مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث
أنور الجندي

تكشفت في السنوات الأخيرة حقائق كثيرة كانت خافية وأذيعت أسرار كثيرة ظلت في طي الكتمان أعواماً وأجيالاً. وقد كان لظهور هذه الحقائق والأسرار أثرها البعيد في مجالات مختلفة وأمور كثيرة وكان أبرز هذه الوثائق ’’بوتوكولات صهيون’’ وكانت قد أصبحت كالمسلمات مما استدعى إعادة النظر فيها ومراجعتها من جديد. وكان من أبرز هذه الأمور ما اعترض تاريخ الإسلام الحديث من مواقف ارتبطت بالدولة العثمانية والصهيونية العالمية ومحاولة استيلاء اليهود على فلسطين، ففي خلال هذه الفترة من حياة الدولة العثمانية كانت المطامع المتضاربة بين الدول الغربية من ناحية والصهيونية العالمية من ناحية أخرى قد عملت على حجب كثير من الحقائق وتزييف جانب آخر منها في محاولة عاتية لتمزيق الوحدة الإسلامية للإنالة من الخلافة الإسلامية ولفتح الطريق للقوى الصهيونية إلى فلسطين وإقامة الحواجز الإقليمية العميقة بين أجزاء العالم الإسلامي وخاصة بين أقطار البلاد العربية وذلك حتى تتمكن هذه القوى الجديدة من الوثوب والسيطرة باعتبارها شريكاً للاستعمار الغربي وبديلاً عنه من خلال مطمع عقائدي يرتبط الميعاد وبتاريخ قديم لليهود متصل بها ومن خلال هذه المحاولات الواسعة زيف تاريخ الإسلام الحديث ووضعت خطط وكلمات ومصطلحات أصبحت بمثابة المسلمات التي رددتها كتب المدارس وأبحاث الجامعات ومقالات الصحف على أنها التصور الحقيقي للأمور وكلها تقول: بالسلطان الأحمر والاستعمار التركي والاستبداد العثماني والصراع بين العرب والترك والقومية الطورانية. ومن هنا نشأ تصور ما زال مطروحاً في أغلب كتب التاريخ والأدب العربي وخاصة في المناهج المدرسية والجامعية قوامه:
1- أن السلطان عبد الحميد كان رجلاً مستبداً ظالماً، وأنه كانت يلقى خصومه بالعشرات في الدردنيل وكانت له قوى ضخمة تشتغل بالجاسوسية وتصادر الحريات.
2- أن الدولة العثانية كانت دولة مستعمرة سيطرت على البلاد العربية بالقوة وجنت إليها ثمراتها وتركت تلك البلاد فقيرة ضعيفة.
3- أن الاتحاديين في الدولة العثمانية كانوا قوة تقدمية عصرية بينما كانت القوى الأخرى قوى رجعية متخلفة.
4- أن دعوة السلطان عبد الحميد إلى الوحدة الإسلامية كان قد تجاوزها الزمن وفات أوانها وأن الدعوات القومية كانت هي أسلوب العصر.
منذ أن عقد مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 م بزعامة الصحفي اليهودي هرتزل وبعد صدور كتاب الدولة اليهودية بقلمه كان قد انفتح مجال جديد للعمل في مواجهة العالم الإسلامي لشق الطريق إلى فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود بها من خلال مخطط القوى الاستعمارية التي كانت قد انطلقت منذ 1799 م إلى مصر تحت اسم الحملة الفرنسية ثم إلى الجزائر 1830 م ثم إلى مصر مرة أخرى 1882 م وإلى تونس قبل ذلك بعام واحد، وفي هذه المرحلة كان الصراع قوياً بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي في المنطقة التيس تضم الدولة العثمانية التي كانت تمثل الوحدة العربية التركية – ولكي تكتمل الصورة فإن هولندا كانت قد سبقت ذلك بوقت طويل بالاستيلاء على الملايو وجاوه وما يطلق عليه الآن إندونيسيا وكانت بريطانيا قد احتلت الهند وكانت أجزاء من الخليج قد سقطت في أيدي إسبانيا والبرتغال ثم ورثتها بريطانيا وكان هذا كله جزءاً من مخطط الاستعمار الغربي الحديث الذي تكامل في نهاية الحرب العالمية الأولى بإيقاع الصراع بين العرب والترك في المناطق الغربية (الحجاز والشام والعراق) وحلول فرنسا وإنجلترا بدلاً من الدولة العثمانية في هذه المناطق بعد معركة أدارتها إنجلترا بقيادة لورنس الذي وصف في يوم من الأيام بأنه ملك العرب غير المتوج.
كان المخطط معداً لأن تعطي فلسطين في هذا المسرح الذي مثلت عليه هذه الرواية كلها للصهيونية العالمية. وأن استيلاء بريطانيا على فلسطين عام 1948 م كان تمهيداً لأن تقع بما فيها المقدس في أيدي اليهود.
ومراجعة الأحداث تنبئ بهذا التخطيط الواسع البعيد المدى الذي بدأ منذ وقت باكر يسبق لقاء هرتزل للسلطان عبد الحميد. وهو في حقيقته صراع بين إرادتين. الإرادة الأولى: هي إرادة السلطان عبد الحميد الذي تولى الملك في سبيل الوحدة في مواجهة الاستعمار تحت اسم الجامعة الإسلامية لتعمل مع جميع مسلمي العالم خارج نطاق الدولة العثمانية ولتوحيد كل القوى والمذاهب والأقطار.
ولا ريب كانت هذه الحركة مضادة لإرادة أخرى كانت تستهدف تمزيق الدولة العثمانية نفسها وليس لتمكينها من أن تجمع إليها أقطار المسلمين الأخرى التي في خارجها ولذلك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية القوى كلها في سبيل السيطرة على البلاد الإسلامية وتقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد أن عمدت إلى إنهاكها سنوات عدة بالحروب والمؤامرات وحين باتت لقمة سائغة جاء السلطان عبد الحميد ليعقد الخناجر على مقاومة الاستعمار وذللك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية كانت ترى أن الدولة العثمانية هي مدخلها إلى فلسطين وكانت تعد العدة منذ وقت بعيد في بؤرة خطيرة داخل تركيا هي سالونيك التي كانت تتجمع فيها (الدونمة) أولئك الذين دخلوا الإسلام تقية، من يهود إسبانيا الذين هاجروا بعد خروج الحكم الإسلامي منها، والذين كانوا قد أنشأوا المحافل الماسونية لإعداد خطة الانقضاض على الدولة العثمانية. والذين استطاعوا احتواء جماعة الاتحاد والترقي والتغلغل فيها والسطرة عليها ومن ثم استطاعوا بها إقصاء السلطان عبد الحميد وإسقاط مشروعه والقيام على الدولة لتمزيقها والقضاء عليها، ولا عجب ففي ظل حكم الاتحاديين بعد إسقاط عبد الحميد منذ عام 1909 م إلى 1918 م هزمت الدولة في الحرب العالمية وسلمت طرابلس الغرب إلى بريطانيا وفتحت الطريق أمام اليهود إلى فلسطين.
هذه المرحلة الدقيقة الخطيرة من تاريخ الإسلام في العصر الحديث ما زالت تشوبها الشوائب وتحول قوى كثيرة دون الكشف عن حقيقتها، وما زالت الصورة التي رسمتها الصهيونية والاستعمار لها هي الصورة الرسمية القائمة في كتب المدارس والجامعات بالرغم من الحقائق الكثيرة التي تكشفت والتي أزاحت الظلم عن وجه الرجل الكريم السلطان عبد الحميد وعن موقفه.
والحق أنه ليست هناك شخصية في تاريخ الإسلام الحديث هوجمت بمثل ذلك العنف والتعسف الذي هوجم به السلطان عبد الحميد حتى كشفت الوثائق في السنوات الأخيرة ليس عن براءته بل عن بطولته ومن عجب أن أبرز النصوص التي أحقت الحق، جاءت في مذكرات هرتزل التي نشرها باللغة العربية.
ولنعد إلى حقيقة الصراع بين القوى الإسلامية بقيادة عبد الحميد وبين القوى الاستعمارية واليهودية لنعرف مدى ما حققته إسقاط عبد الحميد لإلغاء الخلافة الإسيلامية.
لكي نعرف حقيقة حركة الوحدة الإسلامية الجامعة التي قام بها عبد الحميد يجب أن نتصور بوضوح واقع الدولة العثمانية والعالم كله خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر وقد بلغت الدولة العثمانية أشد مراحل الضعف وقد تجمعت الدول الغربية على وضع الخطط للقضاء عليها وتمزيقها وإذلالها. وقد كانت روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا جميعاً بالإضافة إلى البابوية تشترك في رسم هذه الخطط وفي انتزاع الأجزاء الأوروبية من الدولة واسترجاعها والاستعداد لتقسيم أجزاء العربية في الدولة وهي الشام والعراق والجزيرة العربية.
وكانت مخططات الصهيونية العالمية تركز تركيزاً شديداً على الدولة العثمانية من أجل الوصول إلى فلسطين وتحقيق حلمها في إقامة هيكل سليمان. فلما ولي السلطان عبد الحميد الحكم خليفة للمسلمين وسلطانها للدولةى العثمانية واجه الموقف على نحو يختلف عما واجهه به سلاطين آل عثمان الذين سبقوه وكانت مواجهته جادة حاسمة. كان إحساسه بالتبعية كبيراً وكان ذكاؤه وسعة فكره وإلمامه بالتيارات المختلفة بالغاً، ومن هنا فقد جرى من الأحداث في طريقها المرسوم شوطاً ثم لم يلبث أن وضع خطته المحكمة التي رأى أنها الطريق الوحيد لمواجهة الغزو الاستعماري الزاحف والذي كان قد تشكل داخل الدولة العثمانية في مؤسستين خطيرتين. إحداهما: المحافل الماسونية في سالونيك وتركيا الفتاة التي سميت بعد (الاتحاد والترقي) والتي ضمت مجموعة من المثقفين ثقافة غربية ومن أصحاب الولاء الفكري الغربي وخاصة الفرنسي ومن الذين أغروا عن طريق المستشرقين وكتاب الغرب بأنه لا سبيل أمام الدولة العثمانية لكي تصل إلى التحرر والقوة إلا بالتماس مناهج الغرب التماساً كاملاً وطرح فكرها وأسلوبها ومنهجها الإسلامي القديم والتخلص منه إلى غير رجعة، غير أن هذه الجماعة لم تستطع أن تقف وحدها فالتمست العون من المحافل الماسونية ومن ثم احتوتها الحركة الصهيونية وسيطرت عليها ووجهتها الوجهة التي ارتضتها في القضاء على الدولة العثمانية وكان السلطان عبد الحميد قد حدد هدفه في مواجهة النفوذ الغربي على هذا النحو: أن الوسيلة الأساسية لمواجهة النفوذ الاستعماري هي تجمع المسلمين في كل مكان تحت جناح الخلافة الإسلامية الذي تحمل لواءه الدولة العثمانية الجامعة في كيانها بين العرب والترك، ومن هنا كان على السلطان العثماني الذي هو خليفة المسلمين أن ينادي المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يقفوا معه في صف واحد في مواجهة النفوذ الغربي ومن هنا كانت صيحته المعروفة المشهورة التي هزت الغرب كله: ’’يا مسلمي العالم اتحدوا’’.
ومن هنا بدأ الخطر الذي واجهته الدول الأوروبية والاستعمار والبابوية والصهيونية العالمية في عنف وأخذت في التماس كل وسائل التآمر والغدر في سبيل تحطيم الخطة والقضاء على القائم بها. ولكن السلطان عبد الحميد استطاع أن يصمد لذلك وقتاً طويلاً وأنه كان قد بدأ في هذه الحرةك عام 1879 م على وجه التقريب فقد ظل يحمل هذا اللواء في قوة في مواجهة عواصف السياسة الأوروبية ثلاثين عاماً كاملة دون أن يتزلزل أو يضعف.
لم يكن السلطان عبد الحميد يملك من القووة العسكرية ما يستطيع أن يواجه به أوروبا والغرب المتجمع باسم كلمة (لا إله إلا الله) وتحت لواء قوة عارمة خشيت بأسها أوروبا وحسبت لها ألف حساب، فقد كان المسلمون الموالون للسلطان تحت النفوذ الغربي في عديد من الأقطار التي احتلتها بريطانيا وفرنسا وخاصة قارة الهند يمثلون قوة روحية ذات أهمية خطيرة. ولقد مضى السلطان في تنفيذ مخططه في قوة وسرعة، بحيث شملت الدعوة كل الآفاق الإسلامية وذاعت في كل مكان وحملت معها عملاً إيجابياً نافعاً قوامه المدارس والمنشآت في كل صقع من البلاد الإسلامية وكان قد أنشأ مدرسة للدعاة الذين سرعان ما انبثوا في كل أطراف العالم الإسلامي إلى الهند والصين وجزائر المحيط ومصر وأفريقيا وتركستان وأفغانستان وبلاد العرب وأطراف المملكة العثمانية، كما عقد مع الأمراء في شتى هذه البقاع مراسلات وعقود وعمق روابط الود والإخاء الإسلامي فيما بينهم وبين دولة الخلافة حتى قيل أنه لم يبق مسلم واحد لم يعرف طرفاً عن هذه الدعوة. وقد جعل السلطان عبد الحميد أمامه أمرين هامين:
الأول: أن يكون أهل بلاد العرب هم ساقة هذه الدعوة وحملة لوائها ومن هنا فقد اتخذ في كل قطر عربي ’’مشيراً’’ له فجمع حوله علماء وأمراء من الجزائر والشام ومكة ومنهم أبناء الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من أمراء المسلمين.
الثاني: هو إنهاء الخلاف الذي أحجبه الاستعمار بين السنة والشيعة أو بين الأتراك والفرس وقد استخدم لذلك علامة كبيراً هو السيد جمال الدين الأفغاني وأجرى صلحاً مع شاه فارس وصفي أمر الخلافات كلها.
ولم يتوقف عند هذه الحركة الفكرية وحدها إنما جعلها واجهة لعمله الكبير الذي بدأه في بناء القوة الحربية والعسكرية وتقوية جيوشه وأساطيله فقد استخدم بعثة ألمانية ولم يلبث أن أنشأ معاهد عسكرية دخلها عدد كبير من الشبان الممتازين من شباب العرب من العراق وسوريا ومصر. وقد مضت الخطة إلى غايتها المرجوة فاشتد عصب المسلمين بالترابط وتوحدت فكرتهم بالعمل الجامع، وكان دعاة الفكرة الإسلامية ينشرون ثقافة جديدة قامها مواجهة الاستعمار الغربي الزاحف والخطر الأوروبي القيصري الصهيوني جميعاً، وتركزت الآمال حول السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين وترابطت الدول الإسلامية وأهلها حول عاصمة الخلافة علت نحو بلغ غاية القوة (فكانوا يذكرون اسمه في خطب الجمعة ويدينون له بالولاء والطاعة الروحية وباسم خلافته على المسلمين كافة) وجعلهم من رعايا دول أوروبا في الهند وجزر الهند الشرقية وشمال أفريقيا، وكان السلطان على حد تعبير محمد رفعت باشا في كتابه التوجيه السياسي للفكرة العربية ’’يفاوض الدول الكبرى ويساومها بل يهددها أحياناً ملوحاً بسلاح الجهاد الديني، واستطاع السلطان أن يجمع تحت لواء الدعوة أبرز المسلمين في مجال الفكر والسياسة وفي مقدمتهم: خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الرفاعي الصيادي وأبناء الأمير عبد القادر الجزائري’’.
وأقام من العرب فرقة خاصة ضمها إلى الحرس السلطاني وولى كثير منهم مناصب رئيسية في الدولة وفي مقدمتهم أحمد عزت العابد. وكان من أكبر أعمال السلطان في هذا الصدد: إنشاء سكة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة وكذلك فرعها الذي يربط الحجاز وبغداد وقد وجد هذا العمل تقديراً بالغاً من المسلمين في كل مكان وتبرعوا له بأكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات الذهبية، فكان من أخطر المشروعات التي عجلت بالقضاء على السلطان فقد كان منذراً للغرب بتغيير إسلامي كبير. وقد استهدف في الأغلب القضاء على دسائس الإنجليز ومؤامراهم في البحر الأحمر والجزيرة العربية وكان من أخطر مواقف الحركة الإسلامية الواحدة التي دعا إليها وحمل لواءها عبد الحميد: هو معارضة أهداف الحركة الصهيونية في السيطرة على فلسطين ومواجهتها.
ومن هنا انطلقت الصحافة الأوروبية وتباعتها الصحافة العربية التي ظهرت في مصر والتي قاد حركتها خريجو الإرساليات التبشيرية، من أمثال: سليم سركيس وفارس نمر ويعقوب صروف وفرج أنطون وغيرهم الذين حملوا لواء التشهير باللواء ومعارضته وإشاعة الاتهامات المحتلفة حول شخصيته وتصويره ومعارضته وإشاعة الاتهامات المختلفة حول شخصيته وتصويره بتلك الصورة الرديئة لحساب الصهيونية العالمية التي انطلقت لإشاعة روح االكراهية والانتقاض للرجل بعد موقفه الحاسم الكريم من مطالبهم وكان أعظم ما تركز عليه هذه الحملة إثارة عوامل الفتنة بين قيادة الحركة الإسلامية وبين العناصر المختلفة في الدول العثمانية وخارجها.
وكان أقوى من هاجم حركة السلطان عبد الحميد في مصر اللورد كرومر الذي حمل على فكرة الجامعة الإسلامية حملة ضارية ودعا الدول الأوروبية في تحريض سافر إلى التجمع للوقوف في وجه هذه الدعوة وكذلك هاجمها هانوتو الفرنسي واللورد غراي ووصفوها بأنها بؤرة التعصب الديني وأنه ليس القصد منها إلا تحدي قوات الدول الغربية المسيحية وقد حملت جريدة المقطم في مصر لواء معارضة هذه الدعوة.
ولقد شهد كثيرون بأصالة هذه الحركة وقوتها وأثرها، يقول الدكتور توفيق برو: أنها كانت كرد فعل للحركة الاستعمارية الأوروبية الطاغية وأن قادتها كانوا من الدعاة المبرزين وقد أذكى نار هذا الشعور أئمة من أفاضل العلماء أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى الغلاييني ورشيد رضا الذين قاموا باستغلال هذا الشعور في سبيل سيطرة السلطان في الداخل وتقرير مكانة الدولة في الخارج.
وبعد فلقد كان السلطان عبد الحميد سياسياً قديراً وقرماً من أقرام السياسة الدولية وأولا ذلك ما استطاع أن يصمد في وجه هذه الرياح العاتية وكان قادراً على التعرف على مختلف التيارات والمؤامرات وكان يفهم أبعاد الخطر الداخلي الذي يؤججه الاستعمار والصهيونية عن طريق حزب تركيا الفتاة وكيف تسيطر عليهم الماسونية العالمية وتوجههم لصالحها كما كان يعرف نقاط الضعف في الدول الغربية وأوجه الخلاف بين بعضها البعض فيستغلها ويستفيد منها. ولست أستطيع أن أصور هذا المعنى بأعظم مما صور به جمال الدين الأفغاني: الذي التقى بالسلطان ساعات ومرات وتدارس معه شئون العالم الإسلامي ومخاطر السياسة الأوروبية ومخططاتها. وذلك بعد أن قدم إلى الآستانة قال: رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى الواسائل وأمضى العوامل كي لا تنفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية ويريها عياناً محسوساً، إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلا بخراب يعم الأمم الأوروبية بأسرها. وقال: إن ما رأيته من يقظة السلطان وشدة حذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكايد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة قد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك. أ. هـ.
ولقد أكد كثيرون من المؤرخين والباحثين في إنصاف أن السلطان عبد الحميد كان آخر الحصون التي دافع بها الإسلام عن وجوده العالمي وبعد انهياره تمت مؤامرات الغرب وربيبته الصهيونية. ومن الحق أن يقال أن الحركة التي حمل لواءها السلطان عبد الحميد في تجميع المسلمين تحت لواء الخلافة كانت اتجاهاً طبيعياً وأملاً يملأ كل النفوس، ولذلك فقد حققت نجاحاً كبيراً، أزعج الاستعمار والصهيونية إزعاجاً شديداً مما استدعى العمل من جانبهم لإجهاضه والقضاء على حامل لواء الدعوة أصلاً كوسيلة للقضاء عليها وتدميرها.
في هذا الضوء يتمثل العمل الذي قامت به الصهيونية من جانبين:
أولاً: من جانب الدونمة داخل الدولة العثمانية وخاصة في محاصرة السلطان والتآمر عليه.
ثانياً: الدونمة: هي القوة اليهودية الكامنة داخل الدولة العثمانية التي اختارت مدينة سالونيك ودخلت الإسلام بعد تاريخ طويل معروف، وهي التي أنشأت المحافل الماسونية في الدولة العثمانية لهذه الغاية واتصلت بجماعة الاتحاد والترقي (وحزب تركيا الفتاة) وأفسحت له في محافلها الفرصة للعمل، وتلاقت الرغبات على التخلص من الوجه الإسلامي لتركيا، ومن السلطان عبد الحميد وكان ذلك قد بدأ يأخذ طريقه بقوة منذ أعلن السلطان عبد الحميد دعوته إلى المسلمين. وكانت قوى كثيرة تشارك اليهودية العالمية في هذا الاتجاه وقد كان السلطان عبد الحميد يعرف هذه القوى التي يواجهها في الداخل ويعرف المؤامرة التي تدبر لفكرته وله وكان يعرف أبعاد المخطط كله: فئة المثقفين الغربيين الذين سيطرت عليهم أفكار الثورة الفرنسية ربيبة المحافل الماسونية من ناحية وحركة الإرساليات الأجنبية في لبنان وثمارها المنبثة في مصر وسوريا والبلاد الإسلامية تحمل أحقادها على الإسلام والوحدة الإسلامية والمحافل الماسونية في سالونيك. وإذا كان السلطان قد عارض مدحت وحزب تركيا الفتاة فقد كان عالماً بأنهم واقعون تحت نفوذ الماسونية العالمية أداة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت وأن موقفه دون تمكين اليهود من فلسطين قد حرض كل هذ ه القوى وأمدها بإشارة الانقضاض. إن تصريحات كثيرة للسلطان عبد الحميد تكشف أنه كان عالماً بأهداف الصهيونية في هذا الوقت المبكر، ولذلك فقد كان وقوفه في وجه الاتحاديين وتركيا الفتاة وعمله على تحطيم مخططاتهم ليس نابعاً من كراهية لنهضة الدولة العثمانية ولكنه كان عمقاً في النظرة إلى الأهداف البعيدة لتدمير هذه القوة التي كانت تحمي آمال المسلمين داخل الدولة وخارجها.
ولقد صدقت نظرة السلطان عبد الحميد على الاتحاديين بعد أن دخلوا التجربة فعلاً وسيطروا على الحكم من 1909 م إلى 1918 م وما قاموا به من تسليم كامل للدولة وتبعية كاملة لمخططات الاستعمار والصهيونية مما كشف أصالة عبد الحميد وبعد نظره وجلال موقفه الحاسم في وجه النفوذ الاستعماري نفسه بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية وفي نفس الوثت بمقاومة هذه التبعية التي كانت تحمل مظهراً براقاً هو الإصلاح على طريقة الغرب بينما كانت تحمل في أعماقها إيماناً بالفناء في الغرب كله، ولقد خدع المسلمون والعرب بالاتحاديين وأقاموا الأفراح وسرعان ما اكتشفوا أنهم سلموا أنفسهم إلى فك الأسد وأنيابه. إن مقدرة السلطان عبد الحميد على فهم ما يحيط به كانت مما يظن كثيرون ولكنه كان في موقف لا يستطيع معه أن يكاشف المسلمين بالأخطار التي تحيط به.
قد كان اليهود يرون في السلطنة العثمانية شبحاً مخيفاً خطراً على مستقبلهم كما يقول الدكتور محمد علي الزغبي في كتابه الماسونية في العراء، وكانت الدونمة بكل مؤسساتها وتداخلاتها أداة التنفيذ في الوقت المناسب.
ثانياً: بعد أن عقد مؤتمر بال 1897 م وكانت حركة الوحدة الإسلامية قد استحصدت، كانت وجهة نظر اليهود هي اقتحام فلسطين ولذلك فقد تركزت الخطط حول الدولة العثمانية وحول السلطان عبد الحميد في محاولة لاحتوائه ظناً منهم أنه في ظرف من الضعف وفي حالة من الاستدانة تجعله يخضع للإغراء، إغراء اليهود بالذهب وهم من قبل أصحاب العجل الذهبي، وبدأت المحاولات منذ ذلك الوقت واتخذت وسائط كثيرة وووسائل متعددة منها وساطة الإمبراطور غليوم ولقاء اليهود الثلاثة (مزارحي قراصوا – جال - ليون) ولقاء هرتزل ومعه موشي ليوي حاخام اليهود في الدولة العثمانية ولقاء السفير اليهودي غوش وهي سابقة على مقابلة اليهود الثلاثة ثم لقاء هرتزل للسلطان ولرجال قصره.
وقد عرض من خلال هذه المقابلات مشروع يرمي إلى تقديم قرض للدولة العثمانية يبلغ خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية وخمسة ملايين جنيه لخزانة السلطان الخاصة. بناء أسطول كامل للدفاع عن أراضي العلية.
وذلك في مقابل السماح لليهود بإنشاء مستعمرة صغيرة لهم قرب القدس ينزل بها أبناء جلدتهم.
وحتى لا نطيل والتفاصيل كلها موجودة والمراجع ثابته: فنوه بالرد النهائي للسلطان عبد الحميد: بلغوا الدمتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئاً عن المحاولة في هذا بالأمر (التوطن بفلسطين) فإنس لست مستعداً أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير فالبلاد ليست ملكي بل هي ملك شعبي روى ترابها بدمائه. فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب فإن الدولة العلية لا يمكن أن تختبئ وراء حصون بنيت بأموال أعداء الإسلام.
لست مستعداً لأن أتحمل في التاريخ وصمة بيع بيت المقدس لليهود وخيانة الأمانة التي كلفنى المسلمون بحمياتها.
إن ديون الدولة ليست عاراً لأن غيرها من الدول الأخرى مدين مثل فرنسا.
إن بيت المقدس قد افتتحه المسلمون أول مرة بخلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولست مستعداً أن أتحمل في التاريخ وصمة بيعها لليهود وخيانة الأمانة. وقد أورد هرتزل في مذكراته التي طبعت بالألمانية في تل أبيب عام 1924 م قصة هذه المحاولات وقال بعد فشل المحاولة الأخيرة: إن السلطان عبد الحميد الشريف الفذ الذي أخفى المسلمين والعرب منذ عام 1909 م حتى سنوات قريبة عندما ترجمت مذكرات هرتزل وكان أول من أشار إلى هذا النص الأستاذ أحمد الشقيري في دروسه في معهد الدراسات العربية بالقاهرة منذ عشر سنوات وقد ظل المسلمون والعرب خلال فترة لا تقل عن خمسين عاماً يرمون الرجل عن قوس واحدة لأن الاستعمار والصهيونية والصحف العربية التي أصدرها تلاميذ مدارس الإرساليات وخاصة في مصر (المقطم، الأهرام، الهلال، المقتطف، مجلة سركيس) وعشرات من الصحف كانت تصف عبد الحميد بالسلطان الأحمر المستبد. وقد انتقلت هذه العبارات من الصحف إلى كتب التاريخ وكتب تاريخ الأدب العربي، وما من كتاب أرخ هذه الفترة إلا احتوى على هذه العبارات التي أصبحت مسلمات بالإضافة إلى تغير آخر سنعود له من بعد وهو ’’الاستعمار التركي العثماني’’.
كانت هذه العبارات النارية التي وجهها السلطان عبد الحميد إلى هرتزل عام 1902 م إيذاناً بتلك الحملة العاتية على السلطان بعد أن تقرر إزاحته وكانت هذه الحملات التي وجهت إليه تمهيداً وإعداداً للرأي العام لهذا الغرض. ولقد جرت منذ ذلك الوقت محاولات لاغتياله وإسقاطه حتى وقع ذلك عام 1908 م بالإنقلاب الذي قام به الاتحاديون بالاشتراك مع الماسونية ممثلة في الدونمة.
ولا تزال عبارات عبد الحميد نبراساً مضيئاً وتاجاً لامعاً وشرفاً ما بعده شرف، يتوج جبينه في تاريخه المعاصر، وعند ربه، ويتردد عنه ومن حوله كل الإشاعات والشبهات والأضاليل. وقد تبين من بعد في وثائق كثيرة وانكشف الستار عن مؤامرة قلب الدولة العثمانية وإنزال عبد الحميد بالذات كخطوة أولى لتنفيذ هذه الجريمة البشعة. والمؤامرة العالمية لتحطيم الوحدة الجذرية والرابطة العضوية القائمة بين العروبة والإسلام. ولقد تحقق فعلاً لليهود وللاستعمار بإسقاط عبد الحميد كل ما كانوا يرجونه ولم تلبث الهجرة إلى فلسطين أن بدأت سافرة منذ ذلك الحين وتحقق ذلك الأمل الذي استعصى سنوات وسنوات، وكان ذلك مقدمة لاشك فيها للقضاء على الخلافة الإسلامية.
ولقد كان ضرورياً للباحث المتمهل المنصف أن يقف دائماً من تاريخ الدولة العثمانية في العصر الأخير موقف العدل والصدق وأن يفرق بين عهدين: عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1908 م تقريباً وعهد حكم الاتحاديين الذي بدأ منذ ذلك الوقت وظل مستمراً حتى أسلم أمره إلى الكماليين بعد الحرب العالمية الأولى. فهذه التفرقة واضحة وضرورية خاصة بالنسبة لنا في المشرق: ذلك أن سوريا ولبنان والعراق قبل ذلك تعيش في هذا الاتجاه المعارض للخلافة والسلطان بينما كانت مصر التي سقطت عنها ولاية الدولة العثمانية وسيطر عليها الاستعمار البريطاني منذ 1882 م تؤيد الخلافة والسلطان. ولقد كان لموقف حكومة الاتحاد التركي من أهل سوريا ولبنان ومحاكمة رجالهم وتعليقهم على المشانق عام 1916 م أثر نفسي يعيد في نظرتهم الكلية إلى الدولة العثمانية والحقيقة أنها يجب أن تكون قاصرة على الاتحاديين وحدهم.
ومن هنا وجب التفريق بين مرحلة السلطان عبد الحميد التي انتهت عام 1908 م وهي فترة كان موقف الدولة العثمانية فيها بالنسبة للعرب والمسلمين موقفاً كريماً، وكانت الحركة الإسلامية الواحدة من أعظم الأعمال، أما الفترة التالية التي حكم فيها الذين أسقطوا السلطان فإنها تمثل أسود صفحات الحكم التركي ولاء للصهيونية والاستعمار وضرباً للوحدة الإسلامية وإعلاء للحركة الطورانية، ومحاولة لتتريك العرب في سوريا وتعليق زعمائهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف فيها العرب من سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك نجد أنه من الضروري أن نصحح عبارة ’’الاستعمار التركي’’ أو العثماني. والواقع أن كلمة استعمار كلمة مستحدثة مرتبطة إلى حد كبير بدول مسيطرة بقوة الحديد والنار تأخذ ثروات الأمم بأبخث الأثمان لتجعلها مورداً خاماً لمصانعها ثم تعيد إلى هذه الأمم منتجاتها لتبيعها بأعلى الأسعار، وهذا النظام الاستعماري لم يكن موجوداً في هذه الفترة ولم تكن الدولة العثمانية بهذا المعنى دولة مستعمرة، كذلك فإن الأجزاء العربية التي انضمت إلى الدولة العثمانية لم تكن قد انضمت باحتلال وقسر ولكنها كانت برضاء ودعوة، فقد وجد العرب أنفسهم بعد ضعف المماليك في حاجة إلى الالتقاء تحت اسم الإسلام مع هذه الدولة الكبرى رغبة في الوحدة وحافظة على النفس. وبعد أن تعرضت سوريا ومصر لمحاولات غزو صليبي متجدد من الغرب، والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام. وقد أكد المؤرخون والباحثون إن هذا الالتقاء بالعرب والترك في ظل الدولة العثمانية قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي الذي لم يلبث أن جاء بعد ضعف الدولة العثمانية.
والواقع أن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لم يتجاوزها الزمن ولقد تبين للمسلمين اليوم بعد سنوات طويلة من الدعوات الإقليمية والقومية أن الوحدة الإسلامية هي الأصل الأصيل والوجهة الصحيحة وكل الدلائل تؤكد أن المسلمين سائرون إلى طريق الوحدة الذي حطمته اليهودية والاستعمار بإسقاط عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
حاشية:
عندما عقد الملتقى الإسلامي الثامن في ولاية بجاية من جمهورية الجزائر عام 1974 م وأثار كعادته في كل عام عدداً من القضايا والمعضلات التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث وقد اشترك في الملتقى عدد كبير من الباحثين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي كما شارك فيه ممثلون للمسلمين في الهند واليابان كانت أبرز القضايا التي تناولها البحث:
- وضع الأقليات والجاليات عموماً والإسلامية خصوصاً في كثير من بلدان القارات الخمس وواجب العلماء والمفكرين ورجال الإعلام نحوها.
وقد أشارت الدكتورة ليلى الصباغ من أساتذة التاريخ بجامعة دمشق إلى الدولة العثمانية إشارة ظالمة حين قالت:
أنها أشلمت البلاد العربية لقمة سائغة للاستعمار العربي.
وقد تصدى لها عدد من الباحثين الجزائريين وعرضوا لوجهة نظرهم إزاء الدولة العثمانية والدور الكبيرة الذي قامت به إزاء حماية المغرب كله من الغزو الأوروبي وتوالت المطالبة بمعرفة دور المشرق وقد تصدى كاتب هذه السطور ذللك فقال:
رغبة في تغطية قضية الدولة العثمانية نظر المشرق والعرب ومصر بالإضافة إلى وجهة النظر المغربية الجزائرية في هذه المسألة نقول: لقد تأثرنا في مصر والمشرق في كتبنا المدرسية وأبحاثنا التاريخية بوجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية، وهي وجهة خاصة للغربيين، نتيجة التوسع التركي عرفتها مناطق البلقان وغيرها في القرن التاسع عشر، وقد نقل الاستعمار البريطاني في مصر، والفرنسي في سوريا، وجهة النظر هذه إلى كتب التاريخ التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا، كما تأثر بها بعض مؤرخينا متابعة للنظرة الغربية، أو تحت تأثير الدعوات الإقليمية كالفرعونية الفينيقية وغيرها غير أن هذه النظرة تعمقت من بعد وبلغت أقصى غاياتها في تجاوز الحقيقة، على أثر ظهور الصحافة العربية التي حررها وأخرجها اللبنانيون المارون، خريجو معاهد الإرساليات، وأصحاب العداء الواضح للدولة العثمانية.
وزاد هذه النظرة عنفاً وتعصباً: تلك المحاولة الخطيرة التي طرحتها الصهيونية العالمية بعد عام 1902 م اتشويه شخصية السلطان عبد الحميد ةرميه بالاتهامات كأمثال السلطان الأحمر والمستبد العثماني وغيره، وكلها كانت محاولات أريد منها تهيئة الأذهان للقضاء عليه وانتزاعه من مكانه، وقد عاونت المقطم والأهرام والهلال والمقتطف وكلها كانت لبنانبة الأصل في هذه الحملة وكان ذلك على أثر الموقف الحاسم الذي وقفه السلطان عبد الحميد من المحاولات المتصلة التي جرت خلال الأعوام السابقة لعام 1902 م والذي أرسل فيه السلطان خطابه التاريخي إلى الصحفي اليهودي ثيودور هرتزل صاحب كتاب الدولة اليهودية ومرؤسس الصهيونية الحديثة وقد جاء في هذا الخطاب بالنص:
قولوا للدكتور هرتزل لا يتصل بي مرة أخرى، أن بلادي تفضل أن تظل مدينة على أن تسدد ديونها من ذهب اليهود، إن فلسطين هي بلاد العرب ولا أستطيع أن أفرط في شبر منها.
وكان الدكتور هرتزل قد عرض على السلطان عبد الحميد خمسين مليوناً من الجنيهات الذهب لخزانة الدولة وخمسة ملايين من الجنيهات الذهب لخزانة السلطان الخاصة إلى مشاريع أخرى كثيرة لدعم الدولة العثمانية اقتصادياً.
وقد سجل هرتزل في مذكراته كيف حاول إغراء ذلك الرجل الكريم أشد إغراء ثم كشفت وثائق التاريخ من بعد كيف جرت المحاولات لقتله ثم إسقاطه وقد أغري أشد إغراء وهدد أشد تهديد ولكنه صمد صموداً مشرفاً وظل موقفه هذا محجوباً عن الصحافة وعن المدارس والجامعات وكتب التاريخ سنوا طويلة حتى ترجمت مذكرات هرتزل في السنوات الأخيرة، وظل اسم السلطان عبد الحميد يذكر في كتبنا المدرسة مشفوعاً بأبشع الاتهامات حتى أحق الله الحق وكشف ذلك الزيف الذي حاول به الاستعمار وحاولت الصهيونية إيقاع الفرقة والخلاف بين العرب في مصر والشام وبين الدولة العثمانية.
وللحقيقة فإننا يجب أن نفرق بيين عهدين في تاريخ علاقتنا بالدولة العثمانية: فترة السلطان عبد الحميد التي تنتهي عام 1908 م باستيلاء الاتحاديين تلاميذ حزب الاتحاد والترقي وإنباع الماسونية وربائب الدونمة وبين الفترة التالية التي استمرت حتى عام 1918 م وهي الفترة التي تمثل أسود صفحات العلاقة بين العرب والترك، وهي ليست من حساب الحكم التركي الإسلامي ولكنها مرحلة متقدمة لخدمة الصهيونية العالمية ونصرها وتشكيل أول محاولة لضرب الوحدة الإسلامية العربية، بإعلاء الدعوة الطورانية، ومحاولة تتريك العرب في سوريا وتعليقهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف منها العرب في سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك فإن النظرة إلى الدولة العثمانية عام 1619 م عندما انضمت الأجزاء العربية في العراق وسوريا ومصر إليها، فإنها في التحليل التاريخي الدقيق ليست سوى التقاء بين عنصرين مسلمين. وقد وجدت من جانب العرب تقبلاً صادقاً فهي ليست في حقيقتها إلا محاولة طبيعية من محاولات الالتقاء والتكامل بين أجزاء العالم الإسلامي في مواجهة الأخطار وقد جاءت هذه الوحدة الإسلامية بين العرب والترك على أثر ضعف قوى المماليك وتعرض الأجزاء العربية وخاصة الشام ومصر لتجدد الغزو الصليبي. والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها، حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة رفعت راية الإسلام خفاقة عالية. وقد أكد الباحثون أن هذا اللقاء بين العرب والأتراك قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي للمرة التالية.
ومن الحق أن يقال أن العثمانيين قد قاموا في هذه المرحلة الأولى بالأخذ بمفاهيم الإسلام في نطاق الحكم وتحركوا من خلال إطاره. ويشهد المؤرخون غير المتعصبين على الإسلام أو الناقمين على الدولة العثمانية بأن العثمانيين قد اقتفوا أثر الخلفاء الأولين في العدل والتسامح وتمثلوا أعمالهم واتخذوهم قدوة وعملوا على جمع القلوب إليهم بتقدير العلماء ةإنشاء المساجد والمدارس ومن هنا جرت محاولات البحوث الاستعمارية على وصف العلاقة بين العرب والترك بأنها نوع من الاستعمار وهي ليست كذلك في الحقيقة وإنما هذه هي النظريات المدخولة التي يحاول الغزو الفكري والتبشير إذاعتها لإقرارها في الأذهان.
ولقد مرت الدولة العثمانية ككل كائن حي بمرحلة القوة ثم بمرحلة الضعف، ولكن السلطان عبد الحميد كان يعرف أساليب الاستعمار ويواجهها في دهاء وبراعة وقد شهد جمال الدين الأفغاني حين التقى به بأن عبد الحميد يدبر لأوروبا في مواجهة كل محاولة رداً وفي مقابل كل مؤامرة أمراً.
لم يكن الخلاف أذن بين العرب والترك ولكنه كان بين العرب والاتحاديين دعاة الطورانية فلنفرق دائماً بين هذه المراحل ولنعرف أنه قد نشأ في مصر والبلاد العربية الآن تيار قوي لتصحيح هذه الأخطاء على ضوء ما كشفته الوثائق من بروتوكولات صهيون أو ما نشر عن مؤامرات الماسونية على النحو الي يعيد الحقائق إلى نصابها في طريق وحدة الفكر الإسلامي المتجه إلى وحدة الفكر الإسلامي كمقدمة للوحدة الإسلامية التي هي أمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
أضافة تعليق