من الحقائق الدينية التي يجب التذكير بها أن النصر لا يتحقق لأننا مسلمون ولكن لأننا اتبعنا سنن الله التي لا تحابي وأخذنا بالقوانين التي تحكم حالات السلم والحرب، ولا ننسى الانكسار في غزوة أحد رغم تواجد الرسول صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة بل كاد يُقتل هناك.
جهاد هنا وهناك: هذه توطئة ضرورية لنتفقد أحوالنا في خضم طوفان الأقصى، ولنا وقفة هنا مع حال قلوبنا ومع قول الله " وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ " – سورة آل عمران 146
هؤلاء المجاهدون أصابهم القرح وتجرعوا ألوان البلاء في ساحة القتال لكنهم بقوا على ثبات كبير لقلوبهم، أي انتصروا نفسيا مهما كانت نتيجة المعركة في الميدان:
فما ضعفوا لما أصابهم في سبيل الله: لم يقعدوا ولم يتراجعوا بل بقوا أقوياء في مواجهة العدو.
وما وهنوا: هذا حال قلوبهم، راسخة الإيمان شديدة اليقين رغم ويلات الحرب وفقْد النصير وكثرة المخذلين، ها نحن نرى هذا في غزة مع صور التواطؤ العربي مع الصهاينة، وحصار القطاع، والتأييد الغربي الرسمي اللامحدود للعدو الصهيوني.
وما استكانوا: لم يستسلموا ولم ينسحبوا ولم تضعف عزيمتهم ، وهذا حالنا نحن المؤمنين دائما: نحزن، نبكي، نتألم لكن لا نستسلم لثقتنا بالله التي تورثنا الثقة بالنفس فنصمد مهما كانت التحديات.
هذه كلها أمور صعبة فكيف نكتسبها؟ الحل هو" والله يحب الصابرين"، هذه إشارة إلى الزاد الضروري للثبات ومقاومة الضعف النفسي والوهن الاستكانة، والمقصود بالصبر هو تحمل الإكراهات الميدانية والنفسية مع انتظار المدد الرباني والفرج القريب، وهو مشهد يصوّره القرآن أحسن تصوير بالإحالة إلى تجربة مرت بالرسول صلى الله عليه وسلم: " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" – سورة آل عمران 173، ويا سبحان كيف يتكرر المشهد في غزة فهذا التحذير هو ما تقوله الأنظمة العربية الوظيفية والوسطاء العرب في مفاوضات الهدنة وكذلك علماء السوء، والإجابة عن التحذير هي عينُها.
عوامل الثبات: كل ما مرّ ليس سهل المنال لذلك نجد في القرآن والسنة والسيرة عوامل الثبات، فالقوي لا يبقى قويا طول الدهر، ولا الضعيف ضعيفا، ومقاليد المون وما فيه ومن فيه بيد الله تعالى، فهذا قال "أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟" – سورة البقرة فجعله الله تعالى محل تجربة ذاتية تريه القدرة الإلهية، وهذا فرعون كان يقول "أنا ربكم الأعلى" ثم ينتهي به المطاف إلى استجداء النصرة ويزعم الإيمان "قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" (والآية تصف انتقال حاله من التجبر والطغيان إلى الضعف والاستجداء)، ولما كان في عز قوته وصلفه هدد بإبادة قوم موسى فما من هذا إلا أن أوصى هؤلاء فقال "ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوٓاْ ۖ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" – سورة الأعراف ...هكذا الأرض لله يداول التمكين فيها، فيسلبها من الطغاة ويعطيها للمستضعفين حين يشاء، هذا هو الخطاب الإيماني في مواجهة الخطاب الفرعوني في كل زمان، من شأنه أن يجعل المؤمنين يتجاوزون آلام المرحلة وينتظرون الوعد الإلهي، وقد يموت بعض المسلمين من غير أن يروا النصر لكنه يأتي بعدهم وهم قد ساهموا في الإعداد له، فليس المطلوب منا أن نصنع النصر وإنما ان نفهم عن الله تعالى ونقدم الأسباب المطلوبة ونثق بما عند الله، وجولة في كتاب الله تلفت الانتباه إلى أن القرآن لا يجعلنا نحزن كما يؤصل شيوخ السلاطين وإنما نفهم ونبتهج "يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم"، والفرق شاسع بين الخطاب المنزل والخطاب المبدل، والمقصود مزاحمة مشاعر الحزن والألم والسوداوية بمشاعر الأمل والتفاؤل والثقة بالنفس.