د. عبدالاله بلقزيز
الثلاثاء، 18 مارس 2014
اقترن صعود الحركات السياسية الإسلامية بلحظة تراجع نفوذ قوى اليسار وانحسارها في سنوات السبعينات من القرن العشرين، فلقد كانت قوى اليسار حينها (اليسار القومي واليسار الماركسي) قد ولجت، في النصف الثاني من ذلك العقد، طور انكفاء متدرج آذن بانصراف حقبة حركة التحرر الوطني،
الممتدة منذ منتصف الخمسينات، بعد الضربة الموجعة التي تلقتها في حرب العام 1967، وبعد فقدانها قاعدتها الارتكازية (مصر) حين استبدال القاعدة تلك ولاءاتها وخياراتها السياسية بعد رحيل عبدالناصر. وفيما كانت نتائج فقدان القاعدة الحاضنة لليسار (أي مصر) تسري في مجمل الجسم العربي رجحاناً لكفة القوى المحافظة (وقد تعزز معسكرها بانضمام مصر السادات إليها)، كان سريانها أشد في جسم اليسار، أو ما تبقى من ذلك الجسم. وساعد على ذلك أن مراكز عربية أخرى (العراق، سوريا، الجزائر، ليبيا) كانت أعجز من أن تملأ الفراغ القيادي الذي أحدثه خروج مصر - بمعاهدة ’’كامب ديفيد’’- من دائرة النظام العربي. وهكذا ضربت الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية - وهما من أظهر القوى التحررية واليسارية- من دون أن يقوى أحد من العرب على إنقاذهما.
ليس هنا مكان تعليل مجمل الأسباب التي قادت اليسار العربي إلى تلك الانكفاءة المديدة، التي انتهت به إلى حال غير مسبوقة من الأفول (تفاقمت أكثر من انفراط الاتحاد السوفييتي واندلاع حرب الخليج الثانية). لكن الذي لا مراء فيه أن انكفاءته تلك نجم عنها فراغ سياسي مثل البيئة المناسبة لنمو حركات ’’الإسلام الحزبي’’ وانتعاشها. وأياً تكن العوامل التي كانت في أساس نشوء هذه الحركات (داخلية، خارجية، اجتماعية، ثقافية)، فقد كان يسعها أن تبقى حركات سياسية عادية، شأنها شأن غيرها من الحركات السياسية، الوطنية والقومية واليسارية والليبرالية، التي كانت تزخر بها المجتمعات العربية. لكن الحركات الإسلامية لم تبق عادية، إذ سرعان ما تحولت إلى القوى السياسية الأكبر في الميدان، بل القوى الوحيدة في مواجهة السلطة، لسبب هو ما سميناه بحال الفراغ السياسي الذي خلفه تراجع اليسار واضمحلاله.
والحق أن تراجع اليسار، القومي واليساري، لم تستفد منه القوى ’’الليبرالية’’ العربية، على الرغم من أن حقبة انحسار اليسار، منذ نهاية السبعينات حتى اليوم، هي عينها حقبة ازدهار الفكرة الليبرالية في الاقتصاد والسياسة، فلقد شهدنا في الوطن العربي، منذ مطلع الثمانينات، مداً هائجاً لأفكار ’’الاقتصاد الحر’’، وتحرير الأسعار، والخصخصة، وتفكيك القطاع العام، والإسهاب في بيان محاسن التخلي عن سياسات التخطيط المركزي.. إلخ. ورافق ذلك ’’تنظير’’ كثيف لضرورة تخلي الدولة عن وظائفها الاقتصادية من أجل ’’تحرير’’ التنمية من قيودها. ولقد اقترن هذا المدّ بتنامي الدعوات إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحرير المجال السياسي من هيمنة النخب الحاكمة واحتكارها السلطة. ونشأت في امتداد ذلك أدوات حركية، في المعظم من البلاد العربية، من قبيل حركات ومنظمات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وجمعيات المواطنة، ومراقبة الانتخابات وسوى ذلك. غير أن ذلك كله لم ينتج جمهوراً سياسياً واجتماعياً للتيار الليبرالي، إذ ظل الأخير على الهامش ضعيفاً، ضموراً، لا قدرة له على التعبئة والحراك.
وإذ أضاعت القوى ’’الليبرالية’’ على نفسها فرصة الاستفادة من المد الحقوقي العالمي، ومن تراجع نفوذ الحركات القومية واليسارية، أوسعت المجال أمام حال الفراغ السياسي التي أتقن ’’الإسلام الحزبي’’ استثمارها. ولقد ذهب في استثماره الناجح لها إلى الحد الذي استعار فيه مفردات اليسار الثورية، ومنزعه الشعبوي التحريضي، وأعاد إنتاجها تحت سقف ايديولوجي - ديني جديد، في الوقت عينه الذي ركب موجة الليبرالية السياسية (بعد ليبراليته الاقتصادية الفاقعة)، وطفق يشتغل بمنظومتها الأداتية (مؤسسات ’’المجتمع المدني’’، المشاركة السياسية في النقابات والمنظمات الشعبية، المشاركة في الانتخابات..). هكذا بدا وارثاً اليسار في نفسه الثوري، والليبراليين في مشروعهم السياسي، وأصبح قادراً على المخاطبة بأكثر من لغة، وعلى التواصل متنوع الصيغ ومتباين الدرجات، أقصى أشكال العقائدية المغلقة، وأعلى صور البراغماتية، وفائض كثير من الديماغوجية في الخطاب السياسي.
من خراب عمران اليسار نشأت لحظة صعود ’’الإسلام الحزبي’’، ولكن من حجارة ذلك الخراب أقام عمرانه وإن بهندسة أخرى تناسب مَشْربَه.
*التجديد
الثلاثاء، 18 مارس 2014
اقترن صعود الحركات السياسية الإسلامية بلحظة تراجع نفوذ قوى اليسار وانحسارها في سنوات السبعينات من القرن العشرين، فلقد كانت قوى اليسار حينها (اليسار القومي واليسار الماركسي) قد ولجت، في النصف الثاني من ذلك العقد، طور انكفاء متدرج آذن بانصراف حقبة حركة التحرر الوطني،
الممتدة منذ منتصف الخمسينات، بعد الضربة الموجعة التي تلقتها في حرب العام 1967، وبعد فقدانها قاعدتها الارتكازية (مصر) حين استبدال القاعدة تلك ولاءاتها وخياراتها السياسية بعد رحيل عبدالناصر. وفيما كانت نتائج فقدان القاعدة الحاضنة لليسار (أي مصر) تسري في مجمل الجسم العربي رجحاناً لكفة القوى المحافظة (وقد تعزز معسكرها بانضمام مصر السادات إليها)، كان سريانها أشد في جسم اليسار، أو ما تبقى من ذلك الجسم. وساعد على ذلك أن مراكز عربية أخرى (العراق، سوريا، الجزائر، ليبيا) كانت أعجز من أن تملأ الفراغ القيادي الذي أحدثه خروج مصر - بمعاهدة ’’كامب ديفيد’’- من دائرة النظام العربي. وهكذا ضربت الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية - وهما من أظهر القوى التحررية واليسارية- من دون أن يقوى أحد من العرب على إنقاذهما.
ليس هنا مكان تعليل مجمل الأسباب التي قادت اليسار العربي إلى تلك الانكفاءة المديدة، التي انتهت به إلى حال غير مسبوقة من الأفول (تفاقمت أكثر من انفراط الاتحاد السوفييتي واندلاع حرب الخليج الثانية). لكن الذي لا مراء فيه أن انكفاءته تلك نجم عنها فراغ سياسي مثل البيئة المناسبة لنمو حركات ’’الإسلام الحزبي’’ وانتعاشها. وأياً تكن العوامل التي كانت في أساس نشوء هذه الحركات (داخلية، خارجية، اجتماعية، ثقافية)، فقد كان يسعها أن تبقى حركات سياسية عادية، شأنها شأن غيرها من الحركات السياسية، الوطنية والقومية واليسارية والليبرالية، التي كانت تزخر بها المجتمعات العربية. لكن الحركات الإسلامية لم تبق عادية، إذ سرعان ما تحولت إلى القوى السياسية الأكبر في الميدان، بل القوى الوحيدة في مواجهة السلطة، لسبب هو ما سميناه بحال الفراغ السياسي الذي خلفه تراجع اليسار واضمحلاله.
والحق أن تراجع اليسار، القومي واليساري، لم تستفد منه القوى ’’الليبرالية’’ العربية، على الرغم من أن حقبة انحسار اليسار، منذ نهاية السبعينات حتى اليوم، هي عينها حقبة ازدهار الفكرة الليبرالية في الاقتصاد والسياسة، فلقد شهدنا في الوطن العربي، منذ مطلع الثمانينات، مداً هائجاً لأفكار ’’الاقتصاد الحر’’، وتحرير الأسعار، والخصخصة، وتفكيك القطاع العام، والإسهاب في بيان محاسن التخلي عن سياسات التخطيط المركزي.. إلخ. ورافق ذلك ’’تنظير’’ كثيف لضرورة تخلي الدولة عن وظائفها الاقتصادية من أجل ’’تحرير’’ التنمية من قيودها. ولقد اقترن هذا المدّ بتنامي الدعوات إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحرير المجال السياسي من هيمنة النخب الحاكمة واحتكارها السلطة. ونشأت في امتداد ذلك أدوات حركية، في المعظم من البلاد العربية، من قبيل حركات ومنظمات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وجمعيات المواطنة، ومراقبة الانتخابات وسوى ذلك. غير أن ذلك كله لم ينتج جمهوراً سياسياً واجتماعياً للتيار الليبرالي، إذ ظل الأخير على الهامش ضعيفاً، ضموراً، لا قدرة له على التعبئة والحراك.
وإذ أضاعت القوى ’’الليبرالية’’ على نفسها فرصة الاستفادة من المد الحقوقي العالمي، ومن تراجع نفوذ الحركات القومية واليسارية، أوسعت المجال أمام حال الفراغ السياسي التي أتقن ’’الإسلام الحزبي’’ استثمارها. ولقد ذهب في استثماره الناجح لها إلى الحد الذي استعار فيه مفردات اليسار الثورية، ومنزعه الشعبوي التحريضي، وأعاد إنتاجها تحت سقف ايديولوجي - ديني جديد، في الوقت عينه الذي ركب موجة الليبرالية السياسية (بعد ليبراليته الاقتصادية الفاقعة)، وطفق يشتغل بمنظومتها الأداتية (مؤسسات ’’المجتمع المدني’’، المشاركة السياسية في النقابات والمنظمات الشعبية، المشاركة في الانتخابات..). هكذا بدا وارثاً اليسار في نفسه الثوري، والليبراليين في مشروعهم السياسي، وأصبح قادراً على المخاطبة بأكثر من لغة، وعلى التواصل متنوع الصيغ ومتباين الدرجات، أقصى أشكال العقائدية المغلقة، وأعلى صور البراغماتية، وفائض كثير من الديماغوجية في الخطاب السياسي.
من خراب عمران اليسار نشأت لحظة صعود ’’الإسلام الحزبي’’، ولكن من حجارة ذلك الخراب أقام عمرانه وإن بهندسة أخرى تناسب مَشْربَه.
*التجديد