في ظل حالة من الاضطراب في العلاقات الأمريكية-الصينية تضاف إلى القضايا الخلافية تعقيدات جديدة، وتستحدث خلافات حول قضايا لم تكن مطروحة منذ سنوات. وما كان هذا ليحدث لولا أن الرؤى والإدراكات ومن ثم التحركات والإجراءات في مسار العلاقات باتت تنحو إلى التنافس الصراعي. فعندما تصنف الولايات المتحدة الصين بأنها الدولة الأكثر تهديداً للنظام الدولي القائم على القواعد، وأنها التي تمتلك القدرات السياسية والاقتصادية والعلمية فضلاً عن العسكرية لفعل ذلك فلا يمكن تصور حالة من الرضا الصيني خاصة وأنها ترى الولايات المتحدة تتحرك في دوائر تبدأ بالمحيط الضيق حول الصين وتتسع هذه الدوائر مكانياً وموضوعياً لتطال الحضور الصيني الآخذ في التوسع منذ سنوات تشكيكاً في أهدافه وتحميلاً له مسئوليات قضايا وإشكاليات وأزمات، من بينها فخ الديون، والتنمر، والدبلوماسية القسرية وغيرها من المفردات الأمريكية التي تستخدم لوصف السياسات الصينية. وبطبيعة الحال لا تعدم الصين الردود.
في هذا السياق، تبرز قضية تصنيف الصين من حيث كونها دولة نامية أم أنها باتت دولة متقدمة. هذا التوجه بدأ في السياسة الأمريكية منذ سنوات، إلى أن ترجم في الشهور الأخيرة إلى تشريع يطالب صراحة بنزع صفة الدولة النامية عن الصين في المنظمات الدولية. ويصبح السؤال ما هي الحجج الأمريكية المطروحة تسويغاً لهذا التوجه؟، ثم كيف يمكن ترجمة هذا التوجه والذي أصبح قانوناً إلى إجراءات عملية؟، وإلى أي مدى يمكن أن تنجح واشنطن في هذا المسعى؟، وكيف تتعامل الصين مع هذا التوجه الأمريكي؟، وما هي مبرراتها لتفنيد ما تنادي به واشنطن؟، وما هي حججها المطروحة للمحافظة على وصفها كدولة نامية؟، وإلى أي مدى يمكن أن تكون حصيلة هذا الجدل؟، وختاماً ما هي دلالاته وانعكاساته على العلاقات الأمريكية-الصينية؟
جهود مستمرة
قبل أن تصل الأمور إلى سن التشريع الأمريكي الخاص بالعمل على تجريد الصين من صفة الدولة النامية، كانت هناك مساعٍ أمريكية واضحة خاصة في منظمة التجارة العالمية، وقد جاءت هذه المطالب على المستوى الرئاسي زمن ولاية دونالد ترامب. وكما هو معلوم دارت في سنواته رحى حرب تجارية بعيدة كل البعد عن قواعد منظمة التجارة العالمية. وهي الحرب التي شهدت فرض رسوم متبادلة بمبالغ ضخمة في ظل اتهامات أمريكية للصين وإصرار صيني على أن تلك الحرب مضرة ليس فقط بالجانبين، وإنما بالنظام التجاري الدولي كله، وأنها وإن كانت لا تريد تلك الحرب إلا أنها مستعدة لها.
لم تقف المطالب بتجريد الصين من وضعية الدولة النامية في منظمة التجارة العالمية تحديداً على الولايات المتحدة وحدها، وإنما كانت هناك مساعٍ من أهم حلفائها بريطانيا، حيث كان لوزيرة تجارتها في حينه ليز تراس - التي أصبحت فيما بعد رئيسة للوزراء قبل أن تقدم استقالتها - مطالبات بالأمر ذاته. ولا شك أن الولايات المتحدة ستحتاج ليس فقط إلى حليفتها بريطانيا فقط في مسعاها لتغيير وضعية الصين في المنظمات الدولية، وإنما لأكبر عدد من الدول لتحقيق ذلك، خاصة وأن القانون قد طالب وزير الخارجية بتقديم تقرير بعد ستة أشهر حول ما تم القيام به على هذا الصعيد إلى اللجان المعنية في الكونجرس. فما الذي فرضه القانون على وزير الخارجية وسائر الدبلوماسيين ومختلف المسئولين المعنيين القيام به؟.
ملاحظات رئيسية
القانون طالب بضرورة معارضة الولايات المتحدة لمعاملة الصين كدولة نامية في أي معاهدة أو اتفاق دولي تكون الولايات المتحدة عضواً فيه، ومعارضة وصف الصين كدولة نامية أو معاملتها بالصفة ذاتها في أي منظمة دولية تكون الولايات المتحدة عضواً فيها أيضاً. ومن ثم العمل على وصف الصين ومعاملتها ضمن مجموعة الدول المرتفعة الدخل أو ضمن شريحة الدول ذات الدخل المتوسط في الشريحة الأعلى أو كدولة متقدمة في أي منظمة دولية تكون واشنطن عضواً فيها.
هذه العناصر الثلاثة في القانون تثير عدداً من الملاحظات: الملاحظة الأولى، تتعلق بما إذا كان القانون سينسحب على المعاهدات والاتفاقيات السارية بالفعل أم أنه يرتبط بما سوف يعقد من معاهدات واتفاقات جديدة؟. ربما يكون من السهل على السياسة الخارجية الأمريكية وضع هذا البند في أي مفاوضات مستقبلية بخصوص معاهدات أو اتفاقات أو إعلانات دولية مستقبلية، لكن الأمر سيحمل صعوبة أكبر بالنسبة لما هو سار من اتفاقات. وقد تكون هناك فرصة لإثارة هذه القضية في حال كانت هناك تعديلات على معاهدات أو اتفاقات أو إعلانات دولية قائمة بالفعل، أو أن هناك بروتوكولات تلحق بها. والواقع أن المشرعين الأمريكيين سبق لهم ومنعوا تقديم التمويل لبروتوكول مونتريال المتعلق بالأوزون حتى تتوقف معاملة الصين كدولة نامية، معتبرين أنها بهذه الوضعية تحصل على ميزات غير عادلة.
الملاحظة الثانية، تتمثل فيما يمكن اعتباره تشوشاً في القانون، فهو يتحدث عن ثلاثة أوصاف بديلة لوصف الدولة النامية وليس وصفاً واحداً. وكما هو معلوم، فليست كل دولة ذات دخل مرتفع تعد دولة متقدمة، وإن كانت كل الدول المتقدمة ذات دخل مرتفع. ثم هل تعد الدولة الواقعة ضمن الشريحة العليا من الدول متوسطة الدخل دولة غير نامية؟. إذا كانت الإجابة بنعم فستواجه السياسة الأمريكية بسؤال عريض وهو: لماذا الصين وحدها من يراد معاملتها على هذا النحو؟، وإذا كانت الإجابة بالنفي فقد سقطت الحجة الأمريكية. وإلا فعليها أن تنتهج نهجاً يشمل كل الدول ذات الأوضاع الشبيهة بالأوضاع الصينية.
الملاحظة الثالثة، تنصرف إلى مدى قدرة الولايات المتحدة على جمع القدر الكافي من الأصوات المؤيدة لما تطرحه. إذ ربما تضمن أصواتاً مهمة من حلفائها المقربين. لكنها في الوقت ذاته قد تواجه معارضة قوية ليس فقط من الصين، وإنما من المقربين منها وكما هو معلوم فهؤلاء باتوا كثراً. أضف إلى ذلك ما يمكن أن تواجهه واشنطن من معارضة شريحة مهمة تتشابه ظروفها مع الصين، خاصة وأن تجريد الصين من وصف الدولة النامية قد ينسحب عليها لاحقاً، ومن ثم يحرمها من ميزات مهمة حصلت وتحصل عليها.
سياقات ومبررات
من الواضح أن مسألة نزع صفة الدولة النامية عن الصين ليست مجرد مسألة فنية، ولا مجرد قضية اقتصادية، وإنما تندرج ضمن حيثيات المنافسة الاستراتيجية الشاملة التي باتت لا تخطئها العين، بل وبات معلن عنها بكل صراحة. وإن نظرة على مجمل التفاعلات الأمريكية-الصينية في السنوات القليلة الماضية، سواء على الصعيد الثنائي أو في إطار قضايا وتفاعلات متعددة الأطراف تثبت ذلك. فها هو وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن يعلنها صريحة بأن الخلافات بين بلاده والصين ليست سراً، ولم يكتف بذلك بل إنه أكد على الاستمرار في الدفاع عن المصالح الأمريكية، ومن ثم الإتيان بتصريحات وأفعال لا تروق للصين، وهو ما لم ترض عنه الصين بالفعل مؤكدة خطأ السياسة الأمريكية تجاهها نظراً لأنها تنطلق من تصور خاطئ، يجعلها تعمل جاهدة على حجب واحتواء وقمع الصين، وتعمل على مهاجمتها وتشويه صورتها سعياً للتدخل في شئونها الداخلية. وتذهب بكين إلى أن هذا السلوك الأمريكي فيه انتهاك واضح للأعراف التي تحكم العلاقات الدولية، وأن من حقها معارضة هذا السلوك بكل حزم.
واشنطن تريد نزع صفة الدولة النامية عن الصين نظراً لأنها ترى أن الأخيرة تستفيد من هذه الوضعية كثيراً في ظل القواعد التي تحكم عمل المنظمات الدولية، من حيث الاستثناءات الممنوحة لشريحة الدول النامية موضوعياً وزمانياً. إذ يسمح لهذه الشريحة بفرض رسوم لا يسمح للدول المتقدمة بفرضها على سبيل المثال، كما أنه يسمح لها بسنوات أكثر من أجل تطبيق المعايير ذاتها التي تطبقها الدول المتقدمة في فترات زمنية أقرب.
الأمر لا يقف فقط عند الاستثناءات، وإنما يتعلق بالالتزامات، فنية كانت أو مالية، خاصة فيما يتعلق بقضايا البيئة والتغير المناخي. ثم تأتي الإعفاءات أو التسهيلات، خاصة فيما يتعلق بقواعد الاقتراض من المؤسسات الدولية. وهناك جدل أمريكي واضح حول كيف أن الصين ما زالت حتى هذه اللحظة تحصل على قروض ميسرة من البنك الدولي، وهي التي لديها كل هذه الفوائض المالية التي تستغلها في زيادة نفوذها في شتى أرجاء العالم، وكذلك في زيادة نفقاتها العسكرية.
ليست الفوائض المالية فقط ما يتم الحديث عنه، وإنما حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني، والذي قفز من حوالي 150 مليار في العام 1978 إلى أكثر من 18 تريليون دولار في العام 2022. كما أن الصين باتت الاقتصاد الثاني على مستوى العالم، وهناك توقعات بأن تتجاوز الولايات المتحدة في ظرف سنوات قلية. يضاف إلى ذلك أن الصين قد نجحت في إنشاء مؤسسات دولية من قبيل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، ناهيك عن تخصيصها استثمارات ضخمة لمبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها منذ عشر سنوات. الصين أيضاً حققت قفزات بالنسبة للارتقاء بمستوى معيشة مواطنيها، ونجحت في انتشال مئات الملايين من الفقر على مدار عقود.
الرد الصيني
في ردها المباشر على القانون الأمريكي، اعتبرت الصين أن هدفه الرئيسي هو "عرقلة التنمية الصينية". نقطة الانطلاق تلك في الرد الصيني تحمل دلالات كثيرة فيما يتعلق بالإدراكات، ومن ثم التصرفات من قبل الإدارة الصينية. فإذا كانت الصين على قناعة بأن الولايات المتحدة تريد عرقلة تنميتها، سواء عبر تشويهها باعتبارها تنمية غير سلمية، وتنمية تحمل في ثناياها مضار لدول ومناطق أخرى، وتنمية تقوم على الاستيلاء على جهود دول وشركات أخرى، فإنها ولا شك ستعمل بكل ما أوتيت من قوة ليس فقط لتفنيد ما تطرحه واشنطن، وإنما لإثبات عكسه، مع بيان الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة من كل ما تقوم به تجاهها.
وفي رد مباشر على مسألة الفوائد التي ما زالت الصين تحصل عليها بصفتها دولة نامية، أوضحت الأخيرة أنها تفي بمسئولياتها، وأن التزاماتها الدولية باتت تفوق التزامات الكثير من الدول المتقدمة هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية التأكيد على أن المسعى الأمريكي لا يمكن أن يحرم الصين مما تتمتع به مما تعتبره "حقوقاً مستحقة" باعتبارها دولة نامية.
وتذهب بكين إلى أنه لا يمكن لواشنطن أن تقرر ما إذا كانت الصين دولة نامية أو أنها قد تجاوزت ذلك، مطالبة واشنطن بدلاً من ذلك بالعمل على التخلص من المسميات الملتصقة بها، ومن بينها التنمر والهيمنة.
الصين لا تنكر أنها قد قطعت أشواطاً كبيرة في عملية التنمية، وتتفاخر بما أنجزته على صعيد القضاء على الفقر. لكنها في الوقت ذاته ترى أنه ما زال أمامها الكثير حتى تنتقل من مرحلة الدولة النامية.
لقد كان لافتاً وصف الرئيس الصيني شي جين بينج لبلاده بأنها أكبر دولة نامية في العالم عندما قام بتهنئة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقب فوزه في انتخابات الرئاسة عام 2016 مع وصف بلاد الأخير بأنها الدولة المتقدمة الأكبر في العالم، داعياً بطبيعة الحال إلى التعاون بين الجانبين، ومعتبراً أن هذين الوصفين لكلا البلدين يرتب عليهما مسئوليات خاصة للحفاظ على السلام والاستقرار والتنمية العالمية. وكما هو معلوم لم تسر الأمور على هذا النحو.
من الواضح أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين لم تترك قضية إلا ووصلت إليها بما في ذلك إثارة قضايا من المفترض أنها محل اتفاق ليس بين الجانبين فقط بل وفي العالم كله مثل قضية تايوان، ومن ثم فليس من المستغرب ذلك السعي الأمريكي لسلب الصين صفة الدولة النامية نظراً لأن الهدف النهائي في تلك المنافسة الاستراتيجية هو حرمان الصين من تحقيق أهدافها، لا سيما وأن واشنطن تعتبر تحقيق تلك الأهداف خطراً عليها. ومن جانبها، فإن الصين تدرج المساعي الأمريكية في إطار التهديدات الموجهة لها. مثل هذه الثنائية يمكن أن تنتج متواليات من السياسات التصعيدية الخطيرة والتي تحتاج بلا شك لآليات ضبط حتى لا تنزلق الأمور ولو من باب الخطأ أو سوء التقدير.
**مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
في هذا السياق، تبرز قضية تصنيف الصين من حيث كونها دولة نامية أم أنها باتت دولة متقدمة. هذا التوجه بدأ في السياسة الأمريكية منذ سنوات، إلى أن ترجم في الشهور الأخيرة إلى تشريع يطالب صراحة بنزع صفة الدولة النامية عن الصين في المنظمات الدولية. ويصبح السؤال ما هي الحجج الأمريكية المطروحة تسويغاً لهذا التوجه؟، ثم كيف يمكن ترجمة هذا التوجه والذي أصبح قانوناً إلى إجراءات عملية؟، وإلى أي مدى يمكن أن تنجح واشنطن في هذا المسعى؟، وكيف تتعامل الصين مع هذا التوجه الأمريكي؟، وما هي مبرراتها لتفنيد ما تنادي به واشنطن؟، وما هي حججها المطروحة للمحافظة على وصفها كدولة نامية؟، وإلى أي مدى يمكن أن تكون حصيلة هذا الجدل؟، وختاماً ما هي دلالاته وانعكاساته على العلاقات الأمريكية-الصينية؟
جهود مستمرة
قبل أن تصل الأمور إلى سن التشريع الأمريكي الخاص بالعمل على تجريد الصين من صفة الدولة النامية، كانت هناك مساعٍ أمريكية واضحة خاصة في منظمة التجارة العالمية، وقد جاءت هذه المطالب على المستوى الرئاسي زمن ولاية دونالد ترامب. وكما هو معلوم دارت في سنواته رحى حرب تجارية بعيدة كل البعد عن قواعد منظمة التجارة العالمية. وهي الحرب التي شهدت فرض رسوم متبادلة بمبالغ ضخمة في ظل اتهامات أمريكية للصين وإصرار صيني على أن تلك الحرب مضرة ليس فقط بالجانبين، وإنما بالنظام التجاري الدولي كله، وأنها وإن كانت لا تريد تلك الحرب إلا أنها مستعدة لها.
لم تقف المطالب بتجريد الصين من وضعية الدولة النامية في منظمة التجارة العالمية تحديداً على الولايات المتحدة وحدها، وإنما كانت هناك مساعٍ من أهم حلفائها بريطانيا، حيث كان لوزيرة تجارتها في حينه ليز تراس - التي أصبحت فيما بعد رئيسة للوزراء قبل أن تقدم استقالتها - مطالبات بالأمر ذاته. ولا شك أن الولايات المتحدة ستحتاج ليس فقط إلى حليفتها بريطانيا فقط في مسعاها لتغيير وضعية الصين في المنظمات الدولية، وإنما لأكبر عدد من الدول لتحقيق ذلك، خاصة وأن القانون قد طالب وزير الخارجية بتقديم تقرير بعد ستة أشهر حول ما تم القيام به على هذا الصعيد إلى اللجان المعنية في الكونجرس. فما الذي فرضه القانون على وزير الخارجية وسائر الدبلوماسيين ومختلف المسئولين المعنيين القيام به؟.
ملاحظات رئيسية
القانون طالب بضرورة معارضة الولايات المتحدة لمعاملة الصين كدولة نامية في أي معاهدة أو اتفاق دولي تكون الولايات المتحدة عضواً فيه، ومعارضة وصف الصين كدولة نامية أو معاملتها بالصفة ذاتها في أي منظمة دولية تكون الولايات المتحدة عضواً فيها أيضاً. ومن ثم العمل على وصف الصين ومعاملتها ضمن مجموعة الدول المرتفعة الدخل أو ضمن شريحة الدول ذات الدخل المتوسط في الشريحة الأعلى أو كدولة متقدمة في أي منظمة دولية تكون واشنطن عضواً فيها.
هذه العناصر الثلاثة في القانون تثير عدداً من الملاحظات: الملاحظة الأولى، تتعلق بما إذا كان القانون سينسحب على المعاهدات والاتفاقيات السارية بالفعل أم أنه يرتبط بما سوف يعقد من معاهدات واتفاقات جديدة؟. ربما يكون من السهل على السياسة الخارجية الأمريكية وضع هذا البند في أي مفاوضات مستقبلية بخصوص معاهدات أو اتفاقات أو إعلانات دولية مستقبلية، لكن الأمر سيحمل صعوبة أكبر بالنسبة لما هو سار من اتفاقات. وقد تكون هناك فرصة لإثارة هذه القضية في حال كانت هناك تعديلات على معاهدات أو اتفاقات أو إعلانات دولية قائمة بالفعل، أو أن هناك بروتوكولات تلحق بها. والواقع أن المشرعين الأمريكيين سبق لهم ومنعوا تقديم التمويل لبروتوكول مونتريال المتعلق بالأوزون حتى تتوقف معاملة الصين كدولة نامية، معتبرين أنها بهذه الوضعية تحصل على ميزات غير عادلة.
الملاحظة الثانية، تتمثل فيما يمكن اعتباره تشوشاً في القانون، فهو يتحدث عن ثلاثة أوصاف بديلة لوصف الدولة النامية وليس وصفاً واحداً. وكما هو معلوم، فليست كل دولة ذات دخل مرتفع تعد دولة متقدمة، وإن كانت كل الدول المتقدمة ذات دخل مرتفع. ثم هل تعد الدولة الواقعة ضمن الشريحة العليا من الدول متوسطة الدخل دولة غير نامية؟. إذا كانت الإجابة بنعم فستواجه السياسة الأمريكية بسؤال عريض وهو: لماذا الصين وحدها من يراد معاملتها على هذا النحو؟، وإذا كانت الإجابة بالنفي فقد سقطت الحجة الأمريكية. وإلا فعليها أن تنتهج نهجاً يشمل كل الدول ذات الأوضاع الشبيهة بالأوضاع الصينية.
الملاحظة الثالثة، تنصرف إلى مدى قدرة الولايات المتحدة على جمع القدر الكافي من الأصوات المؤيدة لما تطرحه. إذ ربما تضمن أصواتاً مهمة من حلفائها المقربين. لكنها في الوقت ذاته قد تواجه معارضة قوية ليس فقط من الصين، وإنما من المقربين منها وكما هو معلوم فهؤلاء باتوا كثراً. أضف إلى ذلك ما يمكن أن تواجهه واشنطن من معارضة شريحة مهمة تتشابه ظروفها مع الصين، خاصة وأن تجريد الصين من وصف الدولة النامية قد ينسحب عليها لاحقاً، ومن ثم يحرمها من ميزات مهمة حصلت وتحصل عليها.
سياقات ومبررات
من الواضح أن مسألة نزع صفة الدولة النامية عن الصين ليست مجرد مسألة فنية، ولا مجرد قضية اقتصادية، وإنما تندرج ضمن حيثيات المنافسة الاستراتيجية الشاملة التي باتت لا تخطئها العين، بل وبات معلن عنها بكل صراحة. وإن نظرة على مجمل التفاعلات الأمريكية-الصينية في السنوات القليلة الماضية، سواء على الصعيد الثنائي أو في إطار قضايا وتفاعلات متعددة الأطراف تثبت ذلك. فها هو وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن يعلنها صريحة بأن الخلافات بين بلاده والصين ليست سراً، ولم يكتف بذلك بل إنه أكد على الاستمرار في الدفاع عن المصالح الأمريكية، ومن ثم الإتيان بتصريحات وأفعال لا تروق للصين، وهو ما لم ترض عنه الصين بالفعل مؤكدة خطأ السياسة الأمريكية تجاهها نظراً لأنها تنطلق من تصور خاطئ، يجعلها تعمل جاهدة على حجب واحتواء وقمع الصين، وتعمل على مهاجمتها وتشويه صورتها سعياً للتدخل في شئونها الداخلية. وتذهب بكين إلى أن هذا السلوك الأمريكي فيه انتهاك واضح للأعراف التي تحكم العلاقات الدولية، وأن من حقها معارضة هذا السلوك بكل حزم.
واشنطن تريد نزع صفة الدولة النامية عن الصين نظراً لأنها ترى أن الأخيرة تستفيد من هذه الوضعية كثيراً في ظل القواعد التي تحكم عمل المنظمات الدولية، من حيث الاستثناءات الممنوحة لشريحة الدول النامية موضوعياً وزمانياً. إذ يسمح لهذه الشريحة بفرض رسوم لا يسمح للدول المتقدمة بفرضها على سبيل المثال، كما أنه يسمح لها بسنوات أكثر من أجل تطبيق المعايير ذاتها التي تطبقها الدول المتقدمة في فترات زمنية أقرب.
الأمر لا يقف فقط عند الاستثناءات، وإنما يتعلق بالالتزامات، فنية كانت أو مالية، خاصة فيما يتعلق بقضايا البيئة والتغير المناخي. ثم تأتي الإعفاءات أو التسهيلات، خاصة فيما يتعلق بقواعد الاقتراض من المؤسسات الدولية. وهناك جدل أمريكي واضح حول كيف أن الصين ما زالت حتى هذه اللحظة تحصل على قروض ميسرة من البنك الدولي، وهي التي لديها كل هذه الفوائض المالية التي تستغلها في زيادة نفوذها في شتى أرجاء العالم، وكذلك في زيادة نفقاتها العسكرية.
ليست الفوائض المالية فقط ما يتم الحديث عنه، وإنما حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني، والذي قفز من حوالي 150 مليار في العام 1978 إلى أكثر من 18 تريليون دولار في العام 2022. كما أن الصين باتت الاقتصاد الثاني على مستوى العالم، وهناك توقعات بأن تتجاوز الولايات المتحدة في ظرف سنوات قلية. يضاف إلى ذلك أن الصين قد نجحت في إنشاء مؤسسات دولية من قبيل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، ناهيك عن تخصيصها استثمارات ضخمة لمبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها منذ عشر سنوات. الصين أيضاً حققت قفزات بالنسبة للارتقاء بمستوى معيشة مواطنيها، ونجحت في انتشال مئات الملايين من الفقر على مدار عقود.
الرد الصيني
في ردها المباشر على القانون الأمريكي، اعتبرت الصين أن هدفه الرئيسي هو "عرقلة التنمية الصينية". نقطة الانطلاق تلك في الرد الصيني تحمل دلالات كثيرة فيما يتعلق بالإدراكات، ومن ثم التصرفات من قبل الإدارة الصينية. فإذا كانت الصين على قناعة بأن الولايات المتحدة تريد عرقلة تنميتها، سواء عبر تشويهها باعتبارها تنمية غير سلمية، وتنمية تحمل في ثناياها مضار لدول ومناطق أخرى، وتنمية تقوم على الاستيلاء على جهود دول وشركات أخرى، فإنها ولا شك ستعمل بكل ما أوتيت من قوة ليس فقط لتفنيد ما تطرحه واشنطن، وإنما لإثبات عكسه، مع بيان الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة من كل ما تقوم به تجاهها.
وفي رد مباشر على مسألة الفوائد التي ما زالت الصين تحصل عليها بصفتها دولة نامية، أوضحت الأخيرة أنها تفي بمسئولياتها، وأن التزاماتها الدولية باتت تفوق التزامات الكثير من الدول المتقدمة هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية التأكيد على أن المسعى الأمريكي لا يمكن أن يحرم الصين مما تتمتع به مما تعتبره "حقوقاً مستحقة" باعتبارها دولة نامية.
وتذهب بكين إلى أنه لا يمكن لواشنطن أن تقرر ما إذا كانت الصين دولة نامية أو أنها قد تجاوزت ذلك، مطالبة واشنطن بدلاً من ذلك بالعمل على التخلص من المسميات الملتصقة بها، ومن بينها التنمر والهيمنة.
الصين لا تنكر أنها قد قطعت أشواطاً كبيرة في عملية التنمية، وتتفاخر بما أنجزته على صعيد القضاء على الفقر. لكنها في الوقت ذاته ترى أنه ما زال أمامها الكثير حتى تنتقل من مرحلة الدولة النامية.
لقد كان لافتاً وصف الرئيس الصيني شي جين بينج لبلاده بأنها أكبر دولة نامية في العالم عندما قام بتهنئة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقب فوزه في انتخابات الرئاسة عام 2016 مع وصف بلاد الأخير بأنها الدولة المتقدمة الأكبر في العالم، داعياً بطبيعة الحال إلى التعاون بين الجانبين، ومعتبراً أن هذين الوصفين لكلا البلدين يرتب عليهما مسئوليات خاصة للحفاظ على السلام والاستقرار والتنمية العالمية. وكما هو معلوم لم تسر الأمور على هذا النحو.
من الواضح أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين لم تترك قضية إلا ووصلت إليها بما في ذلك إثارة قضايا من المفترض أنها محل اتفاق ليس بين الجانبين فقط بل وفي العالم كله مثل قضية تايوان، ومن ثم فليس من المستغرب ذلك السعي الأمريكي لسلب الصين صفة الدولة النامية نظراً لأن الهدف النهائي في تلك المنافسة الاستراتيجية هو حرمان الصين من تحقيق أهدافها، لا سيما وأن واشنطن تعتبر تحقيق تلك الأهداف خطراً عليها. ومن جانبها، فإن الصين تدرج المساعي الأمريكية في إطار التهديدات الموجهة لها. مثل هذه الثنائية يمكن أن تنتج متواليات من السياسات التصعيدية الخطيرة والتي تحتاج بلا شك لآليات ضبط حتى لا تنزلق الأمور ولو من باب الخطأ أو سوء التقدير.
**مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية