مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
دم الشهداء لم يذهب هباء
فهمي هويدي 1-4-2002

يهيمن المشهد الفلسطيني على مداركنا فيصيبنا بخليط من مشاعر الاسى لما يصيبهم والاحباط من انفضاض الآخرين من حولهم، والاعجاب بقدرتهم الهائلة على الصمود والمقاومة. واذ تستغرقنا تلك المشاعر فانها تصرفنا عن متابعة ما يجري على الجانب الاخر. صحيح اننا نرى فيه الممارسات الوحشية والقسوة المتناهية، والاصرار على تركيع الفلسطينيين، الا اننا لو نحينا تلك الصورة جانبا فسنرى المشهد الاسرائيلي على نحو مختلف.
تحفل التقارير الخارجية من اسرائيل بالمعلومات التي تحدثت عما اصاب الاقتصاد والسياحة وشركة طيران العال والتنمية بشكل عام من اضرار، الا ان اخطر ما في المشهد الاسرائيلي من وجهة نظري هو «الخوف» الذي نجح الفلسطينيون في بثه داخل اسرائيل، ومن ثم استطاعوا اشهار افلاس المشروع الصهيوني، على الاقل في اهم مقاصده. ذلك ان الحلم الذي راود آباء الصهاينة يوما ما في استجلاب يهود العالم من الشتات، واحلالهم محل الشعب الفلسطيني بقوة السلاح، هذا الحلم ظنوا انهم حققوه باقامة الدولة وانجاز عملية الطرد في اعقاب سلسلة المواجهات العسكرية والمذابح الجماعية، ومن ثم جلبوا السلام للجماعات التي تم استيرادها من مختلف انحاء العالم، واطلقوا عليها «شعب اسرائيل». غير انه بعد مضي اكثر من نصف قرن على ارتكاب الجريمة ثبت ان الحلم كان زائفا، وان فترة الامن التي حاولوا اضفاءها على الواقع الاسرائيلي، كانت من الهشاشة بحيث انطوت وانكسرت بسرعة، في اعقاب سلسلة العمليات الاستشهادية التي تمت خلال الانتفاضة الاخيرة خصوصا.
واذ اعتاد الاسرائيليون على ان يقوموا بحروب خاطفة خارج الحدود ، ثم يعودوا الى قواعدهم سالمين وواثقين من ان بلدهم بمنأى عن أي اذى، فان الرسالة التي اوصلتها المقاومة الفلسطينية الباسلة مؤخرا الى كل اسرائيلي كانت صريحة في ابلاغ الكافة بأن تلك صفحة طويت ومرحلة تم تجاوزها، وان العمق الاسرائيلي لم يعد محصنا ضد الاختراق والاصابة، اهم من ذلك ان الرسالة كانت جلية في تحذير الجميع من ان الشعب الاسرائيلي لن يستطيع ان ينعم بالهدوء والأمن، طالما استمر الظلم واقعا على الشعب الفلسطيني.
صحيح ان شيوع الخوف وحد الشعب الاسرائيلي الى حد كبير، وصرف الانتباه عن مختلف التشققات التي تعاني منها بنيته، سواء ما تعلق منها بموقف المتدينين ضد العلمانيين، او مشكلة التفاوت في الحظوظ بين اليهود الغربيين (الاشكيناز) والشرقيين (السفارديم)، ناهيك من حظوظ الروس والافارقة، الا ان تلك الشقوق تظل تتفاعل داخل اطار الدولة الاسرائيلية، في حين ان انتقال الخوف الى داخل اسرائيل يضرب فكرة المشروع الصهيوني من الاساس، حيث يكفي في هذا الصدد ان يعلن اكثر من واحد في حواراتهم مع الاذاعة الاسرائيلية انهم لم يعودوا يشعرون بالامن الا حين يغادرون ارض اسرائيل، وهو كلام جديد لم نألف سماعه من قبل، بقدر ما اننا لم نألف ايضا ذلك الحوار الذي يدور بين الاسرائيليين وفي الدوائر الامريكية عن امكانية استمرار اسرائيل ذاتها.
مثل هذه الحوارات جديدة تماما، والاسئلة التي تخللتها ما كان لها ان تطرح الا بعد ان هزت العمليات الاستشهادية بقوة الحصون والاعماق الاسرائيلية. نعم كان هناك كلام كثير ـ لا يزال مستمرا ـ حول تأثير النمو السكاني للعرب على توازنات وتركيبة الدولة الاسرائيلية، خصوصا في ظل التعبيرات التي اشارت الى احتمال تحول عرب 48 الى اغلبية بعد خمسين عاما، لكن ذلك كان يمثل قلقا على المستقبل ويتصور الغلاة ان بوسعهم معالجته بحل وحشي يتمثل في الترويع «والتهجير» (الترانسفير)، غير ان الخوف الذي نتحدث عنه يمثل خطرا حالا، اثر على سكان المستوطنات وعلى معدلات استجلاب المهاجرين من الخارج، كما رفع من نسب الراغبين في مغادرة اسرائيل لاستعادة الشعور بالامن.
في مجلة «نيوزويك» ـ عدد 2/4 ـ ملف خاص حول مستقبل اسرائيل، وضع على الغلاف مع عنوان لافت للنظر هو: كيف سيتسنى لها البقاء؟ وقد استوقفتني في الملف عبارات تشاؤمية عكست شكا قويا في امكانية استمرار الدولة الاسرائيلية، سوف اقتبس بعضها هنا لاهميتها، خصوصا انها وردت اما على ألسنة اسرائيليين، مثقفين وخبراء او اشخاصا عاديين، او في ثنايا آراء ابداها صحافيون منحازون لوجهة النظر الاسرائيلية. ومن هذه العبارات ما يلي:
* ان الكثير الكثير من اليهود يعتقدون ان مستقبل اسرائيل... بات مهددا الآن، كما لم يكن لعدة اجيال.
* هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة، وبأي ثمن وبأية هوية؟ يقول المؤرخ اليهودي كموس ايلوف: انني في حال يأس، لأنني اخشى ان يكون الامر قد فات، وقد قلت لكم مجرد نصف ما اخشاه.
* في استطلاع لنيوزويك اعرب 34 في المائة فقط من البالغين عن اعتقادهم بأن اسرائيل ستظل دولة يهودية حتى 50 سنة من الآن، ونحو 23 في المائة قالوا انهم يعتقدون ان اسرائيل ستكون دولة مختلطة تكون فيها للفلسطينيين حصة اكبر من السلطة، فيما اعرب 18 في المائة عن انها لن تكن موجودة.
* نعم انني خائف، وهذا ما يقوله الشاب الاسرائيلي اليافع هداس هارياك (14عاما) المقيم في القدس، ويضيف: اذا كنت في أي مكان بالخارج وسمعت بالونا ينفجر، فانني اقفز على الفور. وهو يفكر كثيرا في امكانية ان يكون للمرء مستقبل هنا (الكلام للمحرر) وهو يتمنى ان يظل ممكنا مبادلة الارض بالسلام، او تطبيق وقف اطلاق النار على الاقل.
* في حين ان الآلة العسكرية الاسرائيلية نفسها اقوى من أي وقت مضى فان شعب اسرائيل نفسه بات اكثر عرضة للسقوط من أي وقت مضى منذ الخمسينات. وباتت قدرة اسرائيل النووية عديمة الفائدة ضد الدول المجاورة لها. بل ان دباباتها العسكرية من طراز «ميركافا» التي تدعي اسرائيل انها الافضل في العالم، تم تفجير اثنتين منها وقتل طاقمي جنودهما في كمائن نصبها الفلسطينيون في الآونة الاخيرة. الهجمات الارهابية على اسرائيل كانت دائما مصدر تهديد للشعب، ولكنها لم تكن قط تهديدا لوجود الدولة. اما اليوم فان الاسرائيليين يتساءلون: هل ما زال ذلك صحيحا؟ انهم يتحدثون عن «توازن الرعب» حيث يشعرون تماما بالخطر كما الفلسطينيون الذين يحتلون ارضهم، بل وربما اكثر، فالعديد من الفلسطينيين يشعرون انه لم يعد لديهم الكثير ليخسروه في هذه المواجهة المتصاعدة ويبدو ان الكثير من الاسرائيليين يتبنون الموقف ذاته.
* مستقبل اسرائيل يبدو قاتما، وربما كان ذلك مستغربا اذا ادركنا اننا نتحدث في دولة تملك ـ على الورق ـ واحدا من اقوى الجيوش على الارض، ولكن قوة اسرائيل بحد ذاتها هي التي تعمل ضدها حاليا.
* بدأت علامات الضعف تظهر في كل مكان، واصبح الجنود الاسرائيليون مثبطي الهمة لدرجة انهم يلاحقون الارهابيين على متن دبابات زنة كل منها 60 طنا، جنود آخرون يظهرون خائفين من تعريض انفسهم للخطر ويرسلون مدنيين فلسطينيين لقرع الابواب في مخيمات اللاجئين. واسبوعا تلو آخر، يتم تصوير الجنود الاسرائيليين وهم يبكون على قبور رفاقهم ومع ذلك كل ضحية فلسطينية يخرج معها المنادون الهاتفون بالانتقام، ان الحوافز الفلسطينية ـ الناتجة عن 30 عاما من الاحتلال ـ اصبحت من القوة لدرجة انه حتى النساء بدأن بالقيام بعمليات انتحارية بالقنابل.
* واقع الامر انه بهذه الحسبة سوف يراق الدم الفلسطيني بدرجة اكبر بكثير من الدم اليهودي وهي حقيقة يجب ان تجعل السيد عرفات يتردد، وعلى المدى البعيد على كل حال، ستكون اسرائيل هي التي لا تجد مخرجا، واذا تواصلت الانتفاضة فان اسرائيل عندها ستهزم بالتأكيد كما ضرب الامريكيون في فيتنام والسوفيات في أفغانستان وهكذا.
لست ادعو الى المراهنة على فناء اسرائيل، رغم تواتر الشواهد الدالة على انها بصورتها وسياساتها الراهنة تلغي على نحو تدريجي مقومات استمرارها وامكانية التعايش الآمن مع شعوب المنطقة، حيث لا يمكن ان تقوم دولة على جثة شعب آخر، خصوصا الشعب الفلسطيني، الذي لا يمكن ان يقارن بالهنود الحمر المعرضين للانقراض والتآكل، لكن ما اريد ان اقوله ان الدم الفلسطيني لم يرق هباء، وان مواكب الشهداء نجحت في هز الكثير من الثوابت الصهيونية، بل ضربت حجر الاساس في المشروع الصهيوني، الذي بدأت الاصوات تتشكك في جدواه رغم مضي اكثر من نصف قرن على تحقيق «الحلم» واقامة الدولة الاسرائيلية فوق «أرض الميعاد».
اريد ان اقول باختصار ان في المشهد الفلسطيني المخضب بالدماء الكثير من عناصر القوة التي تعزز الثقة في المستقبل وان من صبر ظفر.
أضافة تعليق