كتبتْ حركاتُ الدّفاع عن البيئة (أو حركات البيئويّين) في بلدان الغرب، طَوال الأربعين عاماً الأخيرة، صفحاتٍ مجيدةً في الرّدّ على أفعال العدوان التي طالتِ البيئةَ والطّبيعة من الصّناعات والحروب ومن تلويث المياه والتّربة بالنّفايات الصّناعيّة وتلويث الهواء النّاجم من انبعاثات غازات المَرْكبات في المدن، ومن العنف التّكنولوجيّ العشوائيّ والمنظَّم.
العدوانات التي تديرُها دولٌ وشركاتٌ وشبكاتُ مصالح يقف وراءها محرِّكٌ أساسٌ ومدبِّر هو الرّأسمال؛ هذا الذي لا يحرّكُه أيُّ مبدإٍ عدا مبدأ المنفعة، ولو كانت كُلفةُ تحصيلها عاليةً من حياة النّاس!
والحقُّ أنّ أحداً ما كان يصدّق، في سنوات السّبعينيّات، أنّ حركة الدّفاع عن البيئة - التي أطلّت في ألمانيا، ابتداءً، باسم "الخُضْر" - سيتّسع نطاق جمهورها وأُطُرها في أوروبا إلى الحدّ الذي ستتحوّل فيه، في بعض بلدانها، إلى فاعلٍ سياسيّ كبير في تشكيل التّوازنات والحكومات. والأهمُّ من تعاظُم فرصِ تمثيلها السّياسيّ في البرلمانات والحكومات تأثيرُها الاجتماعيّ الكبير في بيئاتٍ عريضة من القوى المتضرّرة من السّياسات الصّناعيّة المدمّرة في بلدان الغرب. وما كانت صُوَرُ ذلك التّأثير تتجسَّد في تَكَوُّنِ حاملٍ اجتماعيّ للفكرة البيئويّة، فحسب، ولا في تنامي معدّلات انتشار ثقافة بيئويّة في تلك المجتمعات، فقط، بل أيضاً في أنّ صنّاع القرار في دول الغرب أُجبِروا - تحت وطأة تصاعُد نفوذ حركات البيئة واشتداد مطالب جمهورها - على أن يأخذوا مطالبها في الحسبان عند رسم السّياسات الرّسميّة للتّنميّة.
كان ذلك، في جزءٍ كبيرٍ منه، انتصاراً معنويّاً لحركات البيئة وأفكارها في مجتمعاتٍ ودولٍ تحكُمها قوى الرّأسمال، لكنّه كان، في الوقتِ عينِه، وإنْ على نحوٍ محدود، انتصاراً ماديّاً وسياسيّاً من حيث إنّ مجرّد أخْذ مطالب حركات البيئة في حسبان السّياسات الرّسميّة ومراكز قرارها - إنْ على صعيد الدّول منفردةً أو مجتمعةً كما في مؤتمرات البيئة العالميّة -، والتّعبير عن قدْرٍ من تفهُّم مشروعيّتها ومن استدخالٍ لها في برامج التّنميّة، لَأَمْرٌ يشهد بما في سلوك قوى هذه السّياسات من تنازُلٍ حُمِلَتْ عليه على وجهٍ من الاضطرار. ومع أنّ التّنازلَ إيّاه ليس شاملاً أوروبا وشمال أمريكا برمّتها، وتتفاوت درجاتُه بين دولٍ تذهب سياساتُها بعيداً في التّشريع لاقتصادٍ "صديقٍ للبيئة" وأخرى بالكاد تَلْحظ هذه الحاجات، إلاّ أنّه تنازُلٌ شرَع في التّسويغ - شيئاً فشيئاً - لمنوالٍ تنمويّ جديد أقلّ عنفاً وتدميراً للطّبيعة والبيئة. وهو، اليوم، يتّسع تأثيراً في بيئات اجتماعيّة في بلدان الجنوب، كما في البرازيل والهند والصّين...
ربّما كان لِناشطين يساريّين دورٌ طليعيّ في بلورة الفكرة البيئيّة وفي التّأسيس لميلاد الحركات البيئويّة في البدايات؛ وهو أمرٌ مفهوم بالنّظر إلى أنّ الكتابات الأولى عن البيئة ومخاطر تدمير الصّناعة لها كانت لكتّاب ماركسيّين دَرجوا على نقد الرّأسمال والرّأسماليّة وما فعلاهُ بالإنسان والطّبيعة. غير أنّ القسم الأكبر من جمهور حركات البيئة، اليوم، ليس من هذا المشرب، بلِ الغالب على أكثرهم أنّه لا يعرف الماركسيّة ولا انخرط في أحزاب اليسار وتنظيماته في أزمنة عنفوانها السّياسيّ والإيديولوجيّ. ومعنى ذلك أنّ الفكرة هذه - وحركَتَها النّاشطة - استهْوت جماعات اجتماعيّةً وسياسيّةً وثقافيّة عدّة من اتّجاهات مختلفة فدفعتْها إلى الانخراط الميدانيّ فيها. وهذه الواقعةُ حجّةٌ لفكرة سلامة البيئة من التّخريب والعبث وليست حجّةً عليها - كما يبغي أَخصامُها تصويرَ الأمر-، على الأقلّ لجهة التّدليل على أنّها فكرة غير إيديولوجيّة لأنّ قواها ليست إيديولوجيّة أو، لنقُل، ليست جميعُها إيديولوجيّة؛ ثمّ لجهة التّدليل على أنّ مطلب البيئة النّظيفة، الطّبيعيّة غير الملوَّثة، محطُّ إجماعٍ من القوى الاجتماعيّة، بل من الشّعوب كافّة لأنّه يتعلّق بمسألةٍ حيويّة أو تتوقّف عليها الحياة على ظهر هذا الكوكب. هكذا يصير المُعْتدون على البيئة بالتّصنيع والاستغلال التّقنيّ العنيف - بهذه الطّريقة في التّعريف بقضيّة البيئة - شواذّاً خارجين عن إجماع البشريّة على وجوب إحاطة حُرمة البيئة والنّظام الطّبيعيّ بالتّوقير اللاّزم، فيما تكتسب حركات الدّفاع عن البيئة شرعيّةً متزايدةً في العالم، بما في ذلك في البيئات التي لم تكن منتبهةً إلى مخاطر تدمير البيئة على الوجود الإنسانيّ والطّبيعيّ.
على أنّ اتّساع نطاق حركات الدّفاع عن البيئة ومناهضة السّياسات التي تفضي إلى تدمير نظامها الطّبيعيّ - وإنْ كان هو يوسِّع من دائرةِ المعركة ضدّ الرّأسمال وقواه ومنطق المنفعة الخاصّة الضّيّقة - ليس مَسْلكاً منتهياً، بالضّرورة، إلى تقويض مصالح قوى الرّأسمال على نحوٍ حاسم - كما كان يتوقّع ذلك كثيرٌ من اليساريّين في الماضي القريب (أَيَّانَ انخرطوا في حركات البيئة بعد تداعي حركاتهم السّياسيّة) - ولا إلى إغلاق منافذ الرّبح عليهم في ميدان البيئة. صحيح أنّ تنامي حركات البيئة ومطالبها وضغوطها قد تُلقي بعض القيْد على اندفاعة الرّأسمال والتّصنيع والعنف التّكنولوجيّ أو تَحُدُّ منها، بدرجةٍ مّا، لكنّها لن تُلْحِق عظيمَ الأضرار بمصالح قوى الرّأسمال إلى الحدّ الذي يفرض عليها الخسران. آيُ ذلك أنّ الاستثمارات في مشاريع الاقتصاد البيئيّ، أو "الصّديق" للبيئة، تضاعفت عشرات المرّات في العقدين الأخيريْن، وراكمت قواها - من ورائها - أرباحاً خياليّة لا تقلّ عن تلك التي نجمت من الاستغلال المدمِّر للبيئة.
*نقلا عن سكاى نيوز عربية