الحمد لله الذي ذهب بشهر رجب وجاء بشهر شعبان، وخلق الإنسان علمه البيان، ونشهد أن لا إله إلا الله الكريم المنان، أعز أهل الصيام في الجنة بباب الريان، وأذل أهل المعاصي والبهتان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق فكان خلقه القرآن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والإيمان، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القسط والميزان.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
إن سيرة الرسولﷺ سيرة عظيمة نحن دائما في حاجة ماسة لدراستها والوقوف على فقهها ومضامينها، لنأخذ الدروس والعبر من حلقاتها، في حاجة للتعلم من فقهها والسير على منوالها، حتى نكون على بصيرة من أمرنا، لأنها التطبيق العملي للقرآن الكريم.
وقد قدمنا لكم في الشهر الماضي شهر رجب أن أحداثا وقعت فيه من هذه السيرة العطرة، منها معجزة الإسراء والمعراج، حيث أوحى الله تعالى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه من العبادات الصلاة.
وها هو شهر شعبان قد حل بساحتنا وهو شهر يحمل إلينا نفحات ربانية مباركة، وهو شهر مبارك لأنه القريب من رمضان، وقد دعا له النبيﷺ بالبركة فقال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»، وهو شهر يربطنا أيضا بسيرة المصطفىﷺ في أكثر من حدث؛ ففيه وقعت معجزة انشقاق القمر التي يشير إليها الله تعالى إذ يقول: *اقتربت الساعة وانشق القمر، وفيه تحولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وفيه ولد حفيد الرسولﷺ سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، وفيه وقعت غزوة بني المصطلق وما فيها من أحداث عظيمة، وكان النبيﷺ يكثر فيه الصيام روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: **ما رأيت رسول اللهﷺ استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله، وفي رواية الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: **ما رأيت النبيﷺ يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان*
وإذا سألنا لماذا كان النبيﷺ يكثر من الصيام في شعبان؟ نجد عند رسول اللهﷺ ثلاثة أجوبة:
*الجواب الأول*
روى الترمذي أن أنس رضي الله عنه قال: «سئل رسول اللهﷺ أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان»، وهذا يدل على أن صيام شعبان هو بمنزلة الحركة التسخينية للدخول في مقابلة رمضان، فهو تدريب عملي وتمرين فعلي على الصيام وأخلاقه وآدابه في مستوياته الثلاثة: صيام الجسد حيث يتم تدريب الجسم على الصبر وتحمل الجوع، ثم صيام الجوارح حيث يتم تمرين الجوارح على الامتناع عن المحرمات، ثم صيام النفس والإحساس حتى تألف أداء العبادة في حب وخشية وإخلاص.
• أما المستوى الأدنى من الصيام؛ فهو صيام الجوع والعطش فقط؛ والكثير منا لا يتجاوز من صيامه هذا المستوى الأدنى! والكثير منا يدعي الصيام ولم يحفظ جوارحه عن معاصي الواقع في الأندية والأسواق، ولا عن معاصي المواقع في العالم الأزرق! والكثير منا يدعي الصيام وقلبه مليئ بالحقد والحسد والكراهية والبغضاء! والكثير منا يدعي الصيام وهو يسلط خائنة الأعين على الغاديات والرائحات والعاريات في الشوارع والساحات! والكثير منا يدعي الصيام وهو يطلق لسانه منتهكا به الأعراض والعورات! والكثير منا يدعي الصيام وقد سلب من الناس الأموال والأغراض والممتلكات!
وليس بعاقل من يترك من أجل صومه المباحَ من الشراب والطعام، ولا يترك من أجله الفسقَ والفسادَ من الحرام.
• وأما المستوى الأوسط من الصيام؛ فهو -علاوة على صيام الأدنى- لا بد فيه من صيام الجوارح السبعة كلها؛ وهي: اللسان، والبصر، والسمع، والبطن، والفرج، واليد، والرجل؛ وقد جمعها الرسولﷺ بقوله: *فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه الكلام، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والسمع يزني وزناه الاستماع، ويصدق ذلك الفرجُ أو يكذبه* ويقول الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه: *إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء*
• وأما المستوى الأعلى من الصيام؛ فهو الصيام المركزي، فإذا تحقق تحققت به مستويات الصيام الثلاثة؛ ألا وهو صيام القلب؛ والرسولﷺ يقول: *ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلَحتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وَهِي القلبُ*؛ فصيام القلب هو صيام الخاشع، وصاحب الخشوع قلبه ملؤه الإيمان والأمل والإخلاص والصدق، ملؤه مقامات اليقين التي جمعها الإمام ابن عاشر رحمه الله إذ قال:
خوف رجا شكر وصبر توبة ۞ زهد توكل رضا محبة
فإذا غابت مقامات اليقين عن قلوب الصائمين صار صيامهم صيام القلب الجائع، ملوث بمضادات اليقين؛ من الشرك والإلحاد، والرياء والسمعة والنفاق، والقنوط والسخط والحسد والبغضاء؛ فصيام الخاشع يستهدف صلاح القلوب والأفئدة، وصيام الجائع يستهدف امتناع البطون والمعدة…
فعلينا أن نتدرب ونتمرن في شعبان على الصيام في مستوياته الثلاثة من أجل أداء صيام رمضان على الوجل الأكمل واقعا والمطلوب شرعا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛
*الجواب الثاني*
كان النبيﷺ يكثر الصيام في شعبان لأن الملائكة المكلفة بمراقبة أعمال العباد تقدم ملفات أعمال السنة الماضية لرب العباد في شعبان، روى النسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله؛ لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قالﷺ: *ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم*.
*الجواب الثالث*
كان النبيﷺ يكثر الصيام في شعبان لأن الملائكة المكلفين بقبض أرواح العباد تتسلم في شعبان ملفات من سيموت في السنة المقبلة، روى أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: *إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة تلك السنة فأحب أن يأتني أجلي وأنا صائم*.
تلكم يا عباد الله أحاديث النبيﷺ في صيام شعبان؛ فعلينا أن نغتنم فرصة أيامه بالصيام، حتى نقتدي فيه بسيد الأنامﷺ، وحتى نستعد به لرمضان، وحتى ترفع أعمالنا ونحن في ظلال الصيام، وحتى تأتينا آجالنا ونحن متلبسون بلباس الصيام.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…
*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات