مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إشكالية التحولات داخل التيارات السلفية (2-2)
إشكالية التحولات داخل التيارات السلفية (2-2)

أحمد فهمي

نُشِر في عدد رمضان 1429هـ الجزء الأول من هذا المقال، وتم فيه استعراض ظاهرة التحولات داخل التيارات السلفية، والمقصود بها: تغيير المواقف والآراء وتبدُّل الاجتهادات حيال مسائل أو أحداث أو قضايا أو أشخاص، وخطورة هذه الظاهرة تتمثَّل في كونها أحد معوقات تجدُّد التيارات السلفية وقيامها بالدور المنوط بها في المرحلة القادمة والمتعلِّق بالدرجة الأولى بحفظ الدين وصيانة ثوابته ومفاهيمه من التحريف والتبديل؛ علماً وعملاً.
تركَّز الجزء الأول (1) في بيان ماهية التحولات وأهم أسبابها، وفي هذا الجزء - بمشيئة الله - نتناول أنواع التحولات وأنماطها ومن ثم تقديم رؤية مقترحة لتحليل هذه الظاهرة ومعالجتها.

فأنواع التحولات السلفية:
ما يعنينا هنا هو تلك التحولات التي تطرأ على مواقف السلفيين وأفكارهم ويكون لها تأثير على انتماءاتهم. ومن المسلَّم به أن التمسُّك بالثوابت من المفاهيم الأولية التي يربِّي السلفيون أتباعهم عليها، وهو ما يُعبَّر عنه في الشرع بمصطلحات عديدة؛ مثل: العضُّ بالنواجذ، القبض على الجمر، الذين يُمَسِّكون بالكتاب.
وتلك في الحقيقة من أبرز مميزات السلفيين التي تمكِّنهم من القيام بدور كبير في حفظ ثوابت العقيدة والشريعة. ولكن المشكلة أنَّ تطبيق هذه المفاهيم في العصر الحالي شابَهُ نوعٌ من الخلل يتمثل في التداخل الكبير بين الثوابت والمتغيرات، وبين الثوابت المطلقة وثوابت المرحلة.
أضف إلى ذلك أن كل اتجاه سلفي يستمد تميُّزه في الأساس من خلال تكوين مجموعته الخاصة من الثوابت، وهي قد تشمل ثوابت شرعية حقيقية، أو متغيرات واقعية، أو أحكاماً فقهية أو مسائل خلافية، ولكنها جميعها تأخذ وصف «الثوابت»، ومع تعدُّد الاتجاهات السلفية يمكن فرز عدد كبير من المفاهيم والمسائل التي تندرج تحت مسمى «الثوابت الخاصة» لكلِّ جماعة أو اتجاه، وهو ما يزيد من معدلات التحول وتبديل الآراء والمواقف، استناداً إلى أن عمليات التحول في غالبيتها تغيِّر في الموقف من هذه «الثوابت الخاصة»، وليس ثوابت الدين أو ثوابت المنهج السلفي بصورة عامة.
ويزيد نمط «الشيخ والأتباع» - الذي أشرنا إليه في الجزء الأول - من تعقيد الأمر؛ ففي كثير من الحالات تصبح اختيارات الرمز المستمرة والتي ينقلها لأتباعه في دروسه ولقاءاته؛ بمنزلة ثوابت جديدة لا يسوغ للأتباع الخروج عنها، ويزيد الواقع سوءاً استغراق بعض الأتباع في تضخيم الفروقات بين جماعتهم وبقية الاتجاهات؛ من خلال طرح استفتاءات وإشكالات عجيبة على مشايخهم حول الاتجاهات الأخرى وموقفهم منها وكيفية التعامل معها، وفي إحدى الحالات طُرح استفتاء حول حكم الزواج من نساء ينتمين إلى اتجاه سلفي مخالف، وهي حالة تذكِّر بمستوى الخلاف المتردِّي بين أتباع المذاهب الأربعة في مراحل متأخرة عن عصر الأئمة.
ويمكن ملاحظة أربعة أنواع للتحولات من حيث التقسيم الموضوعي، وهي تشمل ما هو من ثوابت الدين وما هو من «الثوابت الخاصة»:
- التحولات العقدية، ومن أمثلتها: تكفيــر الأنظمــة التي لا تحكم بالشرع، ومسألة دخول جنس العمل في مسمَّى الإيمان، والتقارب بين السُّنَّة والشيعة، والحاكمية.
- التحولات الفقهية، ومنها: حكم حلق اللحية، والموسيقى، وتغطية وجه المرأة، والتصوير.
- التحولات الفكرية، ومنها: الموقف من العَلْمانية، والموقف من الليبراليين، والموقف مما يوصف بـ «الإسلام التنويري» و «الإسلام الليبرالي».
- التحولات الدعوية، ومنها: الموقف من العمل الجماعي، والجماعات، والانتخابات، والعمل السياسي، والجهاد والعنف، وجماعة الإخوان المسلمين.
أنماط التحولات السلفية:
يمكن ملاحظة نمطين رئيسين للتحولات السلفية، يتفرَّع عنهما نمطان آخران؛ فالتحولات إما أنها تحدث على مستوى الشخص أو على مستوى الجماعة، وقد تكون تحولات جزئية أو كلية، وبذلك تكون الأنماط الأربعة المحتملة كالتالي:
1- تحولات فردية جزئية: تقتصر عادةً على تغيير الموقف من قضية أو مسألة واحدة، وقد يترتب عليها بقاء الشخص منتمياً إلى جماعته السلفية أو تغيير انتمائه إلى جماعة سلفية أخرى نتيجة تحوُّله، ويتوقف ذلك على قدرة الجماعة على استيعاب تحولات أتباعها.
2- تحولات فردية كلية: ويشمل التحول في هذه الحالة الموقف من ثوابت خاصة أو عامة، وهنا ينتج عن التحول خروج الشخص عن مسمَّى «السلفية» تماماً؛ فينتقل إلى اتجاه إسلامي آخر؛ كالإخوان المسلمين أو جماعات الجهاد، أو يبتعد خارج إطار العمل الإسلامي كله فيكون تحوله «انقلاباً»، وربما «انتكاساً».
3- تحولات جماعية جزئية: حيث تغيِّر الجماعة كلها موقفها من إحدى القضايا مع بقائها محافظة على ثوابتها الخاصة بصورة عامة، مثل: تغيير بعض الجماعات موقفها من الانتخابات والعمل السياسي بصفة عامة.
4- تحولات جماعية كلية: حيث تغيِّر الجماعة دفعة واحدة باقة من ثوابتها الخاصة، وهو ما يجعلها تتحرك على الخارطة السلفية لتتخذ وضعاً منهجياً جديداً يختلف تماماً عن وضعها الأول مع بقاء قياداتها وأتباعها في الإطار الجماعي نفسه، وربما تكون الجماعة الإسلامية في مصر هي أقرب الأمثلة على هذا التحول.
هل التحولات ظاهرة سلبية أم إيجابية؟
إن تحديد كونها سلبية أو إيجابية يستلزم وجود معيار لمعرفة هل كان التحول من الخطأ إلى الصواب أم العكس؟ وهذا في حدِّ ذاته إشكالية.
وهناك أمر ثانٍ هو أن عملية التحول ربما تكون ظاهرة إيجابية في حدِّ ذاتها بوصفها من آليات التطور والتجديد والمواكبة، وباعتبار أن مقابلها هو الجمود والتحجر، ولكنها يمكن أن تكون أيضاً مؤشراً على التميُّع والتفلُّت وتقديم التنازلات على حساب المنهج.
في واقع الأمر وصفُ أي تحوُّل بأنه إيجابي أو سلبي إنما هو من الناحية الشكلية وليس الموضوعية، إذ يلزم لكونه تحولاً إيجابياً أو سلبياً من الناحية الموضوعية أن يتوفر العلم والاتفاق على كون التحول حدث من الخطأ إلى الصواب أو العكس، فيكون ذلك بمنزلة رجوع إلى الحق أو نزوع إلى الباطل، لكن لأن أغلب القضايا والمواقف التي تحدث بشأنها التحولات هي خلافية - باستثناء بعض التحولات الفردية الكلية - فإن الحكم على التحول من الناحية الموضوعية ربما يكون عسير المنال.
والحال هكذا؛ فإن المفهوم الذي ينبغي التركيز عليه هو: ظاهرة التحولات في حدِّ ذاتها وتداعياتها السلبية على بنية التيارات السلفية وعلى إمكانات تطويرها في المرحلة القادمة، وبذلك يمكن وصف ظاهرة التحولات بأنها أحد معوقات تطور التيارات السلفية وقدرتها على مواكبة الواقع والتأثير فيه.
ملامح عامة لمعالجة ظاهرة التحولات:
أولاً: بالعودة إلى قضية «نمط الشيخ والأتباع» يمكننا القول: إن هذا النمط بوصفه طابعاً عاماً لكثير من التيارات السلفية يجب أن يتراجع إلى حدود التلقي العلمي؛ فهــو لا يتناسب مع تطورات الواقع، كما يحدُّ من قدرة التيارات السلفية على توسيع نطاق تأثيرها في المجتمع. ولو أخذنا التيارات السلفية في مصر مثالاً فسوف نجــد أن أغلبــية هــذه التيارات لا يمكن تعريفه بــدون نسبتـه إلى شــــيخ أو عالم أو داعيــة. ولكــن الملاحظــة المهــمة هنا أن الأقلية التي لا تتمحور حول رمز واحد هي الأكثر انتشاراً في المجتمع.
وأبرز سلبيات هذا النمط؛ فيما يتعلق بظاهرة التحولات؛ هو أن ارتباط حشد من الأتباع برمز واحد يجعلهم عرضة لتقلُّباته وتغيُّراته الفكرية والمنهجية وتأثُّره بأي ضغوط تمارس عليه من أي جهة، بينما ارتباطهم بمنهج واضح متكامل يُحدِث لديهم استقراراً أعلى وإن كان لا يقضي على الظاهرة تماماً، كما أن انحصار الأشخاص في فلك رمز واحد يجعلهم مفتقدين لإجابات شافية في كثير من مستجدات الواقع وإفرازاته التي لا تتوقف، والتي يفتقر فيها الرمز إلى خلفية قوية؛ لكونها خارج مجال تخصصه، وهــو ما يفتح الباب على مصراعيه للتحولات غير المنضبطة.
ثانياً: من الأمور المهمة في المرحلة المقبلة أن تؤسِّس الاتجاهات السلفية آلية مرنة لاستيعاب التحولات دون أن يترتب على ذلك انشقاقات أو انهيارات تنظيمية أو منهجية، وذلك بزيادة قدرتها على الاستماع والنقاش والإقناع، وفتح المجال للرجوع المنضبط إلى ما يتبين صوابه.
وفي الوقت نفسه ينبغي تأسيس آلية أخرى لتقوية الأطر المنهجية والجماعية وبلورتها وصياغتها وتقوية المرجعية الفكرية والمنهجية للجماعة أو التيار لضبط التحولات إلى حدِّها الأدنى.
ثالثاً: ينبغي التمهُّل قبل تحويل الأحكام والاختيارات الفقهية إلى ثوابت منهجية، طالما أنها ليست أحكاماً قطعية أو مُجمَعاً عليها، كما يستحسن مراجعة كثير من الاختيارات السابقة التي يمكن التجاوز عن الخلاف بشأنها، وقد كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل - رحمهم الله - من كبار أئمة السلف، ورغم ذلك كان بينهم بون شاسع في كثير من الاجتهادات والفتاوى، ولم يخرجهم ذلك عن منهج سلفهم من القرون الثلاثة الأولى.
إن كثيراً من الاختيارات الفقهية التي تحولت إلى ثوابت خاصة لدى بعض التيارات السلفية أصبحت بمنزلة «قيد» تعاني منه، فهي وإن صارت أكثر مرونة في التعامل مع هذه القضايا؛ إلا أن تنازلها – الآن - عن خياراتها - السابقة - بعدما توحدت مع المنهج بات مرادفاً للتنازل عن المنهج ذاته، وهي أزمة وإن صعبت معالجتها لكنها تستلزم على الأقل العمل على تجنب الوقوع فيها مستقبلاً.
رابعاً: لا يمكن إغفال تأثير البيئة أو المناخ العام السائد الذي يتيح المجال أمام أكبر عدد داخل المجتمع لتكوين آرائهم الخاصة حول مختلف القضايا، والتعبير - الكتابي غالباً - عن هذه الآراء بمستوى مقبول من الحرية، ورغم ما يتضمنه ذلك من إيجابيات إلا أنه في المقابل ساهم في «تفتيت» الرأي العام داخل المجتمع أو داخل أي تجمعات خاصة في المجتمع، ومنها: التيارات السلفية؛ نتيجة الحراك الفكري الدائم الذي يعتمد على تراكم معرفي مستمر جعل الأمر أشبه ببورصة للأفكار تتغير فيها الأسعار كل لحظة.
المعضلة هنا أن هذا الحراك الفكري الذي يفرز مواقف وآراء يتم بعيداً عن السياق الطبيعي داخل الجماعة، وهذا يعني أنها لم تعد المنبع الأول لأتباعها، ومعالجة هذه الوضعية الشائكة تستدعي أن تطرح الجماعة - أو التيار أو التوجه السلفي - نفسها بوصفها منافسة لهذه المصادر المعرفية وتطور مفاهيمهــا القــديمة عــن الإلزام والطاعة والانتماء.. إلخ.
خامساً: هناك قضايا عالقة في فضاء الفكر السلفي تفتقر إلى جهود تنظيرية كافية، مثل: الإطــار الجماعي أو التنظيمي الأكثر ملاءمة للسلفيين؛ هل هــو: التيــار، أم الجماعة، أم بين بين؟ .. فبعض السلفيين يفضِّل العمل في إطار جماعة منضبطة لها هياكلها التنظيمية المعلنة، وبعضهم الآخر يفضِّل العمل من خلال تيار مرن يمارس عملاً جماعياً دون أن يكون جماعة، ويقلِّل القيود على العمل دون أن يجعلها فوضى. ولكل من الحالين وما قد يتفرَّع عنهما إيجابيات وسلبيات ليس هذا مجال بحثها، ولكن الأمر الجدير بالاعتناء هنا على صعيد ضبط ظاهرة التحولات هو أن يتوفر لدى الشخص المنتمي رؤية كافية وتصور واضح حول ما ينتمي إليه؛ جماعةً كــان أو تيــاراً أو غيـر ذلـك، فلا يُترك هَمَلاً نَهْباً لشوارد الفكر والرأي.
مثال: بعض التيارات السلفية كان يعطي لأتباعه تصوراً غامضاً حول تاريخه وتأسيسه ونشأته، وكان لذلك تأثيره السلبي على بعضهم، وإذا بالجميع يُفاجَؤون ببرنامج وثائقي أُذيع على قناة (العربية) كشف كثيراً من الأسرار التي كانت خافية على هؤلاء الأتباع، ولكن في سياقٍ سلبيٍّ مشوَّهٍ.
سادساً: لا شــك أنه من الأمانة العلمية أن يوثِّق الشخص - خاصة عنــدما يكون رمزاً أو ذا تأثير في بعض الفئات - تغيراته الفكرية والمنهجية التي طرأت عليه، فيبين للناس الفرق بين موقفَيْه الحالي والسابق، وبعض الرموز يدع المتأثرين به في حالة من اللَّبْس والارتباك؛ بسبب التناقض بين مواقفه السابقة والحالية، والمؤسف أن بعضهم يسلك مسلكاً غريباً بمــحاولة الجمع بيــن النقيضين فيزعم أن لا خطأ في مواقفه، ولكن تغيُّر الظروف هو الذي استدعى تغيُّر المواقف.
في إحدى الحالات نجد كتابات بعضهم تندِّد بالتنويريين والليبراليين، ثم بعد سنوات إذا به يتخذهم رفقة وصحبة، دون إقرار بخطأ في الماضي أو الحاضر.
سابـعاً: مـن الأمـانــة أيضاًً أن لا يتصــدر للأمـر مــن لا يطيقه؛ فبعض الدعاة يتصدرون لمهام وأعمال يتبين لاحقاً أنهم غير مؤهلين لتحمُّل تبعاتها، ومن ثم يُبدون ضعفاً وتذبذباً وارتباكاً، ثــم هم لا يكتــفون بــذلــك بل يسعون لـ «منهجة» تراجعهم وتأصيله بوصفه الحق الذي لا محيد عنه وأن مصلحة الدعوة تقتضي ما صنعوه، وكأنهم أصبحوا «علة» الدعوة، فهي تدور معهم حيثما داروا، وتحل بهم أينما حلوا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعطي سيفه لأحدهم سأل: من يأخذ هذا السيف بحقِّه؟ فردَّه عن أناس وأعطاه لآخرين، فسأل أبو دجانة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أنا آخذه يا رسول الله! بحقِّه؛ فما حقُّه؟ قال: أن لا تقتل به مسلماً ولا تفرَّ به عن كافر؛ فأخذه بحقِّه فصال به وجال، ثم عاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حني السيف.
ما سبق لا ينفي بحال أن التيارات السلفية تلعب دوراً كبيراً في المجتمعات الإسلامية - بإيجابياتها وسلبياتها - ولكن حجم العداء الكامن في صدور أعداء الإسلام لهذه التيارات يفرض على قياداتها ورموزها ومفكِّريها مهام كبرى للقيام بتجديد الأفكار والأعمال وإصلاح الخلل وسدِّ الثغرات، وإذا كان «الثبات» أبرز سِمَات السلفيين فإن «التحولات» المستمرة العشوائية غير المنضبطة تشوِّه ذلك الثبات وتفتح أبواباً من الخلل قد يتسرَّب منها أغلى ما يملك السلفيون.

(1) بعض التعليقات الواردة حول الجزء الأول نبهت إلى ضرورة ضرب أمثلة من الواقع، وهذه تمثل عقبة يصعب تجاوزها حالياً؛ بسبب الحساسيات المتعلقة بتقبل النقد، ولأن المقال يهدف إلى معالجة خلل واقعي جاءت صياغته حيادية قدر الإمكان مع الإقرار باحتمالية الصواب والخطأ فيما ورد فيه من أفكار.
ـــــــــــــــــــ
البيان عددربيع الأول1430ه
أضافة تعليق