من لم يخرج من الدنيا لم يأمن عواقبها وتقلباتها وابتلاءاتها، وإن الفتن تلذغ المقيم فيها حتى قد يصبح من أمسى مؤمنا كافرا.
وإنما تتقطع أكباد الرجال الصالحين في طلب حسن الخاتمة، ولا يزالون على عبادة الله والإقبال عليه حتى يأتيهم اليقين، ويتوسدون القبور.
وإن من أكبر براهين صدق الرجال وعلو كعبهم حسن خواتمهم، ولحظات احتضارهم.
اسقبل حذيفة رضي الله عنه الموت بقوله: “مرحبا بالموت.. حبيب جاء على شوق .. لا أفلح من ندم”.
توفي رضي الله عنه بالمدائن سنة ست وثلاثين من الهجرة بعد أربعين يوما من مبايعة الإمام علي كرم الله وجهه.
إذ دخل عليه أصحابه يحملون الأكفان، فلما رآها فارهة جديدة، قال: ” ما هذا لي بكفن، إنما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص. فإني لن أترك في القبر إلا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما، أو شرّا منهما !”
وبكى بكاءً كثيرًا، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: “ما أبكي أسفًا على الدنيا، بل الموت أحب إليَّ، ولكنِّي لا أدري على ما أقدم على رضًا أم على سخطٍ”.
وما كان حذيفة ليموت على حب لقاء الله إلا لأنه عاش على هذا الحب العظيم.
في معركة نهاوند وقد كلفه أمير المؤمنين عمر بقيادة الجيش إذا استشهد النعمان بن مقرن، حمل حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه الراية قبل أن تقع على الأرض إثر استجابة النعمان رضي الله عنه لنداء ربه عز وجل، ونادى في الجيش قائلا:
“يا أتباع محمد، هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم، فلا تطيلوا عليها الانتظار”
بقلب مفعم بهذا الحب حقق حذيفة انتصارا كبيرا في نهاوند على الفرس وفتح همدان والريّ والدينور.
وقبل انتصاراته في ميادين الحروب انتصر في ميادين القلوب، وقد عمل على معالجة نفسه وقلبه، وكان في ذلك طبيبا عريفا، حيث كان يقول:
“القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق، وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق كقرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب، غلب”.
هذا الخبير لم يتعلق قلبه المنير بالدنيا وجاهها، استقبله الناس على أبواب المدائن بعدما عينه أمير المؤمنين عمر واليا عليها، ينتظرون قدوم الأمير الجديد، وحسبوا أنه سياتي في وفد ملكي كوفود ملوك الفرس الذين أقاموا في المدائن ردحا طويلا من الزمن.
وعندما رآهم على حالهم، خاطبهم ورجليه متلية من على حماره وفي يده خبز وفيه عرق من لحم: “إياكم ومواقف الفتن !
قالوا: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله !؟
قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدقه بالكذب ويمتدحه بما ليس فيه.”
دخل الإمارة زاهدا وأقام فيها زاهدا ولم تحدث فيه شيئا من الغرور أو الكبر، عندما قرأ حذيفة رضي الله عنه عهد عمر على أهل المدائن قالوا له: سل ما شئت !
ما هذا العرض المغري؟ وماذا سيطلب الرجل الصالح؟
قال : “طعاما آكله، وعلف حماري هذا – ما دمت فيكم- من تبن”.
ذهب إلى المدائن على حمار، ورجع على حمار عندما استدعاه عمر رضي الله عنهما، فلما رآه على الحال الذي خرج من المدينة التزمه، وقال: “أنت أخي، وأنا أخوك”.
هذا القلب الزاهد في غنائم الإمارة وإغراءاتها كان أيضا قلبا سليما صافيا تجاه إخوانه الذين قتلوا أباه حسيل بن جابر في أحد.
كان حسيل مسلما، وأجهز عليه إخوانه المسلمون في أحد خطأ، ولم ينفع تحذير حذيفة، فماذا كان جوابه لإخوانه؟
“يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”.
ولم يكن الزهد يعني لحذيفة رضي الله عنه اعتزال الناس والدنيا، إنما كان يقول: “ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا، ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه”.
كان رضي الله عنه يأخذ من العاجلة المهارة والعلم والقوة يستعد بها للباقية، ولهذا كان رجلا متعدد المواهب والكفاءات.
وطالما كلفه عمر بمهمات صعبة منها إيجاد موضع لمدينة بديلة عن المدائن التي سقم بها أصحابه، فعثر على الكوفة التي كانت جرداء مرملة فأمر بإعمارها.
ومن أمارات قوته وأمانته اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له لاستطلاع أخبار المشركين في غزوة الأحزاب.
ولنستمع له رضي الله عنه يروي الواقعة لجمع من المومنين وقد قال أحدهم: لو أَدْرَكْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَاتَلْتُ معهُ وَأَبْلَيْتُ، فَقالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذلكَ؟! لقَدْ رَأَيْتُنَا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةَ الأحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقالَ: قُمْ يا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بخَبَرِ القَوْمِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا -إذْ دَعَانِي باسْمِي- أَنْ أَقُومَ، قالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بخَبَرِ القَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِن عِندِهِ جَعَلْتُ كَأنَّما أَمْشِي في حَمَّامٍ حتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا في كَبِدِ القَوْسِ فأرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، ولو رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي في مِثْلِ الحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فأخْبَرْتُهُ بخَبَرِ القَوْمِ وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ، فألْبَسَنِي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مِن فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عليه يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قالَ: قُمْ يا نَوْمَانُ.
هذا الرجل الذي حظي بالثقة والعناية النبويتين كان يجل من الله وجلا شديد؛ ويسأل عن الفتن حينما كان يسأل الناس عن الخير مخافة أن يقع في شرورها:
قال رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: “نعم”، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: “نعم، وفيه دخن”، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: “قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر”، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: “نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها”، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: “هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا”، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: “فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك”
كان حذيفة رضي الله عنه وقافا عند أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتزما غرزه منفذا وصيته بلزوم الجماعة إذ كان حريصا على وحدتها وتماسكها.
ومن هذا الحرص كتمانه أسماء المنافقين الذين استأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسمائهم.
قال رضي الله عنه: دعي عمر لجنازة، فخرج فيها، أو يريدها، فتعلقت به، فقلت: اجلس -يا أمير المؤمنين-، فإنه من أولئك. فقال: نشدتك بالله، أنا منهم؟ قال: “لا، ولا أبرئ أحدًا بعدك”.
وسأله عمر رضي الله عنه أيضا عن وجود منافقين في ولاته ولم يسعفه.
ومن حرصه على أمة الإسلام ووحدتها فزع إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما رأى الناس مختلفين في قراءاتهم للقرآن حيث قال له: “يا أميرَ المؤمنينَ ، أدرِكْ هذِهِ الأمَّةَ قبلَ أن يختلِفوا في الكتابِ كما اختلفتِ اليَهودُ والنَّصارَى”.
ومن علامات علو مرتبته رضي الله عنه أنه كان حسيبا على نفسه قبل أن يكون حسيبا على غير، قال رضي الله عنه: كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي، فقلت: يا رسول الله، قد خشيت أن يدخلني لساني النار قال: ” فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة قال أبو إسحاق: فذكرته لأبي بردة فقال: ” وأتوب إليه “.
ولقد سمعت من أحد الصالحين يعلق على هذا الحديث ويقول: أن الاستغفار أنفع لمن يغلظ القول على أهله، وأن الاعتذار أنفع للأهل وأطيب لقلبها وفؤادها.
طلب بعض الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستخلف فأبى وقال: ما حدثكم حذيفة فصدقوه…
وقال رضي الله عنه: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفاه الله فيه، فقلت: يا رسول الله، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي؟! فردَّ عليَّ بما شاء الله، ثم قال: “يا حذيفة، ادْنُ منِّي”. فدنوتُ من تلقاء وجههِ، قال: “يا حُذيفة، إنه من ختم الله به بصومِ يومٍ، أرادَ به الله تعالى أدْخَلَهُ الله الجنة، ومن أطعم جائعًا أراد به الله، أدخله الله الجنة، ومن كسا عاريًا أراد به الله، أدخله الله الجنة”. فهذا آخر شيءٍ سمعته من رسول الله عليه وسلم.
*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات