التصعيد الحاصل في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023 كانت له تداعيات وأصداء في شتى أرجاء العالم، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي. ولم تكن شبه الجزيرة الكورية استثناء من ذلك. بل إن الأصداء هناك قد أخذت أبعاداً ربما لم تتواجد في أماكن أخرى من العالم، باستثناء منطقة الشرق الأوسط ذاتها، من قبيل ما قيل عن استخدام حركات المقاومة الفلسطينية أسلحة كورية شمالية.
كما أنه لا يمكن إغفال خصوصية علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع شطري شبه الجزيرة الكورية، ومقارنة ذلك بخصوصية علاقاتها مع طرفي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ومرة أخرى وعلى سبيل المثال فبينما كانت إحدى حاملات الطائرات الأمريكية تسير نحو شرقي البحر المتوسط لردع أطراف أخرى عن الدخول في الصراع ضد إسرائيل، فإن حاملة طائرات أمريكية أخرى كانت ترسو في أحد الموانئ الكورية الجنوبية لردع كوريا الشمالية عن القيام باستفزازات أو التفكير في شن هجوم ضد كوريا الجنوبية.
لكلا الكوريتين مصالح في منطقة الشرق الأوسط، لكن شتان بين تلك المصالح. ففي حالة كوريا الجنوبية تتسع تلك المصالح وتتشعب، وفي الحالة الكورية الشمالية فإنها ضيقة ومحدودة. وبالنسبة لعلاقات الطرفين مع إسرائيل فإنها في الحالة الكورية الجنوبية يمكن وصفها بالدافئة، بينما لا يوجد أي نوع من العلاقات بين كوريا الشمالية وإسرائيل. هذه العوامل وغيرها كان لها تأثير على مواقف الكوريتين من جولة التصعيد الأخيرة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما أنها أثارت قضايا تخص الصراع في شبه الجزيرة الكورية أيضاً.
موقفان متباينان
كوريا الجنوبية كانت واضحة منذ البداية في إدانة الهجوم الذي وقع يوم السابع من أكتوبر بشدة، وإبداء الانزعاح من كثرة عدد الضحايا المدنيين. هذا الموقف الذي لاقى تقديراً من السفير الإسرائيلي لديها، ومع استمرار عمليات التصعيد وسقوط آلاف الضحايا من الفلسطينيين في ظل ما تقوم به إسرائيل عبرت سول عن عميق قلقها جراء التزايد في أعداد الضحايا المدنيين، ومن ثم فإنها حثت الأطراف المعنية على اتخاذ ما يلزم من تدابير لحماية المدنيين طبقا لقواعد القانون الدولي الإنساني، مع إشارة إلى توقع بذل جهود من الجميع حتى تصل المساعدات الإنسانية إلى أولئك المدنيين الذين يعانون.
وقد رصدت الحكومة الكورية الجنوبية مليوني دولار للمساهمة في تقديم المساعدات للمدنيين المتأثرين بالصراع بالتنسيق مع المنظمات الدولية المعنية من أجل ضمان استخدام هذه المساعدات في الأغراض الإنسانية فقط. وقد كان الحزب الحاكم أكثر حدة في وصفه لما تم يوم السابع من أكتوبر، ومن ثم تبعاته. وقد تقدم مشرعون من الحزب بمشروع قانون لإدانة حركة حماس، مع الدعوة إلى ضرورة ضمان سلامة الكوريين الجنوبيين المقيمين في المنطقة، ودعوة الحكومة الكورية للقيام بدور عالمي والمساهمة في حل الصراع.
وكانت الحكومة الكورية قد عملت على إجلاء مواطنيها من إسرائيل، سواء عبر الرحلات التجارية المنتظمة التي تأثرت كغيرها من الرحلات، قبل أن تتوقف، أو من خلال طائرات عسكرية تم إرسالها لهذا الغرض. وقد لوحظ أن هناك تنسيقاً بين كوريا الجنوبية واليابان على هذا الصعيد، حيث أحضرت الطائرات الكورية الجنوبية بعض المواطنين اليابانيين من إسرائيل وكذلك فعلت الطائرات اليابانية التي أرسلت لذات الغرض.
وعلى صعيد المجتمع المدني فقد قررت إحدى المنظمات المدنية المعنية بالأطفال تقديم 100 ألف دولار أمريكي استجابة للأوضاع التي ترتبت على التصعيد، والمضار الكبيرة التي لحقت بالأطفال، وتنسق المنظمة في ذلك الأمر مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). كما كانت هناك مظاهرات احتجاجاً على القصف الإسرائيلي لغزة، وإن كانت بأعداد محدودة. كما أن معظم من شاركوا فيها من الأجانب. وقد قصدت إحدى المسيرات التي شارك فيها حوالي مائتي متظاهر السفارة الإسرائيلية في سول، وكان ربع المتظاهرين تقريباً من الكوريين.
في المقابل، فإن كوريا الشمالية انطلقت من أن الأمر نتيجة منطقية لما يمارس من إجرام في حق الشعب الفلسطيني، وأن الحل يتمثل في ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وأن الذي وراء التصعيد الأخير هو الولايات المتحدة التي تقدم الرعاية لحليفتها التي تحتل أراضي فلسطين، وتنتهك حقوق شعبها. كما أن واشنطن بحسب ما ترى بيونج يانج تتبع سياسة رجعية في الشرق الأوسط، وهدفها الحقيقي ليس السلام، وإنما احتواء وتطويق الدول المناهضة لها في المنطقة. وهذا ما أدى إلى تعقيد الأمور وليس انفراجها. وهذه السياسة أثرت بالسلب على القضية الفلسطينية، وهي القضية الجوهرية الرئيسية في الشرق الأوسط. وفي التصعيد الأخير فإن واشنطن قد اختارت حسب بيونج يانج دفع الأمور إلى حافة الحرب عبر تقديمها الدعم العسكري لحليفتها، مع إهمال الحلول السياسية للأزمة، وعرقلة إصدار مجلس الأمن قراراً يقضي بوقف إطلاق النار، والتخفيف من الأزمة الإنسانية، بما يعني استمرار تدهور الوضع. كما انتقدت بيونج يانج انضمام الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في نهجها حيال الأزمة، معتبرة أن ذلك يدل على عدم استقلاليته. وقد وصفت كوريا الشمالية ما وصلت إليه الأوضاع بأنها بمثابة مذبحة واسعة النطاق محملة الولايات المتحدة مسئوليتها عبر ما تقوم به من تحريض وتحيز. وحول اتهامات واشنطن للجانب الفلسطيني فإن بيونج يانج اعتبرت أن ذلك مرفوض بشكل قاطع من قبل ما أسمته بالمجتمع الدولي العادل.
وقد أدرجت بيونج يانج الدعم العاجل الذي طلبه الرئيس جو بايدن لإسرائيل ضمن الدعم الأمريكي المستمر لإسرائيل رغم استمرارها في احتلال الأراضي الفلسطينية، وقيامها بهجمات مسلحة متواصلة، وقتل المدنيين بصورة غير إنسانية، والتوسع في الاستيطان. وهذا كله يتعارض مع هدف الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.
يلاحظ هنا التشابه الكبير بين الطرح الكوري الشمالي والطرح الروسي حول ما يجري في الشرق الأوسط، على الأقل من حيث الطرف الرئيسي الذي يتحمل المسئولية. كما أن بيونج يانج ربطت أيضاً بين ما يجري في الشرق الأوسط وما يجري في أوكرانيا، ليس فقط من حيث اتهام واشنطن بالتسبب في الأزمتين، وإنما من حيث الكيل بمكيالين، فبينما تدافع واشنطن عن حق أوكرانيا في تقرير مصيرها، والحفاظ على سلامتها الإقليمية، فإنها تتعامل بتجاهل تام مع آلام الفلسطينيين الممتدة لعقود.
وتخلص بيونج يانج من ذلك إلى أن واشنطن بتصرفاتها تلك لا يمكن اعتبارها وسيطاً للسلام في الشرق الأوسط، بل إنها هادمة لذلك السلام. واعتبرت أن الأزمة الحالية في الشرق الأوسط ستنتهي بهزيمة استراتيجية جديدة لواشنطن.
قضايا مثارة
بعيداً عن المواقف المباشرة للكوريتين من جولة التصعيد الأخيرة في الشرق الأوسط، فإن هناك قضايا أثارها هذا التصعيد في شبه الجزيرة الكورية. من بين هذه القضايا: فعالية نظام العقوبات المفروض على كوريا الشمالية، وخاصة في شق تصدير السلاح. والتخوف من تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر على الحدود بين الكوريتين. والتأثير على الاتفاقات الأمنية بين الكوريتين.
فيما يتعلق بمسألة تصدير الأسلحة الكورية الشمالية، فقد ذكرت بعض المصادر، بما فيها المصادر الإسرائيلية أن من بين الأسلحة التي استخدمتها حركة حماس في هجومها كانت هناك أسلحة كورية شمالية. وبادئ ذي بدء فإن هذه ليست المرة الأولى التي تتهم فيها كوريا الشمالية بتصدير السلاح إلى أماكن الصراعات على الرغم من منظومة العقوبات الدولية الصارمة التي تمنعها من ذلك. فقد تكرر اتهامها تزويد روسيا بأسلحة وذخائر خلال الحرب في أوكرانيا. وها هي الاتهامات تتجدد بالنسبة لما يجري في الشرق الأوسط. هذه الاتهامات لم تسكت عليها بيونج يانج. فقد اعتبرت أن الأمر يندرج في إطار حملات التشهير ضدها، معتبرة أن كل ما ينشر حول هذا الموضوع هو إشاعات كاذبة، ومحاولة لإلقاء اللوم على دول ثالثة مع أن السبب الرئيسي لما يحدث معروف كما ذكرت بيونج يانج سابقاً. ويلاحظ أن كوريا الشمالية كانت قد نفت أيضاً قيامها بتزويد روسيا بأسلحة عندما انتشرت مثل هذه التكهنات في بدايتها.
لا يقتصر أمر الاهتمام بتصدير كوريا الشمالية للسلاح على الولايات المتحدة وإسرائيل في هذه الحالة، وإنما تهتم كوريا الجنوبية كثيراً بهذا الموضوع، تماماً كاهتمامها بإمكانية تصديرها السلاح لروسيا. ليس فقط بسبب مواقف سول من الصراعين، وإنما لما يمكن أن يدره ذلك من موارد على كوريا الشمالية تساعدها على الاستمرار في تمويل برامجها التسليحية بما فيها البرامج غير التقليدية. وتقول المصادر الكورية الجنوبية إن تلك الأسلحة ربما تكون قد وصلت إلى الفصائل الفلسطينية عبر وسطاء وليس شرطاً أن تكون مباشرة من كوريا الشمالية، كما أن بعض الأسلحة قد تكون نسخاً من أسلحة كورية شمالية. ليس هذا فحسب بل إن هناك من ذهب إلى أن الأسلوب الذي استخدمته حماس يذكر بأساليب سبق واستخدمتها كوريا الشمالية، ويرتبون على هذا الأمر ليس فقط تزويداً بالسلاح، وإنما وجود علاقات على صعيد التدريب والتوجيهات التكتيكية.
لم تقف المخاوف الكورية الجنوبية عند مسألة تصدير السلاح، والتشابه بين ما قامت به حماس وما سبق لكوريا الشمالية أن قامت به، وإنما انتقل إلى المخاوف من تكرار ما حدث على الحدود بين الكوريتين في إطار غزو مفاجئ تقوم به بيونج يانج، حيث أن ما قامت به حماس من إطلاق عدد كبير من الصواريخ قبل العبور بالمظلات أدى إلى تعطيل عمل نظام الإنذار المبكر. ومما يزيد من المخاوف الكورية الجنوبية أنه سبق لطائرات بدون طيار كورية شمالية أن اخترقت الحدود مما أدى إلى إجراءات من بينها إنشاء وحدة قيادة خاصة بهذا النوع من الطائرات في الجيش الكوري الجنوبي. بطبيعة الحال فإنه في ظل حالة التوتر بين الكوريتين فإن من المنطقي أن يتحسب كل طرف لأي من الخطوات التي يمكن أن يقوم بها الطرف الآخر. لكن من الملاحظ أيضاً أن قدرات كوريا الشمالية لا يمكن مقارنتها بالقدرات التي لدى مجموعات المقاومة الفلسطينية، كما أن كوريا الشمالية قد لا تكون في حاجة إلى مثل هذه الخطط والتكتيكات نظراً لما تمتلكه بالفعل منها.
بخصوص الاتفاقات الأمنية بين الكوريتين، فإن الاتفاق الذي وقع بين الجانبين في بيونج يانج خلال قمة جمعت بينهما في سبتمبر من العام 2018 هو الذي ألقي عليه الضوء، حيث تجددت المناقشات حول إمكانية تجميد الاتفاق أو إلغائه نظراً لما يمكن أن يمثله من قيد على كوريا الجنوبية في حال قيام كوريا الشمالية بأمر مشابه لما قامت به حركة حماس. والواقع أنها ليست المرة الأولى التي يثار فيها الجدل داخل كوريا الجنوبية حول هذا الاتفاق، حيث سبق أن صدرت تصريحات وتلميحات أكثر من مرة حول الظروف التي يمكن أن تؤدي إلى اتخاذ قرار بإلغاء هذا الاتفاق.
كان من اللافت أيضاً أن صحفاً كورية جنوبية قد ناقشت مسألة إمكانية تراجع اهتمامات الإدارة الأمريكية بملف كوريا الشمالية في ظل تصاعد التوتر في الشرق الأوسط، وتوجيه جل الاهتمام إلى المنطقة في ظل العلاقات الخاصة بين واشنطن وإسرائيل. ويبدو أنه ليس الكوريون الجنوبيون وحدهم المهتمون بهذا الأمر، حيث أن الأوكرانيين أيضاً لديهم ذات المخاوف.
ومما يتحسب له الكوريون الجنوبيون أيضاً إمكانية تأثير الصراع، خاصة في حال استمراره وتوسعه على إمدادات الطاقة من المنطقة. إذ تعتمد كوريا الجنوبية بشكل كثيف على إمدادات الطاقة القادمة من الشرق الأوسط، حيث تستورد حوالي 70% من احتياجاتها من النفط من المنطقة. ومن ثم فإنهم يدرسون طرق التعامل مع الوضع، بما في ذلك إمكانية السحب من الاحتياطيات التي تكفي لمدة ستة أشهر.
من الواضح أن جولة التصعيد الأخيرة في الشرق الأوسط لها ارتدادات في شتى أرجاء العالم، بما في ذلك المناطق المتوترة والمشتعلة كما هو الحال في شبه الجزيرة الكورية وأوكرانيا. ومن الواضح أيضاً أن مواقف الكوريتين مما يجري في الشرق الأوسط لا يمكن فصلها عن مجمل التوجهات العامة لسياسة كل منهما الخارجية، والخطاب الأيديولوجي القيمي الذي ترفعه كل منهما وتدافع عنه، ناهيك عن شبكة العلاقات ليس فقط مع أطراف الصراع، وإنما مع القوى الإقليمية والعالمية صاحبة التأثير. كل ذلك في إطار الفهم لما من شأنه تحقيق المصلحة الوطنية للطرفين.
*نقلاً عن مركز الأهرام للدرسات السياسية والاستراتيجية*