ما أن أعلنت كوريا الشمالية، في 21 نوفمبر الجاري (2023)، عن نجاحها في إطلاق قمرها الصناعي، حتى جاء الرد الكوري الجنوبي بتعليق جزئي للاتفاق العسكري الموقع بين الجانبين في شهر سبتمبر من العام 2018 على هامش القمة الكورية-الكورية التي عقدت في بيونج يانج. من جانبها، فإن بيونج يانج أكدت على أنها لن تلتزم بالاتفاق المذكور، وأنها سوف تعود إلى استئناف كل الإجراءات التي كانت قد علقت طبقاً لمقتضياته رداً على الإجراء الكوري الجنوبي.
إذن، فقد صار الاتفاق العسكري بين الكوريتين والذي كان الهدف الرئيسي منه هو خفض التوتر وبناء الثقة بينهما وصولاً إلى نظام للسلام في شبه الجزيرة الكورية ما بين التعليق الجزئي الرسمي، والإلغاء العملي. فهل ستصل الأمور إلى حد الإعلان عن الإلغاء الرسمي للاتفاق؟، ومن أي طرف يمكن أن يأتي هذا الإلغاء؟، وهل يمكن أن يظل الطرف الآخر حريصاً على التمسك بالاتفاق؟، ومن ثم هل يمكن للكوريتين العودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق؟، وتحت أي ظروف يمكن أن يحدث ذلك؟، وما الذي يمكن أن يترتب على تعليق الاتفاق أو إلغائه أو العودة إلى تفعيله؟
تتطلب الإجابة على تلك الأسئلة التعرف أولاً على مضمون هذا الاتفاق، ورحلته منذ تم التوقيع عليه وصولاً إلى التطورات الأخيرة عقب نجاج كوريا الشمالية في إطلاق قمرها الصناعي، ومن ثم مناقشة سلسلة الإجراءات والإجراءات المضادة الخاصة ببنود الاتفاق، وما يمكن أن تؤدي إليه.
مضمون اتفاق بيونج يانج العسكري
تم التوقيع على الاتفاق العسكري بين الكوريتين على هامش قمة كورية-كورية عقدت في عاصمة الشمال بيونج يانج في التاسع عشر من سبتمبر عام 2018. وكانت هذه القمة قد جاءت بعد قمة كورية-كورية أخرى عقدت في قرية بانونجوم في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين في شهر أبريل من نفس العام، وهي القرية التي عرف بها اتفاق الهدنة الذي أوقف الحرب الكورية 1950- 1953.
وقد تضمنت قمة بانمونجوم بنوداً تخص أهمية التوصل إلى إجراءات لخفض التوتر واتخاذ خطوات عملية للحيلولة دون اندلاع حرب بين الجانبين، حيث تم إقرار وقف الأعمال العدائية في البر والبحر والجو. وقد تضمن هذا البند ذكراً لوقف الحرب النفسية بين الجانبين ممثلة في المنشورات التي يرسلها الجانبان وكذلك ما تبثه مكبرات الصوت من رسائل عبر الحدود، إضافة إلى باقي الأعمال العدائية، بحيث يكون هناك سلام حقيقي في المنطقة منزوعة السلاح بينهما. هذا عن الجانب البري، أما في الجانب البحري فقد تم الاتفاق على ضرورة أن تكون هناك تدابير تحول دون وقوع اشتباكات عرضية مع ضمان عمليات الصيد بشكل آمن. ومن البنود المهمة في إعلان بانموجوم في الشق العسكري الاتفاق على ضرورة تخفيض الأسلحة تدريجياً واتباع إجراءات لبناء الثقة بينهما بما يسهم في تخفيض التوتر العسكري. ومن البديهي أن يتضمن الإعلان تدابير خاصة بالاجتماعات بين العسكريين من الجانبين، بما في ذلك المباحثات على مستوى وزيري الدفاع. كما تم النص على هدف إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية كهدف مشترك للكوريتين.
ويصبح من المفهوم والأمر كذلك الاتفاق على عدم قيام أي من الطرفين بأعمال عسكرية حيال الطرف الآخر، بما فيها الأعمال العدوانية. كل ذلك من أجل الوصول إلى نظام سلام قوي ومستدام في شبه الجزيرة الكورية. ولإدراك الجانبين بأن حدوث مثل ذلك الأمر لن يكون إلا بحضور الأطراف المؤثرة فقد ذكر البيان تحديداً كلاً من الولايات المتحدة أو الأخيرة ومعها الصين في مفاوضات ثلاثية أو رباعية.
إعلان بانمونجوم مهد الطريق لمفاوضات مكثفة بين العسكريين تكللت بالإعلان عن الاتفاق العسكري الذي تضمن تفاصيل كثيرة وزعت على خمسة ملاحق فضلاً عن الاتفاق ذاته. وقد خصص الملحق الأول لتنظيم مسألة سحب مراكز الحراسة في المنطقة منزوعة السلاح من قبل الجانبين. وقد تضمنت هذه العملية ثلاثة مراحل أساسية تتمثل في سحب الأسلحة ومن ثم سحب الأفراد، وبعد ذلك تدمير مراكز الحراسة تلك، ثم في المرحلة الرابعة يكون التحقق من كل هذه الإجراءات.
وقد خصص الملحق الثاني للترتيبات الخاصة بإخلاء المنطقة الأمنية المشتركة في بانمونجوم من السلاح. وقد ضمت قيادة الأمم المتحدة لمفاوضات مع الطرفين من أجل الوصول إلى ذلك الهدف، حيث أنها ما زالت تتواجد في المنطقة. وهنا يلاحظ أن كوريا الشمالية كانت قد طالبت مراراً بحل هذه القيادة قبل هذا الاتفاق. لكن في ظل الظروف التقاربية التي كانت سائدة أمكن الوصول إلى هذا الترتيب. وقد تضمن هذا الملحق تفاصيل دقيقة من بينها تلك المتعلقة بطريقة إدارة المنطقة بعد نزع السلاح منها، بما في ذلك طريقة الحراسة وإدارة المباني وترتيب الزيارات، خاصة وأن من ضمن ما اتفق عليه سحب أجهزة المراقبة غير الضرورية.
الملحق الثالث خصص لتفاصيل مشروع ثنائي للبحث عن رفات الجنود المفقودين في المنطقة منزوعة السلاح، وإزالة الألغام، وترتيبات بناء طرق بين الجانبين، وكيفية ضمان السلامة والإدارة المشتركة خلال كل هذه العمليات. أما الملحق الرابع فقد فصل في كيفية العمل على بناء الأمن البحري، ومنع الاشتباكات العسكرية البحرية العرضية، جنباً إلى جنب مع الصيد الآمن في البحر الغربي. والملحق الخامس عمل على إيجاد ضمانة عسكرية للاستخدام المشترك لمصب نهر الهان.
تفاصيل كثيرة تضمنتها هذه الملاحق، سواء من حيث المسافات والإحداثيات، أو من حيث تواريخ التنفيذ. وبالنسبة للاتفاق ذاته، فإن من أبرز ما ورد فيه وقف التدريبات العسكرية على جانبي خط الترسيم العسكري بينهما، مع تحديد مناطق يحظر فيها الطيران، فضلاً عن الالتزام باللجوء للمشاورات لحل مختلف القضايا العسكرية التي قد تظهر. ومن اللافت أن اتفاق 2018 قد أكد على استعادة العمل باتفاقية كانت قد وقعت في العام 2004 هدفها منع الحوادث العرضية والاشتباكات في البحر الغربي. وقد جاء ذلك في إطار حرص على ضرورة الالتزام بكل الاتفاقيات العسكرية الموقعة بين الجانبين، وأن يكون هناك تقويم متواصل لعملية التنفيذ.
الاتفاق على أرض الواقع
شرعت الكوريتان في اتخاذ إجراءات تنفيذية للاتفاق، وبدا أن هناك حرصاً متبادلاً على التنفيذ. لكن هذا التفاؤل لم يستمر طويلاً، حيث بدأت الأمور تتلبد في شبه الجزيرة الكورية بعد فشل القمة الأمريكية-الكورية الشمالية في هانوي بفيتنام في فبراير 2019، كما بات من الواضح أن القمة الكورية-الكورية التالية التي كان من المفترض أن تعقد للمرة الأولى في سول عاصمة كوريا الجنوبية قد تضائلت فرص عقدها إلى أن تلاشت. ثم بدأت بعض الحوادث تقع. وكانت هناك تقييمات من قبل كل طرف لكون هذه الحوادث فيها إخلال ببنود الاتفاق العسكري. لكن مع ذلك استمر الطرفان في عدم الخوض في مسألة إمكانية تعليق الاتفاق أو الغائه. ظل هذا الوضع طوال ما بقى من فترة حكم إدارة الرئيس مون جي ـ إن والتي انتهت في شهر مايو من العام 2022. ومن ثم بدأت الأمور تأخذ منحى آخر مع انتخاب الرئيس يون سيوك ـ يول. فبعد انتخابه بأقل من أسبوعين وقبل أن يتولى الحكم اعتبر يول أن ما قامت به كوريا الشمالية في مارس من العام 2022 من إطلاق لقذائف بحرية يعد انتهاكاً للاتفاق، وهو ما نفته وزارة الدفاع معتبرة أن ذلك خارج نطاق المنطقة المحظور فيها القيام بإطلاق القذائف. ومع ذلك فإن المرشح لتولي وزارة الدفاع في إدارة يول قد أكد على أنه ليس مع إلغاء الاتفاق العسكري. لكن مع الوقت بدأت الأمور تأخذ منحى آخر، حيث انتقل الرئيس من الامتناع عن التعليق على إمكانية إلغاء الاتفاق إلى اعتبار المسئولية عن استمرار تنفيذ الاتفاق تتوقف على سلوكيات كوريا الشمالية. وقد ترافق ذلك مع كثافة في تجارب إطلاق الصواريخ من قبل بيونج يانج، كما كانت هناك توقعات بإجراء تجربة نووية ثالثة العام الماضي (2022) لكن ذلك لم يحدث، ناهيك عن عمليات إطلاق القذائف في مناطق تعدها كوريا الجنوبية ضمن المحظور القيام فيها بذلك، إضافة إلى اختراق طائرات مسيرة كورية شمالية المجال الجوي لكوريا الجنوبية. وفضلاً عن أن الجنوب يعد كل ذلك بمثابة استفزازات كورية شمالية، فإنه يدرج الكثير منها ضمن الانتهاكات للاتفاق. وقد وصل الحال إلى القول بأن هناك آلاف الانتهاكات الكورية الشمالية. والأخيرة أيضاً لم تتوقف عن اتهام الجنوب بانتهاك الاتفاق، وفي نفس الوقت سعيه لمزيد من التوتر عبر تكثيف مناوراته مع الولايات المتحدة، وكذلك مع اليابان، ناهيك عن تقديمه لمقترحات تعتبرها مهينة لها، وعلى رأسها ما وصف في الجنوب بالخطة الجريئة لتحسين العلاقات. كما أن كوريا الشمالية تقف بالمرصاد لكل تطور على صعيد تمتين التحالف الأمريكي-الكوري الجنوبي، وتزايد التنسيق الثلاثي بين كل من واشنطن وسول وطوكيو.
مع بداية العام 2023، ظهر للعلن ما مفاده أن هناك دراسة على المستوى الرئاسي لإمكانية تعليق اتفاق بيونج يانج. ومع ذلك، فإن الجنوب استمر في المطالبة بالعودة إلى الحوار مع الشمال. وقبل إطلاق القمر الصناعي الكوري الجنوبي بأربعين يوماً، كانت هناك تصريحات لوزير الوحدة الكوري الجنوبي كيم يونج ـ هو حول ضرورة الأخذ في الاعتبار الوضع الأمني بأبعاده الشاملة عند دراسة إمكانية تعليق الاتفاق، مؤكداً على أنه لم يوجد قرار بعد بخصوص التعليق أو الإلغاء. لكن يفهم من التصريح أن كل الخيارات بخصوص مصير الاتفاق كانت مطروحة، حتى أن الوزارة ذاتها أعلنت بعد يوم واحد من تلك الإفادات للوزير بأن التعليق قد يتم حتى ولو يقم الشمال باستفزازت تجاه الجنوب. وبعد ذلك بعشرة أيام وقبل أقل من شهر من نجاح بيونج يانج في إطلاق قمرها الصناعي، دعا وزير الدفاع الكوري الجنوبي شين وون ـ سيك صراحة إلى تعليق الاتفاق. وبعد خمسة أيام، قدم الوزير ما يمكن اعتباره مبرراً لما يطالب به مقدراً عدد الانتهاكات الكورية الشمالية للاتفاق منذ العمل به على مدار خمس سنوات بـ 3600 انتهاك، منها 3400 مرة تركت فيها فوهات المدافع مفتوحة. يشار إلى أن من بين ما اتفق عليه تغطية فوهات المدافع في الأماكن المحددة في الاتفاق وملاحقه. كما أنها أطلقت قذائف في المنطقة البحرية الغربية العازلة 110 مرة.
في الخامس عشر من نوفمبر الجاري، اعتبر المرشح لمنصب رئيس الأركان في كوريا الجنوبية أن اتفاق العام 2018 يحد من قدرات بلاده على القيام بعمليات مراقبة لكوريا الشمالية، فضلاً عن القيود المتعلقة بإجراء تدريبات بالذخيرة الحية قربا من الحدود معها. وفي صبيحة إطلاق القمر الصناعي الكوري الشمالي يوم الحادي والعشرين من نوفمبر 2023، كان المكتب الرئاسي الكوري الجنوبي يؤكد على أنه بالإمكان تعليق الاتفاق في حال أقدمت كوريا الشمالية على عملية الإطلاق، حيث كانت الأخيرة قد أخبرت اليابان بنيتها إطلاق قمرها الصناعي. وبالفعل فقد جرى تعليق البند الثالث من المادة الأولى من الاتفاق. وقد اعتبر هذا الإجراء الحد الأدنى الذي يجب اتخاذه. وقد يقال إن هذا التعليق الجزئي يدلل على الحرص على استمرار الاتفاق، لكنه في ذات الوقت يفتح الباب أمام اتخاذ خطوات أخرى في هذا المسار، خاصة وأنه لم يتم توضيح ما إذا كان التعليق مؤقتاً أم دائم.
في المقابل، ردت بيونج يانج بالعودة إلى ممارسة كل الإجراءات التي كانت قد أوقفت بموجب الاتفاق، بما يعني أنها باتت في حل من الاتفاق، ليس هذا فحسب بل إنها أكدت على نشر قوات أكبر وأسلحة أحدث في كل المناطق التي كان يحظر فيها ذلك، ومحملة كوريا الجنوبية المسئولية كاملة بسبب ما اعتبرته استفزات تقوم بها سول. وقد تحدثت الأخيرة عن مؤشرات على تنفيذ الشمال لتهديده فيما يتعلق بعدم الالتزام بالاتفاق بما في ذلك عمليات إعادة بناء لنقاط الحراسة التي سبق تدميرها.
هل يصمد الاتفاق؟
في حال استمرت الكوريتان في ثنائية توجيه الاتهامات بخصوص الاستفزازات ومن ثم المخالفات للاتفاق، فإن هذه المتوالية يمكن أن تسقط اتفاق بيونج يانج العسكري بالضربة القاضية، بعدما استمر صامداً طوال جولات السنوات الخمس الماضية.
الوضع الآن بالنسبة للاتفاق يتلخص في تعليق جزئي من قبل أحد الطرفين، وإجراءات معاكسة لمضمونه من قبل طرف آخر مع تصريحات بعدم الالتزام به دون أن يكون هناك قرار رسمي بذلك. إذن، فالاتفاق من الناحية القانونية لم يلغ بعد حتى تاريخ كتابة هذه السطور. ومن ثم فإن هناك فرصة لتجاوز ما يمكن تسميته بفترة التشنج تلك، ومن ثم تهدأ الأمور بالتدريج. وهنا يمكن أن يستمر كل طرف في القيام ببعض مما يراه ضرورياً، حتى وإن خالف ذلك بنود الاتفاق، مع التوقف عن إطلاق التصريحات بخصوص مصيره. أي أنه يمكن الإبقاء على الاتفاق قائماً على الرغم من توجيه اللكمات له. بالطبع مثل هذا السيناريو يفترض توازياً في هذا المسار، مع عدم الإقدام على ما من شأنه توجيه رسائل تصب في صالح الوصول إلى نتيجه مفادها عدم جدوى الاستمرار في المحافظة على اتفاق لا يتم الالتزام به حرفياً. وهنا، قد يقال إنه فعلياً لم يتم الالتزام به حرفياً في الفترة السابقة ومع ذلك لم يلغ أو يعلق على الرغم من كل هذا المستوى من التراجع في العلاقات والتي وصلت حد القطيعة التامة.
ليست هناك ضمانة لأن يتحقق هذا السيناريو وقد تذهب الأمور سريعاً أو بعد حين إلى قرار من هذا الطرف أو ذاك مطيحاً بالاتفاق كلية. وتاريخياً كانت كوريا الشمالية هي الأكثر إقداماً على إلغاء اتفاقيات قائمة مع كوريا الجنوبية. وفي كل مرة كانت الحجج هي درجة العداء العالية من قبل الجنوب حيالها، ومن ثم يصبح الاستمرار في الالتزام بالاتفاقيات بمثابة تهديد لأمنها وسيادتها بل وأحياناً لبقائها كدولة ونظام. مثل هذه الحجة قد تستخدم من قبل الجنوب أيضاً، خاصة على ضوء السلوك الكوري الشمالي الماضي دون هوادة في بناء قوته العسكرية وتدعيمها على كل المستويات. أي أن احتمال أن يأتي الإلغاء من قبل الجنوب قائم أيضاً. لكن هل سيكون الوصول إلى مرحلة الإلغاء مباشرة أم سيسبقها تجميد كلي للاتفاق بعد التجميد الجزئي الذي حدث؟، وفي المقابل هل ستنتظر بيونج يونج إلى أن تصل سول إلى هذه المرحلة؟.
قد يقال ولماذا لا تحدث تطورات من شأنها دفع الجانبين إلى تجديد التمسك بالاتفاق؟. هذا وارد أيضاً، لكنه يظل ذا احتمالات ضئيلة في ظل تعقيدات الواقع. وفي ظل صعوبة حدوث انعطافة على صعيد علاقات البلدين. لكن لا يجب إغفال أن الصعوبة لا تعني بالضرورة الاستحالة. كما أن خبرة الماضي تثبت أن فترات التقارب على الأغلب كانت تأتي بعد فترات تصعيد عالية. وقد يكون هناك استدراك على ذلك مفاده أن ذلك كان مرتبطاً بحدوث تغيرات في توجهات النخبة الحاكمة في كوريا الجنوبية. وعلى الرغم من ارتباط ذلك بوصول توجه سياسي معين إلى سدة الحكم، إلا أن ذلك لا يعني إغلاق الباب تماماً أمام فرصة المحافظة على ترتيبات خفض التوتر التي تضمنها الاتفاق، ومن ثم المحافظة على التزاماته ولو في حدها الأدنى، لا سيما وأن كلا الطرفين حتى وإن علا ضجيج تهديداتهما المتبادلة إلا أنهما يدركان أن الانزلاق إلى مواجهة عسكرية يحمل نتائج كارثية. ثم لا ينبغي إغفال عوامل الضبط الخارجية ممثلة في الحلفاء والشركاء.
ويبقى السؤال مطروحاً: ماذا لو ألغي الاتفاق؟، هل يعني ذلك مباشرة الدخول في مواجهة عسكرية؟. مع التسليم باحتمالية إلغاء الاتفاق، إلا أن ذلك لا يعني القفز مباشرة إلى مواجهة عسكرية في شبه الجزيرة الكورية بما في ذلك المواجهات المحدودة. ومرد ذلك كما ذكر عدم الرغبة في السير بهذا الطريق، جنباً إلى جنب مع عوامل الضبط المشار إليها. كما أنه لا يمكن إغفال أن عمر هذا الاتفاق خمس سنوات فقط، بينما استمرت العلاقات دون مواجهة عسكرية طويلة أو حتى قصيرة على مدار سبعة عقود. صحيح أن الأمور لم تخل من بعض المناوشات العابرة والسريعة براً وبحراً، لكن كان يتم دائماً لجمها ومنعها من التوسع أو الاستمرار. أي أن العلاقات يمكنها أن تعود إلى سيرتها التي كانت قبل الاتفاق دون أن تحدث حرب. وقد يضاف هنا عامل هام يتعلق بتوفر الردع المتبادل غير التقليدي.
وأخيراً، فإنه حتى لو تم الوصول إلى التخلي عن كامل إجراءات خفض التوتر بين الكوريتين بما يعني إلغاء الاتفاق، فإن فرص العودة لإحياء الاتفاق ليست منعدمة ولو بعد حين، حتى وإن جاء ذلك بشكل تدريجي، سواء بالعودة لنفس الاتفاق أو توقيع اتفاق جديد. كما أنه لا يجب إغفال أن بعض الأهداف المرجوة من الإجراءات التي تضمنها الاتفاق لم تتحقق، ومنها المساهمة في رفع درجة الثقة بين الجانبين، ناهيك عن السير باتجاه بناء نظام للسلام الدائم في شبه الجزيرة الكورية.
كما أنه لا ينبغي إغفال مسار تفاعلات القوى الأربع الرئيسية. والتي يقصد بها في أدبيات الدراسات الكورية كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان. وكما يلاحظ فإنها على علاقة وثيقة بالتطورات في شبه الجزيرة الكورية ليس في الظروف الراهنة فقط، بل ومنذ عقود طويلة. وقد كانت تشارك في المفاوضات السداسية رفقة كل من الكوريتين قبل أن تتوقف. وكانت اثنتان منهم على الأقل مدعوتين للمفاوضات التي كان من المفترض أن تتم للوصول إلى نظام للسلام طبقاً لإعلان قمة بانمونجوم. وكما هو معلوم فإن مواقفها غير متطابقة، وتصل في نقاط كثيرة إلى حد التعارض التام بخصوص ما يجري في شبه الجزيرة الكورية، ناهيك عن أن العلاقات فيما بينها تحمل جوانب توتر كثيرة. وتكاد تكون واشنطن وطوكيو في جهة وموسكو وبكين في جهة أخرى. وقد أظهرت المواقف الأوّلية من عملية الإطلاق الكورية الأخيرة استمرار نمط تفاعل كل من هذه القوى مع تطورات شبه الجزيرة الكورية. ولا يمكن الفصل بين تلك المواقف ومجمل مواقف تلك الدول حيال بعضها البعض في قضايا كثيرة.
*نقلاً عن مركز الأهرام للدراسات والأبحاث*