أنور الجندي
إن من طبيعة الفكر الإسلامي أن يعقد مقارنة بين جيل وجيل لتقييم ما طرحه الجيل السابق ووزنه بميزان الأصالة والتقدير الحقيقي الحر البعيد عن الأهواء المتحرر من الولاء والخضوع لما خضع له الجيل السابق، وقد تتابعت في تاريخ الفكر الإسلامي عملية (إعادة النظر) وإعادة تقييم المراحل هذه، حتى غدت مسألة طبيعية بل وضرورية لمواكبة سير الإنسانية على الطريق الصحيح إلى الغاية الأصيلة وتصفية الفكر الإسلامي في كل مرحلة من الدخائل.
ومنذ ظهرت طلائع حركة اليقظة الإسلامية بمفاهيم المنهج القرآني الأصيلة بدأت عملية إعادة النظر في كل ما كتب في مرحلة النفوذ الأجنبي والاحتواء والسيطرة الأجنبية والتبعية للفكر الغربي المسيطر من خلال معاهد الإرساليات والابتعاث إلى البلاد الأجنبية وما حمله هؤلاء العائدون من مذاهب ونظريات وما حاولوا من خلاله إخضاع الفكر الإسلامي وتاريخ الإسلام والتراث إليه من نظريات تقوم على أساس الفلسفة المادية والانشطارية التي عرف بها الفكر الغربي وتلك قضية كبرى معروفة تحت اسم: حركة التغريب والغزو الثقافي.
واليوم ترتفع صيحة في معسكر التغريب والغزو الثقافي تعارض هذه المراجعة وتصد هذا التقييم الذي يقوم به رواد حركة اليقظة بمفاهيم الإسلام للفكر المعاصر الذي خضع فترة للنفوذ الأجنبي وجرت محاولة احتوائه وتدميره وتغريبه.
وهذه الصيحة اليوم تحمل رمزًا لامعًا خطيرًا هو التساؤل عن الخطأ الذي يجري في مواجهة جيل العمالقة والقمم الشوامخ، هؤلاء الذين قدموا للأمة ذلك الفيض الدافق من البطاقات والآراء والنظريات التي تقوم عليها الآن الدراسات العربية والأدب والشعر والفن وفي مختلف مجالات الفكر.
###4### والحقيقة أن ما قدمته هذه المدرسة التي يسمونها تارة باسم الرواد وتارة باسم جيل العمالقة والقمم الشوامخ، ليس إلا عصارات من الفكر الغربي انتزعت من هنا أو هناك، وخلاصات ومترجمات لمضامين ذلك الفكر الذي سيطر على الغرب تحت اسم الفلسفة المادية ومدرسة العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، وهو خلاصة ما كتب دارون ودوركايم وفرويد وسارتر وماركس وانجلز ومترجمات للقصص الجنسي والإباحي من الأدب الفرنسي وكان الصراع في أول الأمر قائمًا بين اللاتينيون والسكسون هؤلاء مع المدرسة الإنجليزية (العقاد والمازني وشكري) وأولئك مع المدرسة الفرنسية (خليل مطران وطه حسين وهيكل).
ثم جاء الصراع الثاني بين المدرسة الليبرالية (لطفي السيد – طه حسين، وحسين فوزي وزكي نجيب محمود) ومن المدرسة الكلاسيكية (سلامة موسى وحسين فوزي ومندور) ثم جاءت المدرسة الإنسانية الماسونية (الهومنيزم) وعلى رأسها لويس عوض.
وكل ما قدم في هذه المرحلة منذ بدأت هذه المدرسة على يد أستاذ الجيل (لطفي السيد) وحتى اليوم هو فتات موائد الغرب بشقيه، ولم يكن هؤلاء الأدباء والكتاب من أصحاب الأسماء اللامعة إلا قناطر بين الساحلين، ولم يكن ما نقل خلال هذه الفترة سواء على لسان من قدموه على أنه فكرهم الخالص أو ما ترجموه، لم يكن فكرًا حرًا خالصًا أريد به خدمة هذه الأمة، ولم يكن مقصودًا به ترسيخ الوجود الفكري الثقافي لأمة تملك مفهومًا أساسيًا جامعًا للفكر والحياة والمجتمع، وإنما كان فكرًا متحيزًا مقصود به تسميم قنوات الفكر الإسلامي وإفسادها وتحويل وجهة هذه الأمة وتغيير ملامحها والقضاء على ذاتيتها وأعرافها الإسلامية والعربية الأصيلة، كان هذا واضحًا في كل ما نقل وما ترجم حتى فيما وصى به من إحياء التراث الإسلامي العربي، كان هدف ذلك كله الدعوة إلى إخراج هذه الأمة من مقوماتها الأصيلة وصهرها في بوتقة الفكر الغربي المادي اللحد الوثني ربيب الفكر الإغريقي القائم على علم الأصنام ودفع هذه الأمة بعيدًا عن طريقها الأصيل بوصفها صاحبة المنهج التجريبي الذي صنع الحضارة المعاصرة، وصاحبة منهج المعرفة ذي الجناحين (الروح والمادة) والقائم على منهج الثوابت والمتغيرات إلى منهج انشطاري مادي خالص، وحق في هذا ما قال البعض بأنهم أخذوا المنهج العلمي ###5### التجريبي مع المسلمين وأوردوا المسلمين إلى منهج أرسطو الذي رفضه المسلمون قديمًا وهاجمته الحضارة المعاصرة في عصر النهضة.
إذن فالحملة المثارة تحت عنوان خطير: (هدم الشوامخ من أجل من) هي محاولة جديدة لمحاولة تثبيت دعائم هذه المؤامرة القديمة التي تكشف مخططها، ومغالطة واضحة تقوم على التعميم يهدم الشوامخ فمن هؤلاء الشوامخ الذي جرى هدمهم، وهل من أجل أمثال طه حسين ولويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود يطلق اسم الشوامخ بينما حقيقة الأمر أن الشوامخ هم غير هؤلاء، إنهم أولئك المجاهدون الصادقون الذين لا يذكرهم أحد ولا يتحدث عنهم أحد، الذين وضعوا في الظن وأقيمت حولهم مؤامرة الصمت، لأنهم قدموا لأمتهم معطيات وافرة ودلوا أمتهم على طريق الأصالة والنهضة الحقيقية.
والحقيقة التي يتجاهلها أتباع التغريب والغزو الثقافي أن الشوامخ والعمالقة الحقيقيون ليسوا هؤلاء، وإنما أولئك الذين نسيهم الناس وتجاهلتهم الصحافة وحجبهم الإعلام، وإذا أيد أمر واحد منهم بتأليف كتاب عنه وقفت أمثال الدكتورة سهير القلماوي لتقول: من هذا، من هو (عبد العزيز جاويش) ذلك لأن جاويش ليس من مدرسة لطفي السيد وكان خصمًا لخصوم الإسلام والعربية ومدافعًا عن اللغة العربية أمام المستشرقين الذين حاولوا اغتيالها في مؤتمر الجزائر سنة 1905.
وكثيرون هم الشوامخ الحقيقيون، ولكن طه حسين وهؤلاء ليسوا إلا أقزام من التغريبيين غلمان المستشرقين الذين أعطاهم النفوذ الأجنبي هذه الشهرة والمكانة وظل يدافع عنهم حتى اليوم، حماية لوجودهم من خلالهم وإلا فقل لي بربك من غير طه حسين يقام له حفل سنوي يدعى إليه المستشرقون من كل مكان في أوروبا، ولماذا لا يقام هذا التقدير لمصطفى صادق الرافعي أو رشيد رضا أو شكيب أرسلان.
الحقيقة أن هذه الحملة تحت اسم هدم الشوامخ هي حملة باطلة وإلا فمن الذي هدم جمال الدين الأفغاني والمتنبي وابن خلدون في العصر الحديث، أليسوا هم أولئك الشوامخ في تقدير التغريبيين.
###6### 2- تقييم المحصول الذي قدمه جيل الرواد بميزان الإسلام
إننا إذا أعدنا النظر في تقسيم هذا المحصول الذي قدمه جيل الرواد وجدنا فيه الشيء القليل النافع الإيجابي ووجدنا أغلبه مما قذفتنا به رياح السموم، هذه الأطروحات التي كتبها الأعلام الذين تصدروا الحياة الأدبية: ما وزنها في مجال البحث العلمي: لقد تبين أن رسالة الدكتور طه للدكتوراه في السربون عن ابن خلدون هي ترديد لأفكار اليهودي الحاقد على الإسلام وأعلامه (دوركايم) وأنها تنتقص هذا الرجل انتقاصًا شديدًا، ونجد أطروحة منصور فهمي عن (المرأة في التقاليد الإسلامية) وهي ترديد صارخ لأكاذيب المستشرقين واتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه استثنى نفسه من قانون الزواج وهي أفكار دهاقنة اليهود، وإذا نظرنا في رسالة زكي مبارك عن (الأخلاق عند الغزالي) نجدها ترديدًا لأكاذيب المستشرقين عن الغزالي واتهامه بأنه متأثر بالمسيحية، فإذا راجعنا كتاب (مع المتنبي) لطه حسين وجدناه مأخوذًا من أحقاد المستشرقين وفي مقدمتهم (بلاشير).
فإذا راجعنا كتاب علي عبد الرازق عن (الإسلام وأصول الحكم) وجدناه مأخوذًا بكامله من رسالة لمرجليوث، وإذا نظرنا في كتاب (الشعر الجاهلي) وجدناه مرددًا لنظرية قدمها مرجليوث أيضًا عن انتحال الشعر يرمي بها القرآن نفسه، أما آراء سلامة موسى فقد كانت منقولة نقلا مباشرًا من كتابات: داروين وفرويد وماركس ودوركايم.
أما العقاد فقد تأثر تأثرًا واضحًا بنظريات مقارنات الأديان في كتابه عن (الله) وتأثر بنظريات الوراثة في كتاباته عن الصحابة.
كان الهدف هو إخضاع الفكر الإسلامي في مختلف جوانبه للنظرية المادية الغربية، بدأ ذلك جرجي زيدان في كتاباته عن الأدب العربي والتمدن الإسلامي والروايات الإسلامية، ومضى على الطريق كل من جاء بعد ذلك، فكتاب ###7### (حياة محمد) على ما به من دفاع عن الإسلام خرج من عباءة المستشرقين وكتاب التغريب وتبنى نظريات الكاثوليكي الفرنسي (دوركايم) وأنكر ما سوى القرآن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ورفض مفهوم الإسراء بالروح والجسم وتبنى عديدًا من مفاهيم الفكر المسيحي الغربي.
أما الذين قدموا مفاهيم الإسلام الأصيلة فقد أبقاهم النفوذ الغربي المسيطر على الحياة الثقافية في مصر والبلاد العربية – إبقاءهم في الظل فقد سبقت ولحقت كتابات هيكل عن الرسول صلى الله عليه وسلم كتابات كثيرة: (محمد أحمد جاد المولى، محمد مصطفى نجيب).
ومن بعد جاء محمد الغزالي, محمد سعيد البوطي, أبو الحسن الندوي, وكثيرون ولكن هناك تركيز في دائرة الضوء على كتاب معين أو كتب بعينها وفي مختلف الميادين الفكرية والثقافية تجد التعتيم نحو الأسماء الكريمة الأصيلة وهناك مؤامرة الصمت قائمة إزاءها وإزاء كتاباتها:
أي الفريقين أحق بأن يوصف بالشموخ والريادة وجيل العمالقة: هؤلاء أتباع التغريب وغلمان المستشرقين والذين حملوا لواء تزييف الفكر في كل مجال من مجالاته حيث سيطر لطفي السيد على الدعوى العامية أو قاسم أمين لإخراج المرأة من بيئتها أم سعد زغلول لدعوة تعليم اللغة الإنجليزية أم طه حسين للدعوة للأدب الفرنسي أم سلامة موسى للدعوة على دارون وفرويد وماركس، أم حسين فوزي للدعوة إلى الموسيقى الصاخبة أم لويس عوض للدعوة إلى الفرعونية أم ساطع الحصري للدعوة على القومية الغربية أم على عبد الرازق للدعوة إلى العلمانية... هؤلاء أحق بأن يوصفوا بأنهم الشوامخ وتقوم الأقلام لحمايتهم من كشف زيفهم ومن تعرية خبثهم ومن وضعهم في مكانهم الصحيح فلا تخدع بهم الأمة، أم هؤلاء الأبرار:
جمال الدين، محمد عبده، مصطفى صادق الرافعي، رشيد رضا، شكيب أرسلان، محب الدين الخطيب، أحمد زكي باشا، طاهر الجزائري، أحمد تيمور، المويلحي، الكواكبي، علال الفاسي، عبد العزيز جاويش، البكري، المنفلوطي، الزيات، ###8### الثعالبي، عبد الرحمن عزام، عبد الوهاب عزام، عبد الحميد بن إدريس، حسن البنا، حسن حسني عبد الوهاب، فريد وجدي، الغلابيني، طنطاوي جوهري، عبد الوهاب خلاف وآخرون.
هؤلاء في الحقيقة هم الذين صنعوا نهضة مصر والشرق والإسلام وخاصة في مجال النضال الوطني والتحرر من النفوذ الأجنبي هؤلاء هم الذين وضعوا قواعد البناء الفكري الإسلامي الحديث.
ولقد ادعى لطفي السيد وسعد زغلول وطه حسين أنهم أولياء جمال الدين أو محمد عبده، ولكن طريقتهم وأسلوبهم كذب هذه الدعوة وكشف زيفها، بل أن طه حسين نفسه أعلن خروجه على محمد عبده، وأحمد زكي باشا، والشيخ الخضري، أساتذته وهاجمهم.
إن الحقيقة التي لا يختلف فيها الآن بعد أن ظهرت عشرات الدراسات مصححة للوقائع، في ضوء مفهوم اليقظة الإسلامية، أن هذه الأسماء اللامعة التي ما تزال تتردد، إنما يراد بها أن تحجب تلك الأضواء الساطعة، وهي في الحقيقة لم تصنع تلك النهضة، وإنما صنعها أولئك الأبرار ووضعوا لها القواعد، هذه الأسماء المجهلة في ميزان الشهرة المعاصرة الكاذبة التي يوقد نارها التغريب والاستشراق، أولئك المخلصون الصادقون فإن أحدًا لم يذكرهم اليوم، أما هؤلاء الذين خدعوا الناس بأن حملوا لواء قيادة الفكر فإنهم لا يمكن وصفهم بالريادة ولا بالبطولة ولا بالقيادة لأن عوامل ذلك كله تنقصهم وأبرز عوامل قبول الأمة لهم وإيمانها بصدقهم وثقتها فيهم، أنهم لم يكسبوا شهرتهم نتيجة خصوبة فكرهم أو صدق إيمانهم وإنما لأنهم عملوا في مجال السياسة والحزبية والصحافة يومًا بعد يوم، في ذلك الركام المضطرب العاصف من الصراع الحزبي والجدل السياسي والهجاء المرير فأعطاهم هذا كله: ذلك البريق وتلك الشهرة، واستطاعوا أن يركبوا كل موجة فلما جاءت موجة الإسلام ركبوها ظنًا منهم أن يسيطروا عليها ودفعًا من سادتهم لكي يحولوا وجهتها.
هذا ما أعطاهم الشهرة (وهي ليست مقياسًا حقيقيًا للبطولة) أما جهدهم الحقيقي في مجال بناء النهضة فهو قليل بل هم المعوقين لها الذين شقوا جبهتها الموحدة، ###9### وأمثال هؤلاء اللامعين لم تكن كتاباتهم في الأدب والفكر تساوي واحدًا من مائة من كتاباتهم السياسية والحزبية المنسية بأدنى ألوان الجدل والهجاء، ولم تكن تساوي واحدًا من ألف من كتابات ذوي الأصالة والثقافة والنتاج الجيد وأصحاب الأقلام الموجهة لخدمة كلمة الله الداعية لأن تكون كلمة الله هي العليا.
ولكن السياسة والحزبية والنفوذ التغريبي هو الذي أعطاهم لمعان الاسم حتى جاء اليوم الذي يسمون فيه بالقمم الشوامخ.
إن أسماء كثيرة هي التي أعطت النهضة الإسلامية دفعتها القوية من علماء ومن كتاب يمثلون الأصالة الحقة وليس أولئك المغربون هم الذين قاموا بهذا الدور، ونحن لا ننكر عنهم أنهم شاركوا فيه بجهد ضئيل (ولكن ما قدموه وصف يومًا بأنه أشبه بالخروب: خشب كثير وسكر قليل) وكانت لهم أخطاء وانحرافات وقليل منهم من صدق الله النية في العودة إلى الحق، ذلك أنهم كانوا غربيين بحكم الثقافة الأولى التي كونتهم ولذلك كان دخولهم إلى فهم الإسلام ليس نقيًا النقاء الكامل بل كانت تختلط به تشوهات الفكر المادي وتراكمات المفاهيم الإغريقية والرومانية والمسيحية المسيطرة عن نتاج الفكر الغربي كله. ولأنهم بدأوا كتاباتهم الإسلامية بمناهج الغرب – كانوا كالمستشرقين – أعجز عن فهم مناهج الإسلام فتخبطوا وأخطأوا، ونقلوا عن كتب التبشير وكتب الاستشراق وعجزوا عن الأصالة الحقة.
يقول الدكتور محمد محمد حسين: إن طه حسين والعقاد لا ينتميان أصلا إلى المدرسة الإسلامية من الناحية الفكرية، ولكنهما ينتميان منذ نشأتهما الأولى إلى (المدرسة الليبرالية) المتحررة التي تعتبر (لطفي السيد) أستاذها الأول في جيلها، والمدرسة الليبرالية تحكم العقل المجرد والمتحرر من كل المواريث الفكرية والسلوكية، في كل شيء، ولا نبالي أن تلتقي مع الدين في كل وجهات النظر أو بعضها أو تتعارض معه وتخالفه، ولكن طه حسين كان أكثر عنفًا وأكثر جرأة في معارضة الدين، وفي المجاهرة بما يثير الناس ليلفت إلى نفسه الأنظار، لقد هاجم طه حسين أباه فما كان يتلوه من أوراد في أعقاب الصلاة وفي الليل (في كتاب الأيام) غير أن طه حسين والعقاد قد اكتسحتهما الوجهة الإسلامية العارمة فتتابعت كتبهما بعد ###10### أصبح ذلك هو البدع الشائع الذي يغمر الأسواق، ولم يعد التشدق بالكفر ونظرياته المستوردة سمة من سمات المفكرين، تستهوي الإغراء من الثبات كما كان في العشرينات. ويرجع هذا الانقلاب الفكري إلى عدة عوامل عدلت بالناس وبكثير من المفكرين عن طريق احتذاء الحضارة الغربية والفكر الغربي وردتهم إلى طريق الإسلام منها، موجة التنصر وهجرة اليهود إلى فلسطين وسقوط الخلافة على يد الكماليين، وظهور جمعيات إسلامية عظيمة.
إن هناك قاعدة أساسية ينبغي أن توضع في الحسبان حين يوزن الأدباء والمفكرون من وجهة النظر الإسلامية، وهي أن الإسلام نظرية في السلوك بمثل ما أنه نظرية في المعرفة ولذلك كان من المهم أن لا يقبل فكر إسلامي أو أدب إسلامي من مفكر أو أدب لا يمار الإسلام ولا يلتزم به ومعروف أن طه حسين والعقاد لم يكونا ممارسين الإسلام في أصوله الأصيلة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن كتاب مصر هؤلاء: الشوامخ الرواد، لم يحاربوا الاستعمار ولا الاستبداد،
إن من طبيعة الفكر الإسلامي أن يعقد مقارنة بين جيل وجيل لتقييم ما طرحه الجيل السابق ووزنه بميزان الأصالة والتقدير الحقيقي الحر البعيد عن الأهواء المتحرر من الولاء والخضوع لما خضع له الجيل السابق، وقد تتابعت في تاريخ الفكر الإسلامي عملية (إعادة النظر) وإعادة تقييم المراحل هذه، حتى غدت مسألة طبيعية بل وضرورية لمواكبة سير الإنسانية على الطريق الصحيح إلى الغاية الأصيلة وتصفية الفكر الإسلامي في كل مرحلة من الدخائل.
ومنذ ظهرت طلائع حركة اليقظة الإسلامية بمفاهيم المنهج القرآني الأصيلة بدأت عملية إعادة النظر في كل ما كتب في مرحلة النفوذ الأجنبي والاحتواء والسيطرة الأجنبية والتبعية للفكر الغربي المسيطر من خلال معاهد الإرساليات والابتعاث إلى البلاد الأجنبية وما حمله هؤلاء العائدون من مذاهب ونظريات وما حاولوا من خلاله إخضاع الفكر الإسلامي وتاريخ الإسلام والتراث إليه من نظريات تقوم على أساس الفلسفة المادية والانشطارية التي عرف بها الفكر الغربي وتلك قضية كبرى معروفة تحت اسم: حركة التغريب والغزو الثقافي.
واليوم ترتفع صيحة في معسكر التغريب والغزو الثقافي تعارض هذه المراجعة وتصد هذا التقييم الذي يقوم به رواد حركة اليقظة بمفاهيم الإسلام للفكر المعاصر الذي خضع فترة للنفوذ الأجنبي وجرت محاولة احتوائه وتدميره وتغريبه.
وهذه الصيحة اليوم تحمل رمزًا لامعًا خطيرًا هو التساؤل عن الخطأ الذي يجري في مواجهة جيل العمالقة والقمم الشوامخ، هؤلاء الذين قدموا للأمة ذلك الفيض الدافق من البطاقات والآراء والنظريات التي تقوم عليها الآن الدراسات العربية والأدب والشعر والفن وفي مختلف مجالات الفكر.
###4### والحقيقة أن ما قدمته هذه المدرسة التي يسمونها تارة باسم الرواد وتارة باسم جيل العمالقة والقمم الشوامخ، ليس إلا عصارات من الفكر الغربي انتزعت من هنا أو هناك، وخلاصات ومترجمات لمضامين ذلك الفكر الذي سيطر على الغرب تحت اسم الفلسفة المادية ومدرسة العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، وهو خلاصة ما كتب دارون ودوركايم وفرويد وسارتر وماركس وانجلز ومترجمات للقصص الجنسي والإباحي من الأدب الفرنسي وكان الصراع في أول الأمر قائمًا بين اللاتينيون والسكسون هؤلاء مع المدرسة الإنجليزية (العقاد والمازني وشكري) وأولئك مع المدرسة الفرنسية (خليل مطران وطه حسين وهيكل).
ثم جاء الصراع الثاني بين المدرسة الليبرالية (لطفي السيد – طه حسين، وحسين فوزي وزكي نجيب محمود) ومن المدرسة الكلاسيكية (سلامة موسى وحسين فوزي ومندور) ثم جاءت المدرسة الإنسانية الماسونية (الهومنيزم) وعلى رأسها لويس عوض.
وكل ما قدم في هذه المرحلة منذ بدأت هذه المدرسة على يد أستاذ الجيل (لطفي السيد) وحتى اليوم هو فتات موائد الغرب بشقيه، ولم يكن هؤلاء الأدباء والكتاب من أصحاب الأسماء اللامعة إلا قناطر بين الساحلين، ولم يكن ما نقل خلال هذه الفترة سواء على لسان من قدموه على أنه فكرهم الخالص أو ما ترجموه، لم يكن فكرًا حرًا خالصًا أريد به خدمة هذه الأمة، ولم يكن مقصودًا به ترسيخ الوجود الفكري الثقافي لأمة تملك مفهومًا أساسيًا جامعًا للفكر والحياة والمجتمع، وإنما كان فكرًا متحيزًا مقصود به تسميم قنوات الفكر الإسلامي وإفسادها وتحويل وجهة هذه الأمة وتغيير ملامحها والقضاء على ذاتيتها وأعرافها الإسلامية والعربية الأصيلة، كان هذا واضحًا في كل ما نقل وما ترجم حتى فيما وصى به من إحياء التراث الإسلامي العربي، كان هدف ذلك كله الدعوة إلى إخراج هذه الأمة من مقوماتها الأصيلة وصهرها في بوتقة الفكر الغربي المادي اللحد الوثني ربيب الفكر الإغريقي القائم على علم الأصنام ودفع هذه الأمة بعيدًا عن طريقها الأصيل بوصفها صاحبة المنهج التجريبي الذي صنع الحضارة المعاصرة، وصاحبة منهج المعرفة ذي الجناحين (الروح والمادة) والقائم على منهج الثوابت والمتغيرات إلى منهج انشطاري مادي خالص، وحق في هذا ما قال البعض بأنهم أخذوا المنهج العلمي ###5### التجريبي مع المسلمين وأوردوا المسلمين إلى منهج أرسطو الذي رفضه المسلمون قديمًا وهاجمته الحضارة المعاصرة في عصر النهضة.
إذن فالحملة المثارة تحت عنوان خطير: (هدم الشوامخ من أجل من) هي محاولة جديدة لمحاولة تثبيت دعائم هذه المؤامرة القديمة التي تكشف مخططها، ومغالطة واضحة تقوم على التعميم يهدم الشوامخ فمن هؤلاء الشوامخ الذي جرى هدمهم، وهل من أجل أمثال طه حسين ولويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود يطلق اسم الشوامخ بينما حقيقة الأمر أن الشوامخ هم غير هؤلاء، إنهم أولئك المجاهدون الصادقون الذين لا يذكرهم أحد ولا يتحدث عنهم أحد، الذين وضعوا في الظن وأقيمت حولهم مؤامرة الصمت، لأنهم قدموا لأمتهم معطيات وافرة ودلوا أمتهم على طريق الأصالة والنهضة الحقيقية.
والحقيقة التي يتجاهلها أتباع التغريب والغزو الثقافي أن الشوامخ والعمالقة الحقيقيون ليسوا هؤلاء، وإنما أولئك الذين نسيهم الناس وتجاهلتهم الصحافة وحجبهم الإعلام، وإذا أيد أمر واحد منهم بتأليف كتاب عنه وقفت أمثال الدكتورة سهير القلماوي لتقول: من هذا، من هو (عبد العزيز جاويش) ذلك لأن جاويش ليس من مدرسة لطفي السيد وكان خصمًا لخصوم الإسلام والعربية ومدافعًا عن اللغة العربية أمام المستشرقين الذين حاولوا اغتيالها في مؤتمر الجزائر سنة 1905.
وكثيرون هم الشوامخ الحقيقيون، ولكن طه حسين وهؤلاء ليسوا إلا أقزام من التغريبيين غلمان المستشرقين الذين أعطاهم النفوذ الأجنبي هذه الشهرة والمكانة وظل يدافع عنهم حتى اليوم، حماية لوجودهم من خلالهم وإلا فقل لي بربك من غير طه حسين يقام له حفل سنوي يدعى إليه المستشرقون من كل مكان في أوروبا، ولماذا لا يقام هذا التقدير لمصطفى صادق الرافعي أو رشيد رضا أو شكيب أرسلان.
الحقيقة أن هذه الحملة تحت اسم هدم الشوامخ هي حملة باطلة وإلا فمن الذي هدم جمال الدين الأفغاني والمتنبي وابن خلدون في العصر الحديث، أليسوا هم أولئك الشوامخ في تقدير التغريبيين.
###6### 2- تقييم المحصول الذي قدمه جيل الرواد بميزان الإسلام
إننا إذا أعدنا النظر في تقسيم هذا المحصول الذي قدمه جيل الرواد وجدنا فيه الشيء القليل النافع الإيجابي ووجدنا أغلبه مما قذفتنا به رياح السموم، هذه الأطروحات التي كتبها الأعلام الذين تصدروا الحياة الأدبية: ما وزنها في مجال البحث العلمي: لقد تبين أن رسالة الدكتور طه للدكتوراه في السربون عن ابن خلدون هي ترديد لأفكار اليهودي الحاقد على الإسلام وأعلامه (دوركايم) وأنها تنتقص هذا الرجل انتقاصًا شديدًا، ونجد أطروحة منصور فهمي عن (المرأة في التقاليد الإسلامية) وهي ترديد صارخ لأكاذيب المستشرقين واتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه استثنى نفسه من قانون الزواج وهي أفكار دهاقنة اليهود، وإذا نظرنا في رسالة زكي مبارك عن (الأخلاق عند الغزالي) نجدها ترديدًا لأكاذيب المستشرقين عن الغزالي واتهامه بأنه متأثر بالمسيحية، فإذا راجعنا كتاب (مع المتنبي) لطه حسين وجدناه مأخوذًا من أحقاد المستشرقين وفي مقدمتهم (بلاشير).
فإذا راجعنا كتاب علي عبد الرازق عن (الإسلام وأصول الحكم) وجدناه مأخوذًا بكامله من رسالة لمرجليوث، وإذا نظرنا في كتاب (الشعر الجاهلي) وجدناه مرددًا لنظرية قدمها مرجليوث أيضًا عن انتحال الشعر يرمي بها القرآن نفسه، أما آراء سلامة موسى فقد كانت منقولة نقلا مباشرًا من كتابات: داروين وفرويد وماركس ودوركايم.
أما العقاد فقد تأثر تأثرًا واضحًا بنظريات مقارنات الأديان في كتابه عن (الله) وتأثر بنظريات الوراثة في كتاباته عن الصحابة.
كان الهدف هو إخضاع الفكر الإسلامي في مختلف جوانبه للنظرية المادية الغربية، بدأ ذلك جرجي زيدان في كتاباته عن الأدب العربي والتمدن الإسلامي والروايات الإسلامية، ومضى على الطريق كل من جاء بعد ذلك، فكتاب ###7### (حياة محمد) على ما به من دفاع عن الإسلام خرج من عباءة المستشرقين وكتاب التغريب وتبنى نظريات الكاثوليكي الفرنسي (دوركايم) وأنكر ما سوى القرآن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ورفض مفهوم الإسراء بالروح والجسم وتبنى عديدًا من مفاهيم الفكر المسيحي الغربي.
أما الذين قدموا مفاهيم الإسلام الأصيلة فقد أبقاهم النفوذ الغربي المسيطر على الحياة الثقافية في مصر والبلاد العربية – إبقاءهم في الظل فقد سبقت ولحقت كتابات هيكل عن الرسول صلى الله عليه وسلم كتابات كثيرة: (محمد أحمد جاد المولى، محمد مصطفى نجيب).
ومن بعد جاء محمد الغزالي, محمد سعيد البوطي, أبو الحسن الندوي, وكثيرون ولكن هناك تركيز في دائرة الضوء على كتاب معين أو كتب بعينها وفي مختلف الميادين الفكرية والثقافية تجد التعتيم نحو الأسماء الكريمة الأصيلة وهناك مؤامرة الصمت قائمة إزاءها وإزاء كتاباتها:
أي الفريقين أحق بأن يوصف بالشموخ والريادة وجيل العمالقة: هؤلاء أتباع التغريب وغلمان المستشرقين والذين حملوا لواء تزييف الفكر في كل مجال من مجالاته حيث سيطر لطفي السيد على الدعوى العامية أو قاسم أمين لإخراج المرأة من بيئتها أم سعد زغلول لدعوة تعليم اللغة الإنجليزية أم طه حسين للدعوة للأدب الفرنسي أم سلامة موسى للدعوة على دارون وفرويد وماركس، أم حسين فوزي للدعوة إلى الموسيقى الصاخبة أم لويس عوض للدعوة إلى الفرعونية أم ساطع الحصري للدعوة على القومية الغربية أم على عبد الرازق للدعوة إلى العلمانية... هؤلاء أحق بأن يوصفوا بأنهم الشوامخ وتقوم الأقلام لحمايتهم من كشف زيفهم ومن تعرية خبثهم ومن وضعهم في مكانهم الصحيح فلا تخدع بهم الأمة، أم هؤلاء الأبرار:
جمال الدين، محمد عبده، مصطفى صادق الرافعي، رشيد رضا، شكيب أرسلان، محب الدين الخطيب، أحمد زكي باشا، طاهر الجزائري، أحمد تيمور، المويلحي، الكواكبي، علال الفاسي، عبد العزيز جاويش، البكري، المنفلوطي، الزيات، ###8### الثعالبي، عبد الرحمن عزام، عبد الوهاب عزام، عبد الحميد بن إدريس، حسن البنا، حسن حسني عبد الوهاب، فريد وجدي، الغلابيني، طنطاوي جوهري، عبد الوهاب خلاف وآخرون.
هؤلاء في الحقيقة هم الذين صنعوا نهضة مصر والشرق والإسلام وخاصة في مجال النضال الوطني والتحرر من النفوذ الأجنبي هؤلاء هم الذين وضعوا قواعد البناء الفكري الإسلامي الحديث.
ولقد ادعى لطفي السيد وسعد زغلول وطه حسين أنهم أولياء جمال الدين أو محمد عبده، ولكن طريقتهم وأسلوبهم كذب هذه الدعوة وكشف زيفها، بل أن طه حسين نفسه أعلن خروجه على محمد عبده، وأحمد زكي باشا، والشيخ الخضري، أساتذته وهاجمهم.
إن الحقيقة التي لا يختلف فيها الآن بعد أن ظهرت عشرات الدراسات مصححة للوقائع، في ضوء مفهوم اليقظة الإسلامية، أن هذه الأسماء اللامعة التي ما تزال تتردد، إنما يراد بها أن تحجب تلك الأضواء الساطعة، وهي في الحقيقة لم تصنع تلك النهضة، وإنما صنعها أولئك الأبرار ووضعوا لها القواعد، هذه الأسماء المجهلة في ميزان الشهرة المعاصرة الكاذبة التي يوقد نارها التغريب والاستشراق، أولئك المخلصون الصادقون فإن أحدًا لم يذكرهم اليوم، أما هؤلاء الذين خدعوا الناس بأن حملوا لواء قيادة الفكر فإنهم لا يمكن وصفهم بالريادة ولا بالبطولة ولا بالقيادة لأن عوامل ذلك كله تنقصهم وأبرز عوامل قبول الأمة لهم وإيمانها بصدقهم وثقتها فيهم، أنهم لم يكسبوا شهرتهم نتيجة خصوبة فكرهم أو صدق إيمانهم وإنما لأنهم عملوا في مجال السياسة والحزبية والصحافة يومًا بعد يوم، في ذلك الركام المضطرب العاصف من الصراع الحزبي والجدل السياسي والهجاء المرير فأعطاهم هذا كله: ذلك البريق وتلك الشهرة، واستطاعوا أن يركبوا كل موجة فلما جاءت موجة الإسلام ركبوها ظنًا منهم أن يسيطروا عليها ودفعًا من سادتهم لكي يحولوا وجهتها.
هذا ما أعطاهم الشهرة (وهي ليست مقياسًا حقيقيًا للبطولة) أما جهدهم الحقيقي في مجال بناء النهضة فهو قليل بل هم المعوقين لها الذين شقوا جبهتها الموحدة، ###9### وأمثال هؤلاء اللامعين لم تكن كتاباتهم في الأدب والفكر تساوي واحدًا من مائة من كتاباتهم السياسية والحزبية المنسية بأدنى ألوان الجدل والهجاء، ولم تكن تساوي واحدًا من ألف من كتابات ذوي الأصالة والثقافة والنتاج الجيد وأصحاب الأقلام الموجهة لخدمة كلمة الله الداعية لأن تكون كلمة الله هي العليا.
ولكن السياسة والحزبية والنفوذ التغريبي هو الذي أعطاهم لمعان الاسم حتى جاء اليوم الذي يسمون فيه بالقمم الشوامخ.
إن أسماء كثيرة هي التي أعطت النهضة الإسلامية دفعتها القوية من علماء ومن كتاب يمثلون الأصالة الحقة وليس أولئك المغربون هم الذين قاموا بهذا الدور، ونحن لا ننكر عنهم أنهم شاركوا فيه بجهد ضئيل (ولكن ما قدموه وصف يومًا بأنه أشبه بالخروب: خشب كثير وسكر قليل) وكانت لهم أخطاء وانحرافات وقليل منهم من صدق الله النية في العودة إلى الحق، ذلك أنهم كانوا غربيين بحكم الثقافة الأولى التي كونتهم ولذلك كان دخولهم إلى فهم الإسلام ليس نقيًا النقاء الكامل بل كانت تختلط به تشوهات الفكر المادي وتراكمات المفاهيم الإغريقية والرومانية والمسيحية المسيطرة عن نتاج الفكر الغربي كله. ولأنهم بدأوا كتاباتهم الإسلامية بمناهج الغرب – كانوا كالمستشرقين – أعجز عن فهم مناهج الإسلام فتخبطوا وأخطأوا، ونقلوا عن كتب التبشير وكتب الاستشراق وعجزوا عن الأصالة الحقة.
يقول الدكتور محمد محمد حسين: إن طه حسين والعقاد لا ينتميان أصلا إلى المدرسة الإسلامية من الناحية الفكرية، ولكنهما ينتميان منذ نشأتهما الأولى إلى (المدرسة الليبرالية) المتحررة التي تعتبر (لطفي السيد) أستاذها الأول في جيلها، والمدرسة الليبرالية تحكم العقل المجرد والمتحرر من كل المواريث الفكرية والسلوكية، في كل شيء، ولا نبالي أن تلتقي مع الدين في كل وجهات النظر أو بعضها أو تتعارض معه وتخالفه، ولكن طه حسين كان أكثر عنفًا وأكثر جرأة في معارضة الدين، وفي المجاهرة بما يثير الناس ليلفت إلى نفسه الأنظار، لقد هاجم طه حسين أباه فما كان يتلوه من أوراد في أعقاب الصلاة وفي الليل (في كتاب الأيام) غير أن طه حسين والعقاد قد اكتسحتهما الوجهة الإسلامية العارمة فتتابعت كتبهما بعد ###10### أصبح ذلك هو البدع الشائع الذي يغمر الأسواق، ولم يعد التشدق بالكفر ونظرياته المستوردة سمة من سمات المفكرين، تستهوي الإغراء من الثبات كما كان في العشرينات. ويرجع هذا الانقلاب الفكري إلى عدة عوامل عدلت بالناس وبكثير من المفكرين عن طريق احتذاء الحضارة الغربية والفكر الغربي وردتهم إلى طريق الإسلام منها، موجة التنصر وهجرة اليهود إلى فلسطين وسقوط الخلافة على يد الكماليين، وظهور جمعيات إسلامية عظيمة.
إن هناك قاعدة أساسية ينبغي أن توضع في الحسبان حين يوزن الأدباء والمفكرون من وجهة النظر الإسلامية، وهي أن الإسلام نظرية في السلوك بمثل ما أنه نظرية في المعرفة ولذلك كان من المهم أن لا يقبل فكر إسلامي أو أدب إسلامي من مفكر أو أدب لا يمار الإسلام ولا يلتزم به ومعروف أن طه حسين والعقاد لم يكونا ممارسين الإسلام في أصوله الأصيلة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن كتاب مصر هؤلاء: الشوامخ الرواد، لم يحاربوا الاستعمار ولا الاستبداد،