عام 1985، عُقدت صفقة تبادل أسرى بين الحكومة الإسرائيلية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عرفت باسم اتفاقية جبريل، وتضمنت إطلاق سراح ثلاثة أسرى إسرائيليين مقابل إطلاق 1150 أسيرا فلسطينيا في سجون الاحتلال، كان منهم الشيخ أحمد ياسين، الذي أسس بعدها بعامين حركة حماس.
وعام 2006، تسللت عناصر من حركة حماس إلى الأراضي المحتلة عبر نفق قاموا بحفره قرب معبر كرم أبو سالم، وهاجموا دبابة إسرائيلية، وقاموا باختطاف الجندي جلعاد شاليط، الذي قضى في الأسر خمسة أعوام، بعدها أفرجت عنه المقاومة بوساطة مصرية وألمانية في 2011، وتمت مبادلته بـ1027 أسيرا فلسطينيا محتجزين في السجون الإسرائيلية.
هذا العدد الضخم من الأسرى الفلسطينيين مقابل عنصر أو ثلاثة عناصر من جيش الاحتلال، أكد حقيقة متعارفا عليها في ما يتعلق بقيمة الفرد الإسرائيلي لدى حكومة الاحتلال، وهو ما برر به نتنياهو أمام شعبه صفقة شاليط غير المتوازنة بقوله «الشعب الإسرائيلي فريد من نوعه».
لكن يبدو أن هذا الشعب لم يعد فريدا من نوعه، وفقا لما قرره نتنياهو، فمنذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر وقع أكثر من 200 أسير إسرائيلي منهم ضباط كبار في قبضة المقاومة في غزة، ولم تُقدم حكومة الاحتلال على أي خطوة جادة لاستعادتهم، بل تقصف بعنف ووحشية كل أنحاء القطاع، رغم جهلها بأماكن أسراها، بل لم تكترث لما أعلن عنه المتحدث باسم كتائب القسام منذ أيام، من مقتل 22 أسيرا إسرائيليا جراء القصف الإسرائيلي، منهم الفنان غاي أوليفز، بما يجعلنا نتساءل عن هذا التحول في سياسة الاحتلال إزاء التعامل مع أسراه. في الواقع، هناك بروتوكول وضعه جيش الاحتلال بعد صفقة اتفاق جبريل يسمى «هانيبال» وضع في الأصل لمنع وقوع الجنود في عمليات أسر، ويتضمن إلزام أفراد الجيش بإحباط أي عملية اختطاف، حتى لو اضطروا إلى جرح وإيذاء جنودهم المُختطَفين دون قتلهم.
بروتوكول هانيبال كان محظور تداوله في وسائل الإعلام، وخضع لعدة تغييرات وتعديلات على مدار السنوات الفائتة، وهو بروتوكول يكتنفه الغموض في صياغته وتفسيراته، وهناك من القادة العسكريين من عارضه باعتبار أن هذا البروتوكول مبني على قاعدة «قتل أفضل من أسر» وتوسع الاحتلال في تفسيره خلال تعديلات رئيس الأركان السابق بيني غانتس، الذي أضفى بعدا أخلاقيا مقبولا على القتل الخطأ للأسير الإسرائيلي، إذا كان يؤدي إلى إيقاف الخاطفين.
تفعيل هذا البروتوكول أوقع الاحتلال في تناقض شديد، فمن ناحية الخطاب العسكري يستخدم مفهوم «جندي قتيل أفضل من جندي أسير» لكنه في الخطاب الجماهيري الشعبي، يؤكد للجمهور أن الحكومة ستبذل أقصى جهدها لتأمين وإطلاق سراح أي جندي أسير. لكن يبدو أن الاحتلال لم يجد بدا من تفسير جديد للبروتوكول – انطلاقا من كونه قد أعلن حالة الحرب – يسوغ له المضي في أهدافه الاستراتيجية ولو كان في مقابله إزهاق أرواح الأسرى في العمليات العسكرية.
حسابات الاحتلال تجاه الأسرى، مبنية على استعادة معادلة الردع، فعلى الرغم من الخسائر التي ألحقها الاحتلال بالقطاع، إلا أنها لن تضعه في خانة المنتصر، فهو يقصف مدنيين وبيوتا ومساجد وكنائس ومشافي، في غارات انتقامية بسبب الهزيمة المنكرة التي لحقت به خلال عملية طوفان الأقصى. المقاومة جعلت الاحتلال في حالة سعار وأفقدته اتزانه، عندما نقلت عملياتها خارج القطاع في الأراضي المحتلة، واحتلت عدة مستوطنات وقواعد استخباراتية، وحصلت على كنز معلومات هائل من خلال الاستيلاء على أجهزة الحاسوب في تلك القواعد، وأسرت عددا غير مسبوق من الصهاينة منهم ضباط كبار ورجال مخابرات، وألجأته إلى إجلاء بلدات ومستوطنات خوفا من صواريخ المقاومة.
بشكل عام نستطيع القول إن المقاومة الفلسطينية أسقطت هيبة إسرائيل وأظهرت فشلها الاستخباراتي والأمني والعسكري، فأي استجابة لمطالبات وقف إطلاق النار والتفاوض على الأسرى في الوقت الحالي، يعزز من صورة الهزيمة التي منيت بها قوات الاحتلال، وأصبحت الأولوية هي القضاء النهائي على المقاومة في غزة، وتهجير أهلها وفقا لصفقة القرن.
لكن الاحتلال يواجه ضغطا جماهيريا كبيرا بسبب الأسرى، إذ أن عائلاتهم في حالة غليان، ويتظاهرون مطالبين بتنحي نتنياهو، ويزداد غضبهم مع مرور كل يوم، دون أن تبرهن الحكومة على نية جادة في إنفاذ وعودها بتحرير الأسرى. ومما يفاقم ذلك الغضب، ما أعلنته كتائب القسام، من أنها أخبرت دولة قطر بأنها سوف تطلق سراح أسيرين إسرائيليين لدواعٍ إنسانية قسرية، وبلا مقابل، إلا أن الاحتلال رفض، ربما جاء هذا الرفض لعلمه أن الاستمرار في قصف غزة مع إطلاق الأسيرين يضعف موقفه، وبهذا أوقعت عقلية القسام المتوهجة، جيش الاحتلال في حيص بيص، فكيف سيبرر نتنياهو لعائلات الأسرى هذا الرفض، وكيف سيقابله ذوو الأسرى وهم يرون أنه قد أُطلق سراح رهينتين أمريكيتين، بينما يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي عرض حماس غير المشروط بإطلاق أسيرين من أبنائهم، خاصة أنه حتى كتابة هذا السطور، لم يعدل الاحتلال موقفه من إطلاق الأسيرين.
البعض يطالب المقاومة على إثر القصف الوحشي على غزة، بإعدام الأسرى، لكن هذا قطعا لن تفعله المقاومة، فهي تحتاج الأسرى تحسبا لأية مفاوضات مقبلة، خاصة أن الآلاف من الفلسطينيين يقبعون في سجون الاحتلال، ومهما يكن، ستظل قضية الأسرى ذات تأثير مفصلي في هذه الحرب، والمقاومة الفلسطينية تحسن استغلال هذه القضية، والكثرة العددية للأسرى تمنحها الأريحية في المناورة بإطلاق سراح بعضهم، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.