زاد الداعية إلى الله (2)
بقلم . الشيخ / محمد بن صالح العثيمين غفر الله له .
* الزاد الثالث: الحكمة فيدعو إلى الله بالحكمة، وما أمرَّ الحكمة على غير ذي الحكمة، والدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة، ثم بالموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الجدال بما ليس أحسن للظالم، فالمراتب إذن أربع. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (1).
* إن الحكمة: إتقان الأمور وإحكامها، بأن تنزل الأمور منازلها وتوضع في مواضعها، ليس من الحكمة أن تتعجل وتريد من الناس أن ينقلبوا عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله بعيد عن الحكمة؛ لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر، ويدلك لهذا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي ينزل عليه الكتاب نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل، فرضت الصلاة في المعراج قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل سنة ونصف، وقيل خمس سنين، على خلاف بين العلماء في هذا.. ومع هذا لم تفرض على وضعها الآن، أول ما فرضت كانت ركعتين للظهر والعصر والعشاء والفجر، وكانت المغرب ثلاثاً، لأجل أن تكون وتراً للنهار، وبعد الهجرة وبعد أن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثلاث عشرة سنة في مكة زيدت صلاة الحضر فصارت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء، وبقيت صلاة الفجر على ما هي عليه؛ لأنها تطول فيها القراءة، وبقيت المغرب ثلاثاً لأنها وتر النهار.
فتأمل مراعاة أحوال الناس في تشريع الله عز وجل وهو أحكم الحاكمين، وكذلك في الصيام تطور في تشريعه فكان أول ما فرض يخير الإنسان بين أن يصوم أو يطعم، ثم تعين الصيام، وصار الإطعام لمن لا يستطيع الصوم على وجه مستمر.
* أقول إن الحكمة تأبى أن يتغير العالم بين عشية وضحاها فلابد من طول النفس، واقبل من أخيك الذي تدعوه ما عنده اليوم من الحق، وتدرج معه شيئاً فشيئاً حتى تنتشله من الباطل، ولا يكن الناس عندك على حد سواء، فهناك فرق بين الجاهل والمعاند.
* ولعل من المناسب أن أضرب أمثلة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم:
* المثال الأول: دخل رجل أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلّم جالس في أصحابه في المسجد فبال الأعرابي في طائفة من المسجد فزجره الناس ـ والزجر هو النهر بشدة ـ ولكن النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي أعطاه الله تعالى من الحكمة نهاهم، فلما قضى بوله أمر صلى الله عليه وسلّم أن يراق على بوله ذنوباً من ماء ـ يعني دلواً ـ فزالت المفسدة فدعا الرسول صلى الله عليه وسلّم الأعرابي فقال له: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن» (2) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، فانشرح صدر الأعرابي لهذه المعاملة الحسنة، ولهذا رأيت بعض أهل العلم نقل أن هذا الأعرابي قال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً»؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم، عامله هذه المعاملة الطيبة، أما الصحابة رضوان الله عليهم فسعوا في إزالة المنكر من غير تقدير لحال هذا الرجل الجاهل.
* المثال الثاني: معاوية بن الحكم رضي الله عنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلّم، يصلي بالناس فعطس رجل من القوم فقال الحمد لله ـ فإذا عطس أحد في الصلاة فليقل الحمد لله سواء في القيام أو في الركوع أو في السجود ـ قال هذا الرجل: الحمد لله، فقال له معاوية: يرحمك الله، وهذا خطاب لادمي يبطل الصلاة فرماه الناس بأبصارهم وجعلوا ينظرون إليه فقال معاوية: واثكل أمِّياه ـ والثكل الفقد وهذه كلمة تقال ولا يراد معناها، وقد قالها النبي صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا وأخذ بلسانه وقال: كفه عليك، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»(3)، ثم مضى معاوية رضي الله عنه في صلاته فلما أتم الصلاة دعاه النبي صلى الله عليه وسلّم، قال معاوية رضي الله عنه : فوالله ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، اللهم صلي وسلم عليه، والله ما كهرني، ولا نهرني وإنما قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن» (4)، أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، انظر إلى الدعوة المحببة إلى النفوس يقبلها الإنسان وينشرح بها صدره.
ونأخذ من الحديث من الفوائد الفقهية: أن من تكلم في الصلاة وهو لا يدري أن الكلام يبطل الصلاة فإن صلاته صحيحة.
* المثال الثالث: جاء رجـل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقـال: يا رسول الله هلكت. قال: «ما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعتق رقبة، فقال: لا أجد، ثم أمره أن يصوم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، ثم أمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: لا أستطيع، فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه وسلّم، بتمر فقال: «خذ هذا فتصدق به»، ولكن الرجل طمع في كرم النبي صلى الله عليه وسلّم، الذي هو أعظم كرم لمخلوق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكرم الناس، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بدت أنيابه أو نواجذه. لأن هذا الرجل جاء خائفاً يقول: «هلكت» فذهب غانماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أطعمه أهلك» (5) فذهب الرجل مطمئناً غانماً فرحاً بهذا الدين الإسلامي، وبهذا اليسر من الداعية الأول لهذا الدين الإسلامي صلوات الله وسلامه عليه.
الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده، وفي عبادته، وفي هيئته، وفي جميع مسلكه حتى يمثل دور الداعية إلى الله، أما أن يكون على العكس من ذلك فإن دعوته سوف تفشل وإن نجحت فإنما نجاحها قليل.
فعلى الداعية أن يكون متخلقاً بما يدعو إليه من عبادات أو معاملات أو أخلاق وسلوك حتى تكون دعوته مقبولة وحتى لا يكون من أول من تسعر بهم النار.
إننا إذا نظرنا إلى أحوالنا وجدنا أننا في الواقع قد ندعو إلى شيء ولكننا لا نقوم به وهذا لا شك أنه خلل كبير، اللهم إلا أن يحول بيننا وبينه النظر إلى ما هو أصلح؛ لأن لكل مقام مقالاً. فالشيء الفاضل قد يكون مفضولاً لأمور تجعل المفضول راجحاً ،ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يدعو إلى بعض الخصال، ولكنه يشتغل أحياناً بما هو أهم منها، وربما يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
إنني أريد من كل داعية أن يكون متخلقاً بالأخلاق التي تليق بالداعية حتى يكون داعية حقّاً وحتى يكون قوله أقرب إلى القبول.
* الزاد الخامس :أن يكسر الداعية الحواجز التي بينه وبين الناس؛ لأن كثيراً من إخواننا الدعاة إذا رأى قوماً على منكر قد تحمله الغيرة وكراهة هذا المنكر على أن لا يذهب إلى هؤلاء ولا ينصحهم، وهذا خطأ وليس من الحكمة أبداً؛ بل الحكمة أن تذهب وتدعو، وتبلغ وترغب وترهب، ولا تقل هؤلاء فسقة لا يمكن أن أمشي حولهم، إذا كنت أنت أيها الداعية المسلم لا يمكن أن تمشي حول هؤلاء ولا أن تذهب إليهم لدعوتهم إلى الله فمن الذي يتولاهم؟ أيتولاهم أحد مثلهم؟! أيتولاهم قوم لا يعلمون؟ أبداً ولهذا ينبغي للداعية أن يصبر، وهذا من الصبر الذي ذكرناه سابقاً أن يصبر نفسه ويكرهها وأن يكسر الحواجز بينها وبين الناس حتى يتمكن من إيصال دعوته إلى من هم في حاجة إليها، أما أن يستنكف فهذا خلاف ما كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يفعله، والنبي صلى الله عليه وسلّم كما هو معلوم كان يذهب في أيام منى إلى المشركين في أماكنهم ويدعوهم إلى الله وقد أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا أحد يحملني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي» (6)، فإذا كان هذا دأب نبينا، وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلّم، فإنه من الواجب علينا أن نكون مثله في الدعوة إلى الله.
الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه، لاسيما إذا علم أن الذي خالفه حسن النية وأنه لم يخالفه إلا بمقتضى قيام الدليل عنده، فإنه ينبغي للإنسان أن يكون مرناً في هذه الأمور، وأن لا يجعل من هذا الخلاف مثاراً للعداوة والبغضاء، اللهم إلا رجل خالف معانداً بحيث يبين له الحق ولكن يصر على باطله فإن هذا يجب أن يعامل بما يستحق أن يعامل به من التنفير عنه، وتحذير الناس منه؛ لأنه تبين عداوته حيث بين له الحق فلم يمتثل.
* ويؤسفني أن أسمع عن قوم يعتبرون جادّين في طلب الحق والوصول إليه ومع ذلك نجدهم متفرقين، لكل واحد منهم اسم معين أو وصف معين، وهذا في الحقيقة خطأ، إن دين الله عز وجل واحد، وأمة الإسلام واحدة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (7)، ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (8)، وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } (9) ، فإذا كان هذا توجيه الله عز وجل لنا فالواجب علينا أن نأخذ بهذا التوجيه، وأن نجتمع على بساط البحث، وأن يناقش بعضنا بعضاً على سبيل الإصلاح لا على سبيل الانتقاد أو الانتقام، فإن أي إنسان يجادل غيره ويحاج بقصد الانتصار لرأيه واحتقار رأي غيره، أو لقصد الانتقاد دون الإصلاح فإن الغالب أن يخرجوا على وجه لا يرضي الله ورسوله، فالواجب علينا في مثل هذا الأمر أن نكون أمة واحدة، وأنا لا أقول إنه لا يخطئ أحد، كل يخطئ، ويصيب؛ ولكن الكلام في الطريق إلى إصلاح هذا الخطأ، ليس الطريق إلى إصلاح الخطأ أن أتكلم في غيبته وأقدح فيه، ولكن الطريق إلى إصلاحه، أن أجتمع به وأناقشه فإذا تبين بعد ذلك أن الرجل مصرّ على عناده، وعلى ما هو عليه من باطل فحينئذ لي العذر ولي الحق ؛بل يجب عليّ أن أبين خطأه، وأن أحذر الناس من خطئه، وبهذا تصلح الأمور، أما التفرق والتحزب فإن هذا لا تقر به عين أحد، إلا من كان عدوّاً للإسلام والمسلمين.
والله أسأل أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يجعلنا من المتحاكمين إلى الله ورسوله، وأن يخلص لنا النية ويبين لنا ما خفي علينا من شريعته إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ سورة النحل آية 125.
2/ أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم و الناس الإعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد (219) وكتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد (221) وكتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله (625) ومسلم كتاب الطهارة باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات (285)
3/ أخرجه الإمام أحمد (22366) و الترمذي أبواب الإيمان باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) وابن ماجه أبواب الفتن باب كف اللسان في الفتنة (3973)
4/ أخرجه مسلم كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة (537)
5/ أخرجه البخاري كتاب الصوم باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيئ فتصدق عليه فليكفر (1936) ومسلم كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان (1111) .
6/ أخرجه الإمام أحمد (14510) و (14511) و (14708) و ابن حبان كتاب التاريخ باب بدء الخلق (6274) .
7/ سورة المؤمنون آية 52 .
8/ سورة الأنعام آية 159.
9/ سورة الشورى آية 13.
بقلم . الشيخ / محمد بن صالح العثيمين غفر الله له .
* الزاد الثالث: الحكمة فيدعو إلى الله بالحكمة، وما أمرَّ الحكمة على غير ذي الحكمة، والدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة، ثم بالموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الجدال بما ليس أحسن للظالم، فالمراتب إذن أربع. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (1).
* إن الحكمة: إتقان الأمور وإحكامها، بأن تنزل الأمور منازلها وتوضع في مواضعها، ليس من الحكمة أن تتعجل وتريد من الناس أن ينقلبوا عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله بعيد عن الحكمة؛ لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر، ويدلك لهذا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي ينزل عليه الكتاب نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل، فرضت الصلاة في المعراج قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل سنة ونصف، وقيل خمس سنين، على خلاف بين العلماء في هذا.. ومع هذا لم تفرض على وضعها الآن، أول ما فرضت كانت ركعتين للظهر والعصر والعشاء والفجر، وكانت المغرب ثلاثاً، لأجل أن تكون وتراً للنهار، وبعد الهجرة وبعد أن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثلاث عشرة سنة في مكة زيدت صلاة الحضر فصارت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء، وبقيت صلاة الفجر على ما هي عليه؛ لأنها تطول فيها القراءة، وبقيت المغرب ثلاثاً لأنها وتر النهار.
فتأمل مراعاة أحوال الناس في تشريع الله عز وجل وهو أحكم الحاكمين، وكذلك في الصيام تطور في تشريعه فكان أول ما فرض يخير الإنسان بين أن يصوم أو يطعم، ثم تعين الصيام، وصار الإطعام لمن لا يستطيع الصوم على وجه مستمر.
* أقول إن الحكمة تأبى أن يتغير العالم بين عشية وضحاها فلابد من طول النفس، واقبل من أخيك الذي تدعوه ما عنده اليوم من الحق، وتدرج معه شيئاً فشيئاً حتى تنتشله من الباطل، ولا يكن الناس عندك على حد سواء، فهناك فرق بين الجاهل والمعاند.
* ولعل من المناسب أن أضرب أمثلة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم:
* المثال الأول: دخل رجل أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلّم جالس في أصحابه في المسجد فبال الأعرابي في طائفة من المسجد فزجره الناس ـ والزجر هو النهر بشدة ـ ولكن النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي أعطاه الله تعالى من الحكمة نهاهم، فلما قضى بوله أمر صلى الله عليه وسلّم أن يراق على بوله ذنوباً من ماء ـ يعني دلواً ـ فزالت المفسدة فدعا الرسول صلى الله عليه وسلّم الأعرابي فقال له: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن» (2) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، فانشرح صدر الأعرابي لهذه المعاملة الحسنة، ولهذا رأيت بعض أهل العلم نقل أن هذا الأعرابي قال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً»؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم، عامله هذه المعاملة الطيبة، أما الصحابة رضوان الله عليهم فسعوا في إزالة المنكر من غير تقدير لحال هذا الرجل الجاهل.
* المثال الثاني: معاوية بن الحكم رضي الله عنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلّم، يصلي بالناس فعطس رجل من القوم فقال الحمد لله ـ فإذا عطس أحد في الصلاة فليقل الحمد لله سواء في القيام أو في الركوع أو في السجود ـ قال هذا الرجل: الحمد لله، فقال له معاوية: يرحمك الله، وهذا خطاب لادمي يبطل الصلاة فرماه الناس بأبصارهم وجعلوا ينظرون إليه فقال معاوية: واثكل أمِّياه ـ والثكل الفقد وهذه كلمة تقال ولا يراد معناها، وقد قالها النبي صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا وأخذ بلسانه وقال: كفه عليك، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»(3)، ثم مضى معاوية رضي الله عنه في صلاته فلما أتم الصلاة دعاه النبي صلى الله عليه وسلّم، قال معاوية رضي الله عنه : فوالله ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، اللهم صلي وسلم عليه، والله ما كهرني، ولا نهرني وإنما قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن» (4)، أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، انظر إلى الدعوة المحببة إلى النفوس يقبلها الإنسان وينشرح بها صدره.
ونأخذ من الحديث من الفوائد الفقهية: أن من تكلم في الصلاة وهو لا يدري أن الكلام يبطل الصلاة فإن صلاته صحيحة.
* المثال الثالث: جاء رجـل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقـال: يا رسول الله هلكت. قال: «ما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعتق رقبة، فقال: لا أجد، ثم أمره أن يصوم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، ثم أمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: لا أستطيع، فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه وسلّم، بتمر فقال: «خذ هذا فتصدق به»، ولكن الرجل طمع في كرم النبي صلى الله عليه وسلّم، الذي هو أعظم كرم لمخلوق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكرم الناس، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بدت أنيابه أو نواجذه. لأن هذا الرجل جاء خائفاً يقول: «هلكت» فذهب غانماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أطعمه أهلك» (5) فذهب الرجل مطمئناً غانماً فرحاً بهذا الدين الإسلامي، وبهذا اليسر من الداعية الأول لهذا الدين الإسلامي صلوات الله وسلامه عليه.
الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده، وفي عبادته، وفي هيئته، وفي جميع مسلكه حتى يمثل دور الداعية إلى الله، أما أن يكون على العكس من ذلك فإن دعوته سوف تفشل وإن نجحت فإنما نجاحها قليل.
فعلى الداعية أن يكون متخلقاً بما يدعو إليه من عبادات أو معاملات أو أخلاق وسلوك حتى تكون دعوته مقبولة وحتى لا يكون من أول من تسعر بهم النار.
إننا إذا نظرنا إلى أحوالنا وجدنا أننا في الواقع قد ندعو إلى شيء ولكننا لا نقوم به وهذا لا شك أنه خلل كبير، اللهم إلا أن يحول بيننا وبينه النظر إلى ما هو أصلح؛ لأن لكل مقام مقالاً. فالشيء الفاضل قد يكون مفضولاً لأمور تجعل المفضول راجحاً ،ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يدعو إلى بعض الخصال، ولكنه يشتغل أحياناً بما هو أهم منها، وربما يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
إنني أريد من كل داعية أن يكون متخلقاً بالأخلاق التي تليق بالداعية حتى يكون داعية حقّاً وحتى يكون قوله أقرب إلى القبول.
* الزاد الخامس :أن يكسر الداعية الحواجز التي بينه وبين الناس؛ لأن كثيراً من إخواننا الدعاة إذا رأى قوماً على منكر قد تحمله الغيرة وكراهة هذا المنكر على أن لا يذهب إلى هؤلاء ولا ينصحهم، وهذا خطأ وليس من الحكمة أبداً؛ بل الحكمة أن تذهب وتدعو، وتبلغ وترغب وترهب، ولا تقل هؤلاء فسقة لا يمكن أن أمشي حولهم، إذا كنت أنت أيها الداعية المسلم لا يمكن أن تمشي حول هؤلاء ولا أن تذهب إليهم لدعوتهم إلى الله فمن الذي يتولاهم؟ أيتولاهم أحد مثلهم؟! أيتولاهم قوم لا يعلمون؟ أبداً ولهذا ينبغي للداعية أن يصبر، وهذا من الصبر الذي ذكرناه سابقاً أن يصبر نفسه ويكرهها وأن يكسر الحواجز بينها وبين الناس حتى يتمكن من إيصال دعوته إلى من هم في حاجة إليها، أما أن يستنكف فهذا خلاف ما كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يفعله، والنبي صلى الله عليه وسلّم كما هو معلوم كان يذهب في أيام منى إلى المشركين في أماكنهم ويدعوهم إلى الله وقد أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا أحد يحملني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي» (6)، فإذا كان هذا دأب نبينا، وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلّم، فإنه من الواجب علينا أن نكون مثله في الدعوة إلى الله.
الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه، لاسيما إذا علم أن الذي خالفه حسن النية وأنه لم يخالفه إلا بمقتضى قيام الدليل عنده، فإنه ينبغي للإنسان أن يكون مرناً في هذه الأمور، وأن لا يجعل من هذا الخلاف مثاراً للعداوة والبغضاء، اللهم إلا رجل خالف معانداً بحيث يبين له الحق ولكن يصر على باطله فإن هذا يجب أن يعامل بما يستحق أن يعامل به من التنفير عنه، وتحذير الناس منه؛ لأنه تبين عداوته حيث بين له الحق فلم يمتثل.
* ويؤسفني أن أسمع عن قوم يعتبرون جادّين في طلب الحق والوصول إليه ومع ذلك نجدهم متفرقين، لكل واحد منهم اسم معين أو وصف معين، وهذا في الحقيقة خطأ، إن دين الله عز وجل واحد، وأمة الإسلام واحدة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (7)، ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (8)، وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } (9) ، فإذا كان هذا توجيه الله عز وجل لنا فالواجب علينا أن نأخذ بهذا التوجيه، وأن نجتمع على بساط البحث، وأن يناقش بعضنا بعضاً على سبيل الإصلاح لا على سبيل الانتقاد أو الانتقام، فإن أي إنسان يجادل غيره ويحاج بقصد الانتصار لرأيه واحتقار رأي غيره، أو لقصد الانتقاد دون الإصلاح فإن الغالب أن يخرجوا على وجه لا يرضي الله ورسوله، فالواجب علينا في مثل هذا الأمر أن نكون أمة واحدة، وأنا لا أقول إنه لا يخطئ أحد، كل يخطئ، ويصيب؛ ولكن الكلام في الطريق إلى إصلاح هذا الخطأ، ليس الطريق إلى إصلاح الخطأ أن أتكلم في غيبته وأقدح فيه، ولكن الطريق إلى إصلاحه، أن أجتمع به وأناقشه فإذا تبين بعد ذلك أن الرجل مصرّ على عناده، وعلى ما هو عليه من باطل فحينئذ لي العذر ولي الحق ؛بل يجب عليّ أن أبين خطأه، وأن أحذر الناس من خطئه، وبهذا تصلح الأمور، أما التفرق والتحزب فإن هذا لا تقر به عين أحد، إلا من كان عدوّاً للإسلام والمسلمين.
والله أسأل أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يجعلنا من المتحاكمين إلى الله ورسوله، وأن يخلص لنا النية ويبين لنا ما خفي علينا من شريعته إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ سورة النحل آية 125.
2/ أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم و الناس الإعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد (219) وكتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد (221) وكتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله (625) ومسلم كتاب الطهارة باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات (285)
3/ أخرجه الإمام أحمد (22366) و الترمذي أبواب الإيمان باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) وابن ماجه أبواب الفتن باب كف اللسان في الفتنة (3973)
4/ أخرجه مسلم كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة (537)
5/ أخرجه البخاري كتاب الصوم باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيئ فتصدق عليه فليكفر (1936) ومسلم كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان (1111) .
6/ أخرجه الإمام أحمد (14510) و (14511) و (14708) و ابن حبان كتاب التاريخ باب بدء الخلق (6274) .
7/ سورة المؤمنون آية 52 .
8/ سورة الأنعام آية 159.
9/ سورة الشورى آية 13.