من فوائد قراءة التاريخ أنك تقف على مراحل مقاربة للواقع السياسي والإنساني للمسلمين في زمنك أو أشد سوداوية منه، غير أن ما يجري اليوم من انهيار دول ومجتمعات بات تحت مستوى الصراعات الممكن التعايش معها، كسقوط الدول أو الحرب الأهلية أو الحرب الاستبدادية الشاملة على الشعوب، التي تُنفّذ معادلتيْ الإضرار والتعقب الشرس للمواطن، وغياب أدنى درجات السكينة والمعيشة للدولة الوطنية.
ومن ذلك خضوع أي بلد لحالة مطاردة وحشية لدعاة الإصلاح الديمقراطي والفكرة الإسلامية المعتدلة ذاتها، باستخدام تيار ديني مصنوع أو عنصري محرّض أو بالبطش المباشر، كما يجري اليوم في عدة دول؛ فهي حالة عظيمة البلوى بلا أدنى شك، خاصة حين تنصرم الحريات وتحتل الدمويات المشهد الحزين.
"الصراع الفقهي والديني المتعدد -من خراسان إلى المغرب العربي- كان له تأثيره في استخدام المستبدين لصراعات الفقهاء أو المتصوفة أو المتكلمين، ومن هنا نفهم أن لعبة استخدام السلفية الطائفية لم تكن حالة فريدة لتوظيف المستبد في التاريخ الإسلامي"
غير أن للتاريخ بصمته أيضاً التي يجب أن تُفهم، وأن يَخرج العقل المسلم المعاصر من عاطفته الخاطئة مع مراحل تاريخ الشرق الإسلامي، فنكبة بغداد كانت نكبة استبداد ونكبة ثقافة قبل أن يُعمَل الإرهاب المغولي في رقاب الناس، وهناك فترات عاش فيها العالم الإسلامي عهداً مريراً دموية وقسوة، وكان الصراع فيه بين شخصيات وداخل حدود الممالك الإسلامية ذاتها.
كما أن الصراع الفقهي والديني المتعدد -من خراسان إلى المغرب العربي- كان له تأثيره في استخدام المستبدين لصراعات الفقهاء أو المتصوفة أو المتكلمين، ومن هنا نفهم أن لعبة استخدام السلفية الطائفية -التي أعلنت مفاصلتها لمدارس أهل السنة منذ مئتيْ عام ووصايتها على العالم الإسلامي، بنماذجها المتعددة وليس الجامية فحسب- لم تكن حالة فريدة لتوظيف المستبد في التاريخ الإسلامي، ولكن سبق أن اُستخدِمت في صراع مصالح السياسة عبر قوالب أخرى.
ولقد كتبنا قديماً في ضرورة أن يعي المسلم المعاصر أن الرسالة الفكرية والإيمانية والأخلاقية التي جاءت بها رسالة الإسلام، لم تزكّ مطلقا مراحل التاريخ الإسلامي السود، بل حذرت منها بنصوص نبوية صحيحة.
وأن المسلمين كغيرهم تُطبق عليهم قواعد العدل وسمو الأمم في أخلاقها، كسبب لقيام رحلة العمران الحضارية للنفس الإنسانية، وأن البغي والظلم والصراعات الشخصية والنفسية المريضة، التي خلق فكرها الحسد المشدّد في النهي عنه؛ هي محرقة خطيرة، وتكرّس القطيعة والتوتر في المجتمعات المسلمة، خاصة حين تكون بين أهل العلم والمذاهب المتصارعة.
وهنا نجد أن جزءا ليس بالقليل من استخدام المستبد القديم والجديد، للفكرة الدينية أو دعمها في مقابل فكرة مذهبية أخرى، لا يقوم على إقرار قواعد الحق العلمي، وإنما الاستثمار السياسي الذي كان سائداً ولا يزال في عصور المسلمين عربا وأعاجم، بل قد تُعظّم شخصية لحادثة أو موقف إيجابي منها، وحين تذهب لدراسة تاريخها تجد إرثها الدموي والاستبدادي يُزكم النفوس، وقد تحمّلت مسؤولية عشرات الآلاف من الرقاب وفوات مصالح كبرى وأوطان للمسلمين.
فلا بد للعقل المسلم من اليقظة، وأن يعي أن أولى قواعد الانطلاق هي أن الإسلام قدم رسالة إنقاذ للبشرية طُبقت في أزمان متفاوتة كلياً أو نسبياً بحسب الظرف التاريخي، وأن هذه الرسالة الإنقاذية قد حمل بعض القاصرين أو الموتورين الراية باسمها دون أن يكون أهلاً لها.
كما أن من حملتها علماء وأمراء وفّوا بحقها عدلاً أو علماً في طول التاريخ الإسلامي وجغرافيته، وكانت الرسالة مبعث تفكير ترشيدي ضخم للرحلة البشرية، من الإيمان بالروح ومأسسة الأخلاق عليها، إلى حسن النظافة والسلوك المدني والعدالة السياسية. وإضافة لهذه الخلاصات؛ فإن فلسفة الروح والجسد والعقل والإيمان التي جمعتها مفاهيم الرسالة الإسلامية، لا مثيل لها اليوم ولا الأمس حين تُعتمد مصداقية المقارنة بنزاهة حقيقية.
وبالتالي؛ فإن تبني الرسالة ومشروعها التعبدي والمدني -الذي يسع مساحة كبيرة من مصالح الفرد والمجتمع، من الحريات الشخصية إلى تنظيم الدولة المدنية الدستورية- هو قاعدة الانطلاق الثانية، وذلك لا يعني عزل شعوب الأمة عن متطلبات حماية القوة للحق الذي يؤمنون به، أو السلام الإنساني الذي يتعايشون عليه في أوطانهم، فلا يُمكن أن يُستثنى المسلمون من هذه الثنائية التي طبقتها أمم عديدة، وكثيرٌ منها فعلتها بغياً وظلماً لأتباع أديان أخرى أو مستعمرات مستباحة.
"لا بد للعقل المسلم من اليقظة، وأن يعي أن أولى قواعد الانطلاق هي أن الإسلام قدم رسالة إنقاذ للبشرية طُبقت في أزمان متفاوتة كلياً أو نسبياً بحسب الظرف التاريخي، وأن هذه الرسالة الإنقاذية قد حمل بعض القاصرين أو الموتورين الراية باسمها دون أن يكون أهلاً لها"
حينها يُراجِع العقل المسلم المعاصر صدمته الثقافية وألمه الوجداني، ليتساءل: أين الطريق إذن لتحقيق الثنائية الكبرى في حاضر العالم الإسلامي، السلام المدني لشعوبه ومنصات البلاغ الفكري؟
حين فهم التاريخ وفرق بينه وبين رسالة الإسلام بالقدر الذي يجعله لا يُصدم من أحداثه، ولا يُهزم من مزايدات بعض دعاة المذاهب الوجودية أو العنصريات الأممية أو العقائد المختلفة ضد إسلامه، وقد فهم أيضاً بتعمق ثقافي، قد لا يتمكن من إحسان تعلمه، دون أن يتمثّل هو ذاتيا خُلق المسلم مع هذه الحياة كلها مسلمها وكافرها روحها وجمادها.
ومن يحسن جدل الحجة دون أن يلتزم بأخلاق الإسلام يبقى عليه إشكال كبير في تمثيله لمنابر الوعي الإسلامي، ونحن هنا لا نطرح تحول المسلم إلى مشاريع نداء صوتي للإنقاذ السياسي للأمة أو أقطارها اليوم، فهذه المرحلة يُفترض أنها سُبقت بمرحلة وعي متقدم، ساعد في تكوين الفرد المناضل أو الشخصية السياسية، أو العالِم الراشد، لقيادة بناء الإصلاح المدني الحقوقي والثقافي في بلد النكبات، وأصبحت له دراية بحسن المناورة السياسية لتأمين وطنه المكلوم.
فإنضاج هذه الحلول هو نتيجة لمرحلة الوعي المتقدم لعقل المسلم المعاصر، وليس وسيلة للوصول إلى هذا الوعي، وهذه الأرضية النفسية ستساعد الشباب على تنظيم عقولهم الذاتية، وكذلك القيادات التي تجاوزت رفض الاعتراف بأخطاء الماضي، ورأت أن ما جرى فقط ابتلاء لا يجوز أن تُناقش فيه أخطاء تسببت قيادتهم فيها أو رفاقهم، مع أهمية تأكيد أن التضامن مع ضحايا الاستبداد واجب بالقدر المستطاع، بحسب ظرف المناضل أو المفكر.
حينها تُبسط أزمات الأمة ومحنتها على طاولة الوعي، ولو كان عملاً جماعيا ككونفدرالية مسلمة ذات جسور وانفتاح على العالم؛ فهو أفضل لرسم خريطة التفكير العميق الذي غاب عن الأمة، وحاجة كل قُطر لدفع التفكير في أزمته، عبر معادلة التأسيس للفكر السببي للنهضة، ودفع أسوأ الضررين.
وإطلاق نمط تأسيسي مختلف لبنية العقل المسلم تتبناها مؤسسات أممية شعبية، تقودها نخبة عقول بأسلوب ديمقراطي منفتح، وهذا لا يمنع من أن يُساهم الفرد الواعي الذي أحسن صنع ثقافته وفكره السياسي وإدراك مقاصد الشريعة، وحمل وعيه مستوى موسوعيا يُظهر له الصورة البانورامية لأزمة مجتمعه أو أزمة إقليمه، فيطرح رؤاه بعد تكامل نضجه.
"يجب أن تكتمل وتُنظم علاقة العقل المسلم المعاصر بخطوط الحياة الدينية والحياة المدنية، ويشحذ عزيمته لكي يُنجز للأمة فكرة ويجدد مساراً، ويعالج خللا يُساهم في وضعها على الطريق القويم خيرَ أمة أخرجت للناس، وهي خيرية لا يقوم بها الادعاء الذي يُكذبه التخلف والتناحر"
إن مهمة العقل المسلم المعاصر نقصد بها الاهتمام بتحرير فكر النهضة، وصناعة الأرضية الثقافية للخروج من التيه الذي تعيشه الأمة، ودسترة الحياة المدنية للفرد التي تضمن وجود المواطنة بحماية القانون وتعزيز الأخلاق، وتشحذ مجتمعاتها للتفوق العلمي والرعاية السلوكية للحياة الاجتماعية.
وبالتالي؛ فإن هذه المكائن الفكرية في حياة المجتمع العربي ستُعزّز لغة العقل الإسلامي، والباحث الجدي عن أرضية التفكير الذي يأخذ مقاصد الرسالة بين قلبه وعقله، ويفهم تدافع الأمم وصراعاتها وعوامل نهضتها، فيُحرر مادته في هذا الاتجاه.
ولا نقصد من ذلك أن مسارات التعبد والفقه المحافظ أو حلقات الذكر والقرآن هامشيةٌ في حياة الإنسان، ضمن مساحة الثقافة المطلوبة لوعي المجتمع المسلم المعاصر، بل هي ضرورة للحفاظ على حصون الأخلاق والتربية الإيمانية، وإرث التدوين الذي يحوي نص الوحي واجتهادات العلماء.
لكن دون أن تحوّل هذه المسارات إلى تقويض العقل المعاصر، أو تحويرها عن التكامل الإيماني المعرفي، أو نزع سُلّم الأخلاق والسلوك الفردي في الحياة للشاب المتدين مع معاملاته اليومية، وإنما وفق هذه السياقات التي يُحفّز العقل المسلم التربويين عليها، ويُذكّرهم حين ينحرف بهم التعصب، أو التكتل على مذاهبهم وحلقهم بأنهم جزء من الأمة لا الأمة كلها، وأن مقام نجاحهم يجب أن يكون مرتبطاً بالأخلاق لا بالاستعلاء على بقية المسلمين، وبالتواضع والتواصل.
هنا تكتمل وتُنظم علاقة العقل المسلم المعاصر بخطوط الحياة الدينية والحياة المدنية، ويشحذ عزيمته لكي يُنجز للأمة فكرة ويجدد مساراً، ويعالج خللا يُساهم في وضعها على الطريق القويم خيرَ أمة أخرجت للناس، وهي خيرية لا يقوم بها الادعاء الذي يُكذبه التخلف والتناحر، وإنما تسود حين تنجح النفوس في مرحلة العبور العقلي الإسلامي الرشيد.
المصدر : الجزيرة