د. عبدالاله بلقزيز
ليس في ظاهرة الانشقاقات الحزبية ما يدعو للاعتقاد الجازم بأنها قدَرٌ مقدور في مجال العمل الحزبي.
سبق أن قُلنا - في مقالٍ سابقٍ في هذا المنبر- إن الأحزاب السياسية، القائمة كياناتُها على فكرة المصلحة،
تمتلك من القيم والآليات وقواعد العمل ما به تستوعبُ خلافاتها الداخلية، وتتفادى انفجارها على النحو الذي يؤدي بها إلى الانقسام أو الانشقاقات.
ومع أن الأحزاب العقائدية المغلقة تشكّل بيئةً خصبة لتوليد ظواهر الانقسام والانشقاق، وتتعسَّر فيها، بل تستحيل، فرصُ احتواء تناقضاتها الداخلية ومنعها من الانفجار الانشطاري، إلاّ أن تَوَلُّد إرادة التصحيح، وإعادة البناء، فيها قد يجنّبها الانزلاق إلى متاهة التذرُّر والتشظي.
وهذه إرادةٌ ليست مستحيلةً متى أدركت أنّ عمرانها السياسي والتنظيمي المغلَق آخذٌ إيّاها - حكماً- إلى الانقسامات والانفراط، وأنّ مراجعة هياكلها ويقينياتها وإعادة التأقلم مع معطيات العصر، الفكرية والتنظيمية، عسيَّةٌ بتجنيبها هذا المصير البائس، وتجديد عمرانها.
هذه ليست فرضية، لأن سوابق سياسية معاصرة تشهد بإمكان إحداث مثل ذينك التصحيح وإعادة البناء، متى توافر لذلك قدْرٌ من الإرادة.
المثال التاريخي الطريّ على ذلك ما حصل من إعادةِ بناءٍ وتأهيلٍ للأحزاب الشيوعية، في أوروبا الشرقية، وبعد انهيار «المعسكر الاشتراكي» وانفراط الاتحاد السوفييتي، وتداعي «أمميته» الشيوعية.
حصل ذلك في الوقت الذي تعرّضت فيه رابطةُ العقيدة الحزبية للتمزيق، ونشأت الحاجة - تلقائيًا- إلى رابطة جديدة تلتحم بها المؤسّسة الحزبية.
وما كان أمام تلك الأحزاب كي تستمر وتبقى على قيْد الحياة - بعد هزيمة أيديولوجيتها السياسية- سوى توطين قيمٍ جديدة في كياناتها.
هكذا خففت من غلوائها الشيوعية وتبنَّتْ اشتراكيةً واقعيةً ممكنة؛ وأعادت بناء مؤسّستها على القيم الديمقراطية والتوافقية.
ومع تأقلمها السريع مع المتغيرات الجديدة، المتولّدة من واقعة انتهاء الحرب الباردة، أمكنها أن تحافظ على بعضٍ كثيرٍ من قوّتها التمثيلية، وأن تعود إلى السلطة - في بعض بلدان شرق أوروبا- من طريق صناديق الاقتراع: إمّا منفردةً بأغلبيتها النيابية، أو من خلال تحالفات سياسية.
أمّا الأحزاب التي لم تسلك نهج التصحيح وإعادة البناء - مثل الحزب الشيوعي الروسي- فحكمت على نفسها بالبقاء ضعيفةً أمام الأحزاب الأخرى المنافسة: القومية والليبرالية.
يمكن البناء على هذه السابقة - الأوروبية الشرقية- في إطارٍ للتصحيح والمراجعة على أحزابنا العقائدية العربية، أن تنخرط فيه لإعادة تأهيل نفسها, كلّ ما تحتاج إليه، هو أن تَلِجَ إلى هذا الأفق من المداخل الثلاثة المتعاقبة: الإدراك، والإرادة، وحسن الأداء؛ إدراك الحاجة الموضوعية إلى إصلاح أوضاعها الداخلية المتهالكة؛ بحسبانه الإصلاح الوحيد الذي يحفظ كياناتها من الانفراط، ويصلّب قوّتَها، ويوسِّع من نطاق تمثيليتها؛ ثم إرادة إنجاز ذلك الإصلاح بصدق، والتعبير عنها في برنامج عمل حقيقي لإعادة البناء، والشروع في تنفيذه؛ وأخيرًا، حُسْن أداء عملية الإصلاح والتغيير، وحسن اختيار الكفاءات التي تنهض بأعباء هذه العملية.
وما أغنانا عن الحاجة إلى القول إن ورشة إعادة إعمار العمران الحزبي العربي تقتضي تضحيات، وأوّل من عليهم تقديم تلك التضحيات النخب السياسية العقائدية التي ارتبطت مصالحُها بالبنى الحزبية العقائدية، من جهة، والنخب السياسية الشديدة البراغماتية، من التي تضحّي بالمصلحة - العامة- الوطنية الحزبية- من أجل تحقيق المصلحة الفردية أو الفئوية؛ فمثل تينك النخبتين يمثل عائقاً حقيقياً أمام عملية التصحيح، لا يزول إلاّ بحصول وعيٍ ذاتيّ تصحيحي لديها، وتضحيةٍ مشرِّفة منها.
إن النموذج الحزبيّ، المطلوب توليدُهُ في عملية إعادة الإعمار هذه، هو عينُه النموذج المجسِّد لمعنى الحزب، والمتجسِّد في الأحزاب الديمقراطية الحديثة في العالم
إنه المؤسّسة القائمة على مبدأ المصلحة العامّة ؛ والمأهولة بقيم التوافق والتداول والكفاءة؛ والمتسعة للآراء المختلفة ولحرية الرأي والنقد، بل حتى للتيارات السياسية الفرعية داخل المؤسّسة الحزبية الأم.
إنّ هذا النموذج وحده ما ينتج أحزاباً كبيرةً، تمثيليةً وموحَّدة، محصَّنَة ضدّ مخاطر التذرُّر والتفتت، وقادرة على أداء أدوارٍ معتَبَرة في الحياة السياسية في بلدانها؛ مثل تنمية الوعي السياسي ووعْي المواطنة لدى الجمهور، وتمثيل قطاعات واسعة من الشعب، وإدخالها في مسالك الحياة العامة والمشاركة السياسية.
ومن النافل القول إن السعي في طلب هذا النموذج، قد يأخذ من الزمن ردحاً، وليس من قبيل البُغْيَةِ المأمولِ منالُها فوراً، ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة كما يُقال.
بقي، هنا، أن نشير إلى أمرين متصليْن بحديثنا: مَن نعني بالأحزاب العقائدية القابلة للإصلاح وإعادة البناء؟ وكيف يمكن المندفعينَ وراء الحلول السهلة (الانشقاقات)، أن يسهموا في تحقيق ذينك الإصلاح وإعادة البناء.
ليس كلُّ حزب مغلَق بقابلٍ للتصحيح والتصويب والأقلمةِ، فإعادة التأهيل؛ فثمة مَن لن تنفع معه هذه الوصفة العلاجية، التحديثية والديمقراطية، لعدم قابلية جسمه لتلقي العلاج المناسب.
نستطيع أن نتخيل أحزاباً وطنية وقومية واشتراكية ويسارية موضوعاً ناجحاً للمعالجة الإصلاحية، ولكن لا يسعنا، بل لن يَسَعَنا، أن نتصوّر أحزاباً طائفية أو مذهبية أو «عصبوية» قابلةً للشفاء من أدوائها.
أما السبب فلإنها أحزابٌ غيرُ وطنية، أي غيرُ عابرة - أفقياً وعمودياً- للتقسيمات الاجتماعية المختلفة، بحيث تشمل التمثيل الوطني الأرحب.
إنها منكمشة على داخلها المغلَق على أساطير الماهية والتميّز في التكوين.
وقد يقول قائل: وماذا عن الأحزاب والتنظيمات الإسلامية ؛ أليست في جملة ما يمكن إعادة تأهيله ديمقراطيًا؟ نردّ بأننا لا نرى في الصورة أحزاباً إسلامية جامعة، وإنما نرى أحزاباً فئوية (مذهبية)، وقد سبق أن كتبنا، في مكانٍ آخر، أن «الإسلام السياسي» مذهبيّ بالتعريف، وأننا لم نعثر بعد على الحزب «الإسلامي» الذي ينتسب إليه المسلمون كافة.
أما عن أفواج المنشقين هنا وهناك، من هذا الحزب أو ذاك، وعلى ما قد يكون لديهم من أسبابٍ وجيهة للجنوح للانشقاق عن أحزابهم، فإن مسؤوليتهم كبيرة في تقديم المساهمة الواجبة في معالجة ظواهر التأزّم الحزبي، بما فيها تلك التي دعتْهُم إلى الانشقاق.
ولقد يكون في جملة تلك المساهمة المطلوبة منهم أن يبنوا مؤسّسات حزبية ديمقراطية حقيقية لا تكون نسخة من تلك التي انفصلوا عنها، وأن يَسْعوا في جمع أشتاتهم المتفرقة في تنظيمات صغيرة داخل قوة سياسية موحّدة، ما دام يتعذر عليهم العودة إلى أحزابهم المنشقين عنها.
إن أخطر ما تنتجُه ظاهرة الانشقاقات، (هو) تفريخ دكاكين سياسية صغيرة لا مكان لها في الحياة العامة.
وهذا بمقدار ما يُخْطئ الطريق إلى إصلاح الحياة الحزبية، يأتي عليها بالإفساد والإضعاف، من حيث قد لا يدري أو يقصد.
أما من يعتزمون الانشقاق عن أحزابهم، فخيْرٌ لهم، ألف مرّة، أن يناضلوا داخل تلك الأحزاب لتصحيح الأوضاع فيها، وتصويب خطها السياسي، وتغذية حياتها الداخلية بالقيم الديمقراطية.
قد تكون مظلوميتهم كبيرة في مواجهة النخبة الحزبية القائدة، ولكن مَن قال إن الصراع مع تلك النخبة يمُرّ - حكماً - بترْك الحزب ؛ أليس يُفْتَرَض أن الحزب - وهو المؤسَّسة/ الناس- للجميع: قيادةً ومعارضة (كما الدولةُ للجميع: سلطةً ومعارضة)؛ فَلِمَ يتمرّد المنشقون على الحزب برمّته فيتركونه - طوعاً- للماسكين بزمامه؟ ثم أيُّ ثمنٍ سيدفعونه لقاء هذا الانفصال؟