مُذْ وُضِعت الأرواح في الأجساد وهي في شوق دائم إلى مواسم الأنوار، تتعرض في كل مناسبة إلى النفحات الربانية والبركات الإلهية التي أودعها الرب الكريم سبحانه في أمكنة بعينها وأزمنة بعينها، فيضفي عليها صبغة القدسية(الطهارة والتطهير) كلما تجلى فيها بأنوار وصفات ربوبيته. وقد خَلَّدَ القرآن الكريم هذه الحقيقة في سورة طه، وهو يصور لنا مشهدا عظيما عاشه أحد أولي العزم من الرسل في قوله تعالى: “وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(12)”.
لقد تجلى الله بربوبيته في المكان فأضحى الوادُ مقدسا طاهرا مُطَهِّرا بالأنوار الربانية التي تغشاه، فجاء الأمر لسيدنا موسى عليه السلام“فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ”، إذ لا تليق النعال بقداسة المقام، لأنها ستحول دون تحقق الغرض، أي ستكون كالعازل الكهربائي الذي يمنع مرور التيار وتوهج المصباح، ذلك أن الله تعالى بسط بساط النور والهدى في المكان، والأدب يقتضي ألا نطأ بساط رب العالمين بنعالنا. إنها لحظةٌ تُغْنَمُ ولا تُغْرَمُ، تستوجب “الخلع” أي النزع بالقوة وعلى الفور! فالنعال تَحْجُبُ كل الجسد من جهة القدمين أن تكون موصولة بِبِسَاطِ النور الرباني المفروش الذي اعتقده موسى نارا طبيعية.
فما أشبه مكان الواد المقدس الذي توجه إليه موسى عليه السلام لما رأى النار في حلكة الظلام يتوخى القبس والخبر والهداية، بزمان شهر رمضان المبارك، هناك قداسة المكان وهنا قداسة الزمان، ولعل وجه الشبه بينهما اشتراكهمها في معاني النور والحضور، والبركة والقرب، والهداية والتلقي المباشر عن الله تعالى (التكليم). ولئن كان موسى عليه السلام قد تجشم الصعاب وقطع الصحاري والفيافي، وترك حياة الترف والرفاهية في قصر فرعون من أجل لحظة القداسة والطهارة والتكليم، فإن الله تعالى بحرمة ومقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عنده، كفى أمته شقاء وعناء ضرب المسافات بحثا عن موافقة نفحات الطهر والقداسة والبساط النوراني، وجاءها برمضان حيث هي في كل زمان ومكان، أَوَلَمْ نتدبر أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا جاءَ شَهرُ رمضانَ، قال للناسِ: “قد جاءَكم مُطَهِّرٌ؛ شَهرُ رمضانَ، فيه تُفتَحُ أبوابُ الجَنَّةِ، وتُغَلُّ فيه الشياطينُ، يُعِدُّ فيه المؤمنُ القوةَ للصَّومِ والصَّلاةِ، وهو نِقْمةٌ للفاجِرِ، يَغتَنِمُ فيه غَفَلاتِ الناسِ، مَن حُرِمَ خَيرُه، فقد حُرِمَ.” كيف لا يكون مُطَهِّراً وفيه نزل نور الله القرآن، وفيه تَنَزَّلُ الملائكة والروح جبريل عليهم السلام، وفيه تتزين الجنة من الحول إلى الحول وتُفتَح أبوابُها، وفيه يتبدد عالم الظلمات بتصفيد الشياطين وغلق أبواب جهنم، وفيه يُنسبُ الصوم إلى رب العرش العظيم قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: “قَالَ اللهُ تعالى: كُلُ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِيَامَ فَإِنَهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.” وفيه تطوى كل مسافات السلوك طَيّاً بفضل البساط المحمدي والوسيلة المحمدية: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” هذا القرب الذي جاء تتويجا لسياق آيات شهر القرآن وشهر الصيام، قرب لا يتحقق إلا بسؤال النبي، إلا بالكاف النبوية(سألك) التي تحيل على الاتباع واقتفاء الأثر والتتلمذ الدائم على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، باستقبال رمضان على طريقته والصوم وفق بآدابه وأخلاقه، والاعتكاف استنانا بسنته الشريفة.
إذن، فرمضان زمان مقدس كامل الطهارة والتطهير، فيه كل المعاني التي ذاقها موسى عليه السلام من نور وقرب وهداية وتكليم وتبشير؛ استجاب موسى فخلع نعليه وهو في حضرة الأنوار الربانية فنال من الكرم الإلهي ما ناله. فهل سنستجيب نحن كذلك ونخلع نعال قلوبنا التي تَحُولُ دون اغتنامنا نفحات هذا الواد الزمني المقدس الممتد لأيام معدودات محصورات منصرمات، أم أننا سنزهد في القرب من الله وي بركته وكلامه ونور قرآنه وهدايته؟
نَعْلَيْ موسى لا تحتاج إلى توضيحها، لكن ما الذي نقصده بنعال القلوب قياسا وتشبيها مع الأولى؟
نعال القلوب هي كل ما يحجب القلوب عن نور الله تعالى، وهي كل طبقات “الرًَان” والنكثات السوداء التي تغلف القلب، ثم هي الأقفال التي على القلوب والتي تبقيها مظلمة من الداخل. بالتالي فخلع نعال القلوب لدخول الواد الرمضاني المقدس الذي ينطوي على كل العطاءات الربانية، يعني تطهير القلوب من الران والسواد والظلمة بجلائها وكسر أقفالها وجعلها آنية شفافة نقية سليمة تليق بقداسة الزمان الرمضاني المقدس تتزود من قبساته لتعود إلى الأنفس فتزكبها كما عاد موسى إلى أهله وقومه. وليس من العبث أن يجمع الله في رمضان بين الصوم والقرآن والقيام، لأن هذا يشبه عملية إصلاح السفن بإخراجها من عمق البحر وإدخالها المرسى حتى لا يدتعرقل حركة المياه عملية الإصلاح، وكذلك القلوب، يتم غزلها عن شهوات الأنفس المعطلة بالصوم المادي و المعنوي ثم التفرغ لجلائها وصقلها بذكر الله وقراءة القرآن عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن». فشهر رمضان هو المرسى المطهر والمقدس الذي تدخله القلوب لتتطهر وتتزود، شريطة خلع نعال الغفلة والتَّرَخُّصِ والدَّعَعةِ والتسويف، ونزع نعال الغل والحقد والحسد والضغينة…، عندها فقط يمكن لشغاف قلوبنا أن تلامس بساط النور الرباني الذي بسطه الكريم جل جلاله لأمة سيدنا محمد في الواد الزماني لرمضان، كما لامس موسى بساط الأنوار في الواد المقدس طوى لما استجاب لربه فخلع نعليه.
فماذا قررت أخي القارئ، وماذا قررت أختي القارئة؟ هل ستدخل رمضان بنعال قلبك، أم ستخلعهما وتغتنم لحظات القرب والفرح بالله، لحظات الأنوار والهداية، لحظات تطل بعين قلبك من صفائها على أفضال الله وبركاته التي تستحق الحمد والشكر ما بقي في الجسد نَفَسٌ. والحذر كل الحذر من الغبن والتغابن والحرمان في شهر الكرم الإلهي حيث ورد في الحديث الشريف: صعدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ المنبرَ فلمَّا رقيَ عتبةً قال: آمينَ. ثمَّ رَقِيَ أُخرَى، فقال : آمينَ . ثمَّ رقيَ عتبةً ثالثةً، فقال: آمينَ . . ثمَّ قال: أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ ! مَن أدركَ رمضانَ، فلَم يُغْفَرْ لهُ؛ فأبعدَهُ اللهُ، فقلتُ: ( آمينَ ). قال: ومَن أدركَ والدَيْهِ أو أحدَهُما ، فدخلَ النَّارَ ؛ فأبعدَهُ اللهُ، فقلتُ : آمينَ . قال : ومَن ذُكِرْتَ عندَهُ، فلَم يُصَلِّ عليكَ؛ فأبعدَهُ اللهُ، قلْ: آمينِ . . فقلتُ : ( آمينَ ).
فاللهم لا تحرمنا ذرة من بركات رمضان واخلع عن قلوبنا نعالها حتى تلامس بساط أنوارك.
نقلاً عن موقع منار الإسلام