغوه عليه «والثقة» التي وضعت فيه. وفي هذه الحالة فليس يهمهم ان تحترق فلسطين أو تحترب فصائلها، كما لن يهمهم ان تنقلب الأوضاع في الشرق الأوسط رأسا على عقب من جراء ذلك الحريق.
صحيح ان ذلك يعد من قبيل العبث اللامعقول، ولكن الذي يصف شارون بانه رجل سلام، يشك في أهلية انتمائه الى أهل العقل، ومن ثم فلن يستبعد منه أن يفعل أي شيء، وان يطيح بأي منطق أو مصلحة.
اذا تتبعنا السيناريو الذي ادعو الى التفكير فيه، فسنجد ان الضغوط الاميركية اللحوحة تستهدف ثلاثة أمور، أولها اشغال العرب والفلسطينيين بقضية مصير عرفات عن قضيتهم الاساسية المتمثلة في تحرير فلسطين، الهدف الثاني هو تضخيم صورة عرفات وتحويله الى رمز يناطح الادارة الاميركية، الأمر الذي يعطي انطباعا بأن الرجل غير مرغوب فيه، أما الهدف الثالث فهو ابتزاز عرفات واذلاله وتركيعه وارغامه على التوقيع على ما يراد منه، وما تمنع عنه في السابق، باعتبار انه الوحيد الذي يمكن ان يقبل منه التنازل أو التفريط دون اساءة الظن به لدى الرأي العام الفلسطيني.
ان الاسرائيليين يعرفون جيدا ان عرفات هو الشريك الذي بدأ رحلة التراجعات التي بدأت بتوقيع اتفاقية أوسلو وانه الوحيد القادر على استمرار هذه المسيرة وايصال تلك التراجعات الى هدفها النهائي، يعرفون ايضا ان فريق عرفات يضم اناسا يتحركون تحت عباءته، وهؤلاء لهم صلاتهم الوثيقة مع الاسرائيليين، وبوسعهم الافادة من الواجهة الوطنية التي يمثلها «الختيار» وتمرير ما لا يمكن تمريره، والمشهد الأخير الذي حدث في رام الله خير شاهد على ذلك، فقد تحول حصار عرفات في مقره الى قضية القضايا التي حجبت ما عداها، ودغدغت مشاعرنا كلمات عرفات وهو تحت الحصار التي أعلن فيها انه يريد ان ينتهي شهيدا.. شهيدا.. الخ.
وبينما الجماهير العربية تتابع ما يجرى في المقر الرئاسي ساعة بساعة، وتعبر عن اعجابها بصمود عرفات وتطلعه الى الشهادة، كان رجال عرفات أصحاب الجسور الممدودة مع الاسرائيليين يروحون ويجيئون بين رام الله وتل ابيب، يهيئون مشهد اخراج الختيار، ويساومون الاسرائيليون حول الثمن الذي يتعين دفعه لقاء انهاء ذلك المشهد التلفزيوني، بعدما حقق الاسرائيليون هدفهم في اذلال عرفات واهانته امام شعبه، واضعاف مقاومته وارادته.
كان المفترض ان يقوم الرئيس الفلسطيني برد المهانة التي طالته وأدت الى تقويض مؤسسات السلطة الوطنية اثناء الاجتياح في عملية السور الواقي، وان يتصرف على نحو يحاول به التعبير عن كرامة وكبرياء الشعب الفلسطيني بصموده الشجاع وتضحياته التي قدمها بغير حدود، لكنه لم يفعل ذلك، واختار مجموعة من المواقف التي لم يتوقعها أحد من الذين راقبوا جولة الصراع عن بعد.
أول ما فعله انه ابدى موافقة على التنازل عن مطلب التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الاسرائيليون في جنين، وكان مجلس الأمن قد شكل لجنة لتقصي حقائق ما جرى، لو انها قامت بمهمتها لتسببت في قضيحة عالمية لاسرائيل، صحيح ان اسرائيل قاومت الفكرة وان واشنطن ايدتها في تحفظاتها، ولكنها لا تتنفس الصعداء ويرتاح لها بال الا حين يلتزم الفلسطينيون بالسكوت على الموضوع والتستر على ما جرى من جرائم. وهو الموقف الذي رفع الحرج عن الاسرائيليين وأسهم في تمرير المسألة على الرأي العام العالمي، واغلاق ملف الفضيحة.
في الوقت ذاته فإن الرئيس الفلسطيني، بعد العملية التي قامت بها حماس في «ريشون لتسيون»، ادان المقاومة ووصفها بالارهابية، وتعهد في كلمة تلاها بملاحقة الذين قاموا بالعملية، ولم يكن ذلك وحده الخطير في الأمر، انما الذي لا يقل خطورة عن ذلك ان السلطة جعلت من نفسها شريكا فيما يسمى الحملة الدولية على الارهاب، ذلك ان من يقرأ بامعان كلمة عرفات في هذا الصدد يلاحظ انه وضع عمليات المقاومة ضد الاحتلال في فلسطين في اطار الارهاب الذي تطالب بعض الدول بزعامة الولايات المتحدة بمحاربته.
ففي تلك الكلمة أعلن عرفات انه ينضم الى المجتمع الدولي المحارب للارهاب، وانه شريك لهذا المجتمع في حملته للقضاء على الارهاب لا بل انه ذهب الى أبعد من ذلك حين طالب الولايات المتحدة في بيان باسمه بتوفير الحصانة الامنية للقوى الامنية الفلسطينية لتقوم بملاحقة المقاومين لحماية المجتمع الصهيوني من العمليات! على صعيد آخر قامت السلطة الفلسطينية بتسليم مجموعة من رجال المقاومة الذين قاموا باغتيال الجنرال الاسرائيلي الارهابي رحبعام زئيفي، وتكمن خطورة ذلك الاجراء في انه اعتبر عمل المقاومين عملا ارهابيا، ورأى ان قتل زئيفي جريمة تستحق العقاب، والأفدح من ذلك ان السلطة ذهبت الى أبعد مدى في تشويه مفهوم المقاومة وفي ضرب المقاومين اذ وافقت على وضع المقاومين الاربعة الاعضاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع الأمين العام السيد أحمد سعدات وفؤاد الشوبكي تحت حراسة اميركية وبريطانية في سجن اريحا، وبهذا الاجراء تكون السلطة قد وضعت المقاومين تحت حماية دولية وفتحت الباب أمام الزج بمقاومين اخرين في السجن نفسه.
وقرار من هذا النوع يعني ان السلطة لم تعد قادرة على الافراج عن هؤلاء وليس باستطاعتها التحكم في مصيرهم ولا تمتلك الحق في اطلاق سراحهم أو منحهم اجازات زيارة قصيرة أو تحسين ظروف احتجازهم أو جمعهم بالمحامين.
وهذا ما يفتح الباب أمام قيام السلطة لاحقا بتنفيذ عمليات اعتقال واسعة ضد كل من يخالفونها الرأي في الساحة الفلسطينية، واجراء محاكمات ميدانية سريعة للمئات أو ربما الآلاف والزج بهم سريعا في «غوانتانامو» جديدة يجري بناؤها في الأراضي الفلسطينية.
ومن المحرمات التي قبلت السلطة بارتكابها في صفقة الافراج عن الرئيس عرفات ورفع الحصار عن كنيسة المهد، انها وافقت على نفي الفلسطينيين خارج وطنهم، وكان شارون اثناء عملية السور الواقي قد قام بنفي مجموعة من عناصر الشرطة والأمن الفلسطيني الى قطاع غزة، وسكتت قيادة السلطة عن هذا الاجراء ولم تثره لا محليا ولا دوليا مع العلم انها شديدة الحساسية تجاه كل ما يتعلق بـ«سيادتها».
هذا الخطأ كررته السلطة الفلسطينية مرتين أثناء المفاوضات لفك الحصار عن كنيسة المهد، فقد قبلت بالمطالب الاسرائيلية التي رفضها الشارع الفلسطيني وقواه وأذعنت لمطلب حكومة العدو بإبعاد 13 مقاوما من فتح وحماس الى خارج فلسطين وينفي أكثر من ثلاثين الى قطاع غزة.
وبهذا الاجراء تكون السلطة قد شرعت مبدأ الابعاد والنفي في الساحة الفلسطينية وأعطت الضوء الأخضر لعمليات ابعاد ونفي جديدة.
وبموافقة السلطة على الابعاد أصبحت مضطرة لالتزام الصمت وعدم الاعتراض على أية عمليات «ترانسفير» قد يقدم عليها شارون ضد مدنيين أو مقاومين فلسطينيين، حيث انها ـ السلطة ـ قبلت لا بل ساهمت في ترحيل أبنائها.
هنا نسجل ملاحظة تتعلق بتفسير توزيع المقاومين على بعض الدول الأوروبية، ذلك ان القرار يعد محاولة صهيونية لتعقيد وضع هؤلاء المقاومين ولقطع الطريق على محاولات حل قضيتهم أو اعادتهم الى أرضهم، كما انه في نفس الوقت محاولة اسرائيلية لاشراك هذه الدول في حربها على ما يسمى بـ«الارهاب» ومسعى صهيوني لتحويل المقاومة الفلسطينية الى عمل ارهابي تنطبق عليه مواصفات ومقاييس المجتمع الدولي للارهاب. هذه حزمة تنازلات أقدمت عليها القيادة الفلسطينية لتجاوز مأزق بسيط نسبيا، في مشهد الاجتياح الكبير، ورغم انها تعد تجاوزا لخطوط حمراء كثيرة، الا انها مرت ولم تحدث صداها الذي يتناسب مع فداحة التجاوز الذي تم. وهي في الوقت ذاته مجرد عينة لما يمكن تمريره مستقبلا من اجراءات وما يمكن تجاوزه من خطوط حمراء، فيما لو استمر عرفات في منصبه ولو بصورة شكلية ورمزية.
في هذه الزاوية لعلي لا ابالغ اذا قلت بانه في المدى البعيد، ثمة مصلحة أكيدة للاسرائيليين والاميركيين في بقاء الرئيس الفلسطيني، وان أي بديل له سيظل عاجزا عن القيام بالدور المطلوب منه، بينما سيصبح عرفات ـ اذا خرج ـ بطلا قد يشكل عائقا دون تحقيق المراد على النحو المطلوب، ولانجاز ذلك فلا بأس من الطنطنة الراهنة، التي هي من لوازم اخراج الفيلم، لكي تتعزز مكانة عرفات، ولكي يضمنوا في النهاية ان الطبخة «استوت»، وان الرجل أصبح جاهزا للتوقيع لهم على ما يفعلون، مستفيدا من حالة البطولة التي اضيفت عليه.
انهم يحاولون تخديرنا، فهل نبلع الطعم هذه المرة أيضا؟!
أضافة تعليق