(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)… آية قرآنية صارت حاضرة بقوة فترة معركة طوفان الأقصى، يرددها فئام من الصامتين والمتخاذلين والمتآمرين، وبعض أصحاب النوايا الحسنة، الذي غابوا عن الحقيقة، وغُيِّبت عنهم.
يُلوّحون بهذه الآية في سياق انتقاد المقاومة الفلسطينية، بأنها واجهت جيشًا هو الأقوى عدة وعتادا، ويحظى بدعم أمريكي وغطاء دولي في ارتكاب المجازر الوحشية ضد الفلسطينيين عموما وضدّ أهل غزة تحديدا، يقولون إن فارق القوة المهول كان يفرض على حماس ألا تستفز العدو الصهيوني، وأن ما فعلته المقاومة إنما يخالف صريح هذه الآية الكريمة، فالمقاومة عرضت نفسها للتهلكة، وعرضت المدنيين العزّل للتهلكة.
وطالما أن هؤلاء أوجدوا منطلقا شرعيًا لإقامة الحجة على المقاومة، فلزم علينا أن نرد عليهم كذلك انطلاقا من الشريعة، فماذا تعني التهلكة في الآية الكريمة؟
وحتى نزيل الجهل عمن يجهل، ونذكّر من يرغب في الذكرى، نضع هنا ما أورده الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، فعَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: حَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ حَتَّى خَرَقه، وَمَعَنَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ نَاسٌ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا، صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَهِدنا مَعَهُ الْمُشَاهِدَ وَنَصَرْنَاهُ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ، اجْتَمَعْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ نَجِيَا، فَقُلْنَا: قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَصْرِه، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أهلُه، وَكُنَّا قَدْ آثَرْنَاهُ عَلَى الْأَهْلِينَ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَنَرْجِعُ إِلَى أَهْلِينَا وَأَوْلَادِنَا فَنُقِيمُ فِيهِمَا. فَنَزَلَ فِينَا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ: الْإِقَامَةِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ.
تلك هي التهلكة يا من يرددون الآية بلا وعي، في موطن لا يحتمل التخذيل ولا يحتمل تغييب الوعي، التهلكة هي ترك الجهاد في سبيل الله، والرضا بعرض من الدنيا قليل.
ومنذ متى كان فارق القوة يحول بين المؤمنين وجهاد أعدائهم يا معشر المخذلين المتخاذلين؟ لقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم معركة بدر بجيش تعداده يعادل ثلث تعداد جيش المشركين، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي بأصحابه إلى التهلكة؟
وفي معركة أحد كان جيش المشركين ثلاثة آلاف، وجيش المسلمين ألفا انسحب ثلثهم تحت قيادة رأس النفاق ابن سلول، فصاروا سبعمائة، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي بأصحابه إلى التهلكة؟
وفي معركة مؤتة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا جيشا من الروم قوامه مائتي ألف، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي بأصحابه إلى التهلكة؟
هل كان البراء بن مالك يلقي بنفسه إلى التهلكة يوم معركة حديقة الموت، عندما طلب من المسلمين أن يجلسوه على ترسٍ محمول على الرماح ويقذفونه إلى داخل أسوار الحديقة بين الأعداء ليفتح للمسلمين؟
الصحابي الجليل ضرار بن الأزور، هجم بمفرده على جيش الروم في موقعة أجنادين يجندل يمينا وشمالا، ولما عاد إلى أدراجه تبعه ما يزيد عن عشرين فارسا، فخلع درعه الواقي عن صدره، وألقى بترسه على الأرض ليزداد خفة، فقتل ما يزيد عن عشرة منهم قبل أن يصل إلى موقعه في جيش المسلمين، فهل كان ضرار يلقي بنفسه إلى التهلكة؟
وهكذا جرى عمل المسلمين في جميع العصور، لا يقعدهم فارق القوة لصالح أعدائهم عن الجهاد، ولا يعدون التضحية والإقدام تهلكة، يعدون ما استطاعوا من قوة ولكن لا يكترثون لفارق القوة، فإنما هي إحدى الحسنيين، نصرٌ أو شهادة، وتلك معادلة لا يعيها الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، إنما يدركها أهل الإيمان، الذين يرددون “الله أكبر” لفظا ومعنى، يدركون أن الله ينصر عباده المؤمنين، وأن الله يدافع عن الذين آمنوا، يدركون أن الله يمدهم بمدد من عنده إذا هم صدقوا النية والقصد وأحسنوا العمل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.