إلى فترةٍ قريبةٍ خَلَت، كان يمكن أن يُنْـظَر إلى العولمة، من طرف قطاعٍ عريضٍ من معارضيها (أفراداً ودولاً ومؤسّسات)، بما هي شرّ أو - في أقـلّ حالٍ - بما هي مسارٌ تمضي فيه البشريّةُ إلى مصيرٍ كارثيّ كالح.
كان لمثل تلك النّظرة السّلبيّة الشّزراء إلى العولمة ما تحتجّ لنفسها به عند أولئك الذين ظلّوا يُلقونها عليها منذ ابتداء أمرها، في مستهل عقد التّسعينيّات الماضي، إلى بداية انقلاب أحوالها مع نهايات العقد الأوّل من هذا القرن. كان يكفي المرءَ، حينذاك، أن يُطالع حالَ التّفاوُتِ الصّارخ في الموارد والقوى والمقدَّرات بين بلدان الشّمال وبلدان الجنوب - بل وحتّى داخل معسكر الشّمال نفسه بين ميتروپولات كبرى ودولٍ أصغر باتت تَبَعاً لها - ليقف على أهوال تلك العولمة وما أثمرتْه من تركيزٍ للثّروات والنّفوذ في مناطق محدودة من العالم، ومن حرمانٍ - في المقابل - للغالبيّة العظمى من بلدان العالم من أيّ إمكانيّات للبقاء والعيش الكريم، بما في ذلك تلك التي كانت متاحةً لها، قـبْلاً، لأنّها كانت في جملة مواردها القوميّة الخاصّة!
هذه واحدة؛ الثّانيَّة أنّه كان يكفي المعارضين أُولاء أن يَلْحظوا تلك المقادير المَهُولة من العدوان على السّيادات الوطنيّة والقوميّة الذي تَـوَلَّد من زحف العولمة على دولٍ صغرى كانت في حكم الهوامش والأطراف؛ وهو العدوان الذي أتى بمعاول الهدم على السّيادات في وجوهها كافّة: السّياسيّة والاقتصاديّة والتّجاريّة والاجتماعيّة- القيميّة والثّـقافيّة! كان يكفي ملاحظة ذلك لتكوين أسوأ صورةٍ - وتقديم أسوأ روايةٍ - عن العولمة على مثال ما شاع فعلاً في الأوساط الأكاديميّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة طَـوال عقديْن من الزّمن، وفي الغالب ردّاً على السّرديّات الورديّة عن العولمة التي كانت (= السّرديّات) قد ازدهرت في الغرب، وشاركت في إشاعتها جيوشٌ جرّارة من الإعلاميّين والصِّحفيّين والسّياسيّين...
كان يمكن لتلك النّظرة القدْحيّة إلى العولمة أن تبرِّر نفسَها بما فعلتْه العولمة في المجتمعات والدّول والأبدان والنّفوس في ذلك الإبّان الذي كانت فيه عولمةً أحاديّة؛ تجري من جانبٍ واحد ويحتكرها جانب واحد هو الغرب الأمريكيّ- الأوروبيّ واليابان. ذلك كان طوراً من أطوارها دشّنته اللّيبراليّة الجديدة في طوْرٍ متوحِّـشٍ منها أطلّ منذ عقد الثّمانينيّات ومهّد، هو نفسُه، لميلاد العولمة. ولكن ما عاد من مبرِّرٍ - بعد تلك البدايات القاسية للعولمة - للإمعان في مناهضتها، بالكليّة، بوصفها شرّاً مستطيراً ينبغي كفُّه، لأنّ تغيُّراتٍ هائلةً طرأت على صورتها وعلى خريطتها فأحدثتْ شرخاً في جدار فرضيّة «نَسَبها» الغربيّ والرّأسماليّ، وكشفت عن حدود إرادة الاحتكار لدى مراكز العولمة وعن إمكان الاستفادة من مُتاحاتها من قِـبَل أيّ دولةٍ أهَّلَتْها قواها ومواردُها ومستوياتُ التّقـدّم العلميّ والصّناعيّ فيها للدّخول في معترك التّنافس على العولمة.
الأهمّ في ذلك التّحوّل الذي طرأ عليها، منذ نهاية العقد الأوّل من هذا القرن، أنّ المراكز الجديدة للعولمة انتقلت من الغرب إلى الشّرق أو من الشّمال إلى الجنوب (الصّين، الهند، روسيا، البرازيل، كوريا الجنوبيّة...)، فقاد انتقالُها ذاك إلى بعضِ التّعديل في مضمون العولمة عينِه. مع هذه المراكز الجديدة تراجعت معدّلات الهيمنة والاحتكار والميْل إلى الإلحاق وتدمير السّيادات الوطنيّة في سياسات الدّول التي تساهم في صناعة العولمة، فيما اتّسع - في المقابل - نطاقُ السّياسات العولميّة النّاحية منحى التّعاون ومنحى إدماج البلدان الصّغرى في سيرورة تشابُك العلاقات بدلاً من إقصائها. والتّغيُّر هذا في مضمون سياسات العولمة يَرُدُّ إلى اختلاف مراكزها الجديدة عن سابقاتها في كونها، في الأغلب الأعمّ منها، دُولاً غيرَ ذاتِ تاريخٍ استعماريّ أو مشروعٍ إمبراطوريّ يُـنَمّي في سياساتها غرائز الهيمنة والتّوحّش والاحتكار. هذا سبب يبرِّر لماذا خفتتْ حدّةُ الحراك العالميّ المناهض للعولمة - خفوتاً نسبيّاً - في السّنوات الأخيرة عمّا كانَـهُ قبل عشرة أعـوام مثلاً.
من البيّن أنّ هذا التبدُّل الطّارئ على صورة العولمة: على قواها وجغرافيّتها ومضمونها، لم يبدِّد فقط ذلك الاعتقادَ المتكدّر عنها بأنّها شرّ، بل كرّس عنها فكرةً جديدة قوامها أنّها فـرصة: فرصة البلدان التي عانتِ الحاجةَ والتّهميش، طويلاً، للخروج من شرنقة التّخلّف والتّبعيّة وحيازة أسباب التّقدّم. مَن كان يتخيّل أنّ مستعمَرةً برتغاليّة قديمة (البرازيل) باتتِ، اليوم، أقوى بأضعاف الأضعاف من البرتغال، وأنّ مستعمرةً بريطانيّة قديمة (الهند) تَخَطَّت مستعمِرَها في موارد القـوّة الاقتصاديّة: الصّناعيّة والتّكنولوجيّة؟! العولمة أكثر حياداً ممّا كنّا نظنّ قبل عقدين أو ثلاثة؛ هي، بالأحرى، حلبة للصّراع بين قـوًى تتنافس عليها درجاتٍ مختلفةً من التّنافس: التّنافس على الصّيرورة شريكاً في صناعة معطياتها، والتّنافس على إدارة مؤسّساتها، والتّنافس على تنمية مضمونها.
*نقلاً عن سكاى نيوز عربية*