بقلم/ محمَّــــد عبد الشافي القُوصي؛
بينما كنتُ أتجوّل في حديقة "الهايد بارك"؛ لفتَ انتباهي مجموعة من الشباب وهم يتمايلون من فُرط القهقهة، ولمّا دنوتُ منهم سألوني: أكيد أنتَ مصري؟ فقلتُ: نعم، والحمد لله. فضحكوا، ثمَّ قالوا: هل تعرف "الصحفي العائد من الجنّة"؟ فاتهمتهم بالخبل والجنون، وغادرتهم على عجَل!
مرّت الأيام، وبينما أسير فوق كونيش النيل بالقاهرة؛ استوقفتني إحدى "الهوانــم"، وسألتني بلهفةٍ: أرجوك؛ أرجوك أنْ تدلَّني على عنوان "الصحفي العائد مِن الجنَّــة"!
فاندهشتُ مِن سؤالها، وقلتُ لها: عمَّـــاذا تسألي؟
فقالت بصوتٍ فيه حِدَّة: أسألك عن الصحفي العائد من الجنَّة –يا بني آدم!
فاتهمتُها بالجنون أيضاً، وتركتها على الفور ... وبعد مرور أيامٍ قلائل على تلك الواقعة؛ أخبرتُ بها أحد الأصدقاء، فقال: كأنكَ لمْ تسمع بَعد عن الصحفي العائد من الجنَّــة!
فأخذتُ الكلام على محمل السخرية، وقلتُ له: لأنني كنتُ خارج البلاد خلال الفترة الماضية ... لكن كثيراً ما يتمنَّى الناسُ أن يلتقوا بواحدٍ مِمَّن رجع مِن الآخِرة! ليخبرهم عن المطاعم والمشارب والفواكه، والقصور الذهبية، ويُحدِّثهم –أيضاً- عمَّن الْتقاهم مِن أصحاب اليمين، وعن أسمائهم، وبلدانهم، وعن كيفية قضاء أوقات الصفاء هناك!
فقال لي: صدِّقني؛ لقد تحققتْ تلك الأُمنية بالفعل ... فقد زار أحد الصحفيين الجنَّة بالفعل! وقد سمع بأُذُنِه، وشاهد بأُم عينهِ كلَّ شيء، وسجَّل كل المشاهد التي رآها، ولم يترك شيئاً رآهـ من نعيم الجنة إلاَّ وأخبر عنه ... فسلامٌ عليه مِن صحفيٍّ أمين، وإنسانٍ مُخلِصٍ كريم!
ثمَّ استطرد قائلاً: لقد عاد "الصحفي" من الجنَّة، وأخبر عن معظم أسماء أصحاب اليمين!
ومِن حُسن حظه، أنه استثمر لقاءاته مع خَزَنة الجنَّة؛ الذين طافوا به، وأطلعوه على أنهارها، وأشجارها، وأسواقها ... وصعدوا بهِ إلى أعلى عِلِّيين، ورأى الخيامَ التي حصباؤها المِسك والكافور .. والتي يُشتَمُّ ريحها مِن مسيرة خمسمائة سنة! كما تجوَّلَ بداخل الغُرف التي مِن فوقها غُرفٌ تجري من تحتها الأنهار! وشاهد ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمِعت!
ثمَّ وضع صاحبي يدهـ على كتفي، وقال –بصوتٍ خفيض-: بلْ مِن براعته الصحفيّة، وحِسُّه المِهني؛ أنه نجح في الوصول إلى (خازن الجنَّة) الذي أطْلعه على أعظم أهل الجنَّة نعيماً!
لقد تجوَّل الصحفي المحظوظ معه بنفسه، فابتهج به (رضوان) وسعد بلقائه كثيراً؛ وقد أجابه عن كل ما يدور بخُلْدِه ... وقد أخذه إلى أماكن في أعالي الجنان؛ فيها أكوابٌ موضوعة ونمارقُ مصفوفة، وزرابيُّ مبثوثة!
ثمَّ أخذه إلى سكّان جنّة المأوى، وقال له: هؤلاء دانية عليهم ظلالها وذُلِّلَتْ قطوفها تذليلا!
ثمَّ جمعه بسُكّان جنّات عدن؛ وقال له: هؤلاء يُطافُ عليهم بصحافٍ من ذهبٍ وأكواب. وفيها ما تشتهيهِ الأنفُس وتلذُّ الأعيُن .. وهم فيها خالدون!
لمْ أتمالك نفسي وأنا أستمع حكايات صاحبي، فاتّهمتُه بالجنون أيضاً!
ورحتُ أبحثُ بنفسي، وأُتابع ذلك الخبر، وما تركتُ وسيلةً إلاًّ وطرقتها للوصول إلى الحقيقة ... وبعد ثلاث ليالٍ مِن البحث؛ علمتُ أنَّ أحد الصحفيين "المساكين" ذهب –مؤخراً- إلى مُجمّع سجون طرة؛ لحضور "المنتدى الثالث للسجون المصرية" -كما يقول هو بالحرف الواحد-: بدعوةٍ تلقّاها من قطاع العلاقات العامة والإعلام بوزارة الداخلية. بحضور رؤساء التحرير وكبار الإعلاميين ومُقدمي البرامج الفضائية، ورؤساء الهيئات الإعلامية، ومُحرِّرى الملف الأمني فى الصحف والفضائيات، وهناك الْتقى بمساعد وزير الداخلية لقطاع السجون وعدد من قادة السجن –على حد قوله".
واستطرد –الصحفي- يحكي أحداث رحلته على ثلاث حلقات؛ هيَ أغرب ما نشرته الصحافة!
ففي رحلته المباركة؛ شاهد الحوافز الماديّة والعوائد الربحيّة التي تنهال على المساجين من تلك المصنوعات التي يقومون بها، وتحدث –رضيَ اللهُ عنه- عن أنشطة المساجين الاقتصادية، مثل: تربية المواشى، ومشروعات الإنتاج الصناعى والسمكى والطيور فضلاً عن المحاصيل والسلع الغذائية التي يُصدّرونها للخارج. ولمْ ينسَ –قدَّسَ اللهُ سِرُّه- أن يتحدَّث عن المستشفيات الفخمة والرعاية المركزة والأَسِرَّة، وملاعب كرة القدم، والأنشطة الرياضية، ومزارع النعام!
وقد أسهب في الشرح وهو يتحدث عن وجبات الأطعمة من الكفتة المشويّة والكباب، والمشروبات التي هي لذة للشاربين، ومختلف أنواع الرياضة البدنية والترفيه ... إلخ.
كما تحدّث -حفظه الله- عن المُقرَّبين تارة، وعن أصحاب اليمين تارة أخرى!!
عندئذٍ؛ أدركتُ فحوى القصة، ووقفتُ على أصل "النكتة"!
وقد عذرتُ "الهانم" التي زعقتْ في وجهي؛ لعدم معرفتي بالصحفي العائد من جنَّات النّعيم!
تحيَّة كبيرة لهذا الصحفي الأمين؛ الحريص على وطنه، والغيور على أُمته!
لكنه نسيَ أنْ يُحدِّثنا عن زملائه الصحفيين المسجونين، في أيّ الجِنان يقيمون؟
وليس لي سوى عتاب واحد على (رئيس تحرير جريدة الشروق): كيف يترك فراديس "اللِّيمان"، ويختار السكن في أحد الأحياء الشعبية المهدومة حوائطها على سكّانها؟!
لماذا يتخلَّى الصحفي (عماد الدين حسين) عن أهله البسطاء، ويتركهم في الجحيم؟
كيف هانت عليه نفسه وتجاهلهم، ولم يجد لهم مكاناً في ذاكَ النعيم المُقيم بـ"سجون طرة"؟
يا عماد حسين -باللهِ عليك- لا تترك أهلكَ الغلابة قبل أن يلفظوا أنفاسهم -واحداً تلوَ الآخَر- وهم يُصارِعون البأساءَ والضرّاء في قُــرى ونجوع أسيوط الملعونة في التوراة والإنجيل!!