كانت ليلة ليست كغيرها، حين قطع العدو الصهيوني الكهرباء والإنترنت بشكل كامل على قطاع غزة، ليتسنى له عزل القطاع عن العالم، ويقوم بمهمته الوحشية وعادته القذرة في إلحاق الدمار بها تبعا لسياسة الأرض المحروقة التي يهواها، تمهيدا لدخول جيوشه لمعركة الحسم التي يطمع من خلالها في استئصال شأفة المقاومة. ليلة طويلة، تكحلت عين الجماهير بالسهر ترتقب إشراقة الصباح، حتى تتعرف على حصاد هذه الليلة المشتعلة، ولم ينكشف الغطاء عما واراه ليل البارحة، إلا عندما خرج ذلك الملثّم ليلقي خطابا منتظرا.
تحدث أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، فأثلج حديثه صدور قوم، وضاقت له صدور قوم آخرين، وضع النقاط على الحروف، ولم يفرط بتناول أي من أركان الحدث في إيجاز وحسن بيان.. خطاب الملثم ارتكز على الحرب النفسية في أبرع وأذكى صورها، ووظف الأحداث ومساراتها جيدا لهذا الغرض، فبدا كمدفعية تقذف حممها على الاحتلال، تضاف إلى ذلك الجحيم الذي عاشته القوات الإسرائيلية ليلة أمس، رغم كل ما ألحقته بالمنشآت المدنية من دمار. بلهجة المنتصر، كشف أبو عبيدة في خطابه للحكومة الإسرائيلية ومواطنيها وللعالم أجمع، انكسار القوة الغاشمة للاحتلال، وأظهر عجزها – رغم امتلاكها قوة تدميرية – عن تحقيق أهدافها في الاجتياح، وأنها باءت بخسائر فادحة في الأرواح والمعدات، مؤكدا سقوط أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
لقد عززت المقاومة حديث الملثّم بمقطع مصور يظهر قدرتها الإعلامية على التوثيق في أحلك الظروف، يتضمن هذا المقطع استهداف مدرعة النمر الإسرائيلية، التي دخلت الخدمة منذ عامين، بواسطة «كورنيت» موجه في شرق منطقة الشجاعية، وهي مدرعة مصفحة بالكامل تكلفتها ربع مليون دولار. لم يكن إخفاقا للكيان الإسرائيلي وحده، بل للولايات المتحدة التي شاركتها بالدعم العسكري واللوجستي، ودول أوروبا التي لم تدخر جهدا في شرعنة الهجمات البربرية الإسرائيلية على القطاع. هذا البيان أظهر للشعب الإسرائيلي هشاشة جيشه الذي لطالما ترنم بقوته وقدرته على حماية المستوطنين، وهو بلا شك يدفع الشعب الصهيوني إلى التفكير الجدي بالهجرة العكسية، وفي الوقت نفسه يزيد من هلع الجنود الإسرائيليين، الذين دخلوا بالأساس هذه الحرب بحالة من الخوف الشديد، لدرجة أنه سجلت حالات انتحار بين صفوف الجيش الإسرائيلي وحالات تمرد. وعمّق من تأثير ذلك، ما كشفه الملثّم في بيانه من أكاذيب جيش الاحتلال الذي يبحث عن مظاهر للنصر بأية وسيلة لينقلها للجماهير الإسرائيلية، من ذلك ادعاء الاحتلال بقتل عشرة عناصر من الضفادع البشرية للمقاومة على شاطي زيكيم، مع أن عدد المتسللين كان ثلاثة عناصر فقط، وهذا من شأنه أن يضاف إلى سلسلة الأكاذيب التي تعمد الاحتلال بثها في الترويج لنفسه فمن ثم يفقد مزيدا من ثقة الداعمين برواياته. ردود أفعال الاحتلال وإعلامه المعبرة عن الخيبة والصدمة ظهرت جلية تتفق مع مضامين مظاهر النصر التي أوردها أبو عبيدة في البيان التاريخي، ما جعله يضغط في حربه النفسية بالوعيد الذي أطلقه للاحتلال، والجهوزية التي عليها قوات المقاومة لصفع الاحتلال مرات ومرات.
من أبرز مظاهر الحرب النفسية التي دجّج بها أبو عبيدة خطابه، إثارة الرعب في نفوس الصهاينة بالإشارة إلى لعنة العقد الثامن، التي تشير إلى انتهاء الممالك اليهودية القديمة في عقدها الثامن، وهو ما يقر به الساسة الإسرائيليون أنفسهم منهم نتنياهو، وإيهود باراك رئيس الوزراء الأسبق، وهو ما يتخوف منه الشعب اليهودي. اعتمد أبو عبيدة في هذه المسألة على كون الكيان الإسرائيلي تأسس على فكرة الدين والنبوءات، واستغل ذلك في التكريس لفكرة زوال دولة الاحتلال في العقد الثامن أسوة بالممالك القديمة، وهو ما يتزامن تقريبا مع عمر دول الاحتلال وبلوغها في هذا التوقيت ثمانين عاما، فهي فكرة مرعبة بالنسبة للاحتلال شعبا وحكومة. الأمر الآخر الذي يعد مظهرا من مظاهر هذه الحرب النفسية التي شنها أبو عبيدة في خطابه، هو قضية الأسرى، يلاعب بها الحكومة الإسرائيلية وشعبها معا. فبصرامة المنتصر الذي يفرض شروطه، أعرب أبو عبيدة عن استعداد المقاومة للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين مقابل تبييض السجون الإسرائيلية بإطلاق سراح جميع المعتقلين الفلسطينيين، الذين يقدر عددهم بالآلاف، مشيرا إلى مقتل خمسين منهم خلال قصف غزة.
لقد وضع بذلك حكومة الاحتلال في مأزق شديد، فقبولها يعني الاستسلام للمقاومة وإقرارا بالهزيمة أمامها، لكنه من جهة أخرى حال رفض الصفقة، يتعرض لمزيد من سخط الجماهير، التي يؤكد أمامها حرص حكومته على تحرير الأسرى، فإذا رفض الصفقة فكيف يبرر رفضه للجماهير.
وأثناء كتابة هذه السطور، علمت أن الصحافية الإسرائيلية ميراف سونسزين، كشفت عن مطالبة عائلات الأسرى لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالموافقة على شروط المقاومة الفلسطينية بإطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن أبنائهم، فضلا عن أنباء التظاهرات الإسرائيلية ضد نتنياهو من أجل قضية الأسرى. ولم يتخذ الاحتلال حتى اللحظة قرارا بهذا الشأن، ويتعرض لضغوط شعبية قوية من أجل القبول بشروط المقاومة، في الوقت الذي أثار إعلان مقتل خمسين من الأسرى الإسرائيليين، فزع العائلات الإسرائيلية.
خطاب الملثم يكتظ بالمضامين التي تستحق الوقوف عندها، منها الصيغة الإيمانية للخطاب، التي اهتز لها وجدان العالم الإسلامي، وأسلوبه في إلقاء اللائمة على الأنظمة العربية المتخاذلة، ولكن أحببت أن أسلط الضوء على ما تضمنه البيان من أساليب الحرب النفسية، وهي السلاح الأنكى في مثل هذه الأحداث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.