بقلم: مهنا الحبيل
هناك أسئلة عديدة تتداخل مع عنوان المقال كمقدمة أولية للفهم، وليس بالضرورة القطع بالإجابة، غير أن هناك مشكلة عميقة في إنتاج المعيار الإنساني لتقييم التجربة البشرية، وهو إشكال خطأه خطير للغاية لكونه يُساهم في تحصين مفاهيم غير متفق عليها، ولم تخضع لمنظور نقاشٍ حر في بناء الفلسفة الاجتماعية والتاريخ السياسي.
وحتّى المراجعات المنصفة منذ انتشار حركة التدوين الفكري العالمي الجديد، وانطلاق الدراسات الأكاديمية المتخصصة، لفهم تراث الشعوب أو رسائل الأديان واستعراض آثارها القيمية، فهي محاصرة بكم هائل من الانحياز، يُبعدها كلياً عن خلاصات الخطاب الإعلامي والثقافي الدولي.
هذا حين نتحدث عن الانحياز لذات الانحياز، لكن ذلك لا يكفي لفهم المعضلة؛ فأيضاً هناك حركة تسييس ضخمة لأرشيف العلوم والثقافات لا تسمح بالتوسع في طرح الإنصاف العالمي، ولا بنشر منتجاته في منصاتها، لكون ذلك مهدداً لمصالح استعمارية مباشرة، تترتب على طرحها ومناقشتها في الرواق الدولي عرقلة لفكرة حيوية لا يزال الغرب -كقوة رسمية مهيمنة، كتحالف أيديولوجي أو رأسمالي- يستخدمها لتبرير تدخله، بل ولتأميمه لمصالح كبرى في عالم الجنوب.
"هناك حركة تسييس ضخمة لأرشيف العلوم والثقافات لا تسمح بالتوسع في طرح الإنصاف العالمي، ولا بنشر منتجاته في منصاتها، لكون ذلك مهدداً لمصالح استعمارية مباشرة، تترتب على طرحها ومناقشتها في الرواق الدولي عرقلة لفكرة حيوية لا يزال الغرب -كقوة رسمية مهيمنة، كتحالف أيديولوجي أو رأسمالي- يستخدمها لتبرير تدخله، بل ولتأميمه لمصالح كبرى في عالم الجنوب"
هذه الاحتجاجات التي ركّزت عليها القوى اليسارية -في مبدأ بعثها- ذات مصداقية عالية، كيف نُنصف تجارب وأفكار العالم دون معيار نزيه؛ إنه سؤال العصر؟
لكن اليسار انقسم إلى ثلاثة تيارات: الأول تم ضمه في مشروع استعماري آخر لمصلحة الصين أو الاتحاد السوفياتي مقابل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والثاني انشغل بصراع الفكرة الوجودية مع الإيمان الروحي المطلق لكنه ركز على استهداف الإسلام، وأبرز سبب لذلك هو قوة وحيوية الفكرة الإسلامية في الحياة المدنية وفي معادلة الوجود، وهو ما لا يجده في بقية الأديان.
والأصل أن رسالة الأديان السماوية متصلة القواعد والجذور، وتفسيرها القيمي والوجودي واحد، وهذا معنى وحدة الرسالات، غير أن حجم الانحراف الذي طرأ على الديانتين الإبراهيميتين أشعل روح الصراع مع الرسالة الخاتمة، المتصلة بكلمتها الكبرى مع السيد المسيح وموسى عليهما وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم.
وظلت هذه الفكرة التوحيدية بين الأديان الثلاثة حاضرة، يبادر لها رهبان ومثقفون كنسيون وحاخامات، فيقررون الانضمام إلى الرسالة الإسلامية، أو يُصدرون بياناً واضحاً يعترف بعمقها وأصول وحدتها الإبراهيمية.
لكن الإسلام -وليس المسيحية أو اليهودية- بقي مركز الاستهداف الرئيسي للحركة الوجودية بشقها الفكري والأخلاقي، فهناك مأزق في تنظيم الفكرة الحوارية التي تصطدم مع شراسة الرفض للفكر المدني في الإسلام.
وقد ساهمت عهود من الاستبداد -منذ عهد الدولة العثمانية وحتى الدول القُطرية الحديثة في الشرق الإسلامي- في اعتماد هذه القوى على تلك التجربة التاريخية، التي نقدها الفكر الإسلامي الحر، ووردت نصوص مقاصدية محددة في ذمها، من ظلم الإنسان إلى ظلم الحياة والشركاء فيها.
إن الإشكالية التي يصطدم بها المثقف المنحاز لراديكاليته العلمانية -وليست العلمانية الحيوية المعتدلة- هي أنه يسعى إلى وضع الإسلام في إطار تحدده أيديولوجيته، وليس فهمه كما هو في فكره المدني ومعادلته الإيمانية، وبالتالي لا يصل إلى فهم دقيق يمكن أن يُعتمَد في حوارات فلسفية محكّمة.
كما أن هذا المثقف المسكون بالإسلامفوبيا والصراع النفسي مع الفكرة الإسلامية، وإن استدعى نزعته اليسارية القديمة؛ يبقى متأثراً بتقاطعه مع البنية الفكرية لحروب الغرب على الشرق، واستباحة ثروته وسيادته، فيتحول إلى مصدر دعم للمشروع البرجوازي الأكبر الذي يفتك بالبشرية، قصد أو لم يقصد.
إذن؛ لا سبيل لفهم ونقد وتقييم الفكرة الإسلامية في ظل هذه المنصات الضخمة من الانحياز، وحصر مسارات البحث والحوار حسب ما تمليه معادلة الانحياز والتطرف الرأسمالي المتوحش، أو اليساري الراديكالي المتوتر عاطفياً أمام مجرد ذكر الإسلام.
"الحاجة للعودة إلى تيار جديد وقديم منصف للتعاطي الحواري الإسلامي المهم مع النظريات والأفكار العالمية، فالمشكلة هي أن هذا المصطلح الحواري يُطرح في منصات ثقافة ومؤتمرات ضخمة، لكن لا يوجد لها أثر إيجابي ملموس، ومن أبرز أسباب فشلها تدخل المؤسسة الغربية الرسمية والعربية في تحديد خطابها، وهنا يُستخدم هذا الحوار بهدف صفقات التعاقد الرسمي، لا صفحات التعاون والمعرفة"
وهنا تبرز الحاجة للعودة إلى تيار جديد وقديم منصف للتعاطي الحواري الإسلامي المهم مع النظريات والأفكار العالمية، فالمشكلة هي أن هذا المصطلح الحواري يُطرح في منصات ثقافة ومؤتمرات ضخمة، لكن لا يوجد لها أثر إيجابي ملموس، ومن أبرز أسباب فشلها تدخل المؤسسة الغربية الرسمية والعربية في تحديد خطابها، وهنا يُستخدم هذا الحوار بهدف صفقات التعاقد الرسمي، لا صفحات التعاون والمعرفة المشتركة للتجربة البشرية.
ولذلك فإن رسالة الحوار والجدل المعرفي -التي هي من فرائض الله على البشر ليتعارفوا ويتآلفوا قبل أن يتحاربوا- لا تزال تحت الحد الأدنى بكثير، ولا يزال سوء الفهم يضرب جداراً دون من يقصد الحقيقة، وهنا فرق كبير بين من يقصد الحقيقة لفهمها، وبين تلك القوى التي تَستخدم الحوارات برامج موسمية لمشاريعها السياسية.
ولذلك فإن تحرير أرضيات الحوار، ونزاهة المشروع الجدلي الفلسفي لفهم الإسلام، ثم تكييف هذه المعاني لمصلحة العلاقات البشرية، مهمة ضرورية قبل أن تُطلق منصات البحث الإنساني المشترك لفهم الإسلام.
ونكرر دائماً أن هناك جهودا ومنصات عديدة مخلصة حتى لو تقاطعت مع أي دعم رسمي، لكن لم يؤثر على معيارها الفكري، غير أنها لا تزال ضعيفة أمام حملات التشويه والإسلاموفوبيا.
ويزيد الأمر تعقيداً أن الغرب المنحاز -لا المعتدل- مصرٌّ على سماع صوته وفلسفته بأسماء مسلمة، تتخذ موقفا ابتدائياً من الرسالة الإسلامية، ومقصد الحداثة لديها ليس فهم الفكر الإسلامي وخطابه المدني، وتأثيراته الإيجابية على المشترك الإنساني، وإنما عسفه بعنف إلى التأويل الحداثي المتطرف.
وهنا ليس المأزق مع حداثة النهضة والمعرفة كمنتج إنساني للشراكة العالمية، ولكن مع تسليع المعرفة لصالح مصطلح يُفسر تحديداً بالحداثة الغربية السلوكية والوجودية، ويعتبرها بالمطلق قاعدة قياس إنساني لازم، فأين يبقى هنا مدار الحوار والبحث الجدلي العلمي للوصول المعرفي، ما دام المعيار الأحادي نُصّب على طاولة الحوار.
إن الإصرار على اعتماد تجارب الاستبداد والدول الثيوقراطية أو الطائفية أو خطاب الغلو في المشرق، كمنتج تقاس دلالته على الأرض ويُفهم عبره الفكر الإسلامي، هو معيار خاطئ كليا، ويصطدم بحقيقتين: الأولى أن إعادة فهم النص مقاصدياً والتجربة البشرية للمسلمين، وما يُمكن أن يُفسّر فلسفياً لقيم الإسلام الأصلية بتجرد، ينقض هذه القاعدة المنحازة.
والثانية أن منتج الفكرة الدينية في الغرب وتدميرها للحياة البشرية في مناطق عديدة من العالم الجنوبي، وتأثير ذلك على كارثة الأرض والإنسان والحياة، لم تخضع حتى اليوم لمنبر بحث منصف وموسّع يقارنها بالشرق، فيُجرد مسائلها على البشرية حتى يتمكن الفرد والمثقف المستقل من المقارنة.
وليس الأمر فقط لتبيان آثار المقابل الجدلي في الخطاب الديني، وإنما أيضاً لتتبع قضية غاية في الأهمية، وهي أن الخطاب الديني المسيحي -الذي أُبيد باسمه أو ضد بطشه ملايين البشر في 300 سنة الأخيرة- منعطف مهم جداً لتشكُّل العالم الجديد، ولا تزال له آثار بالغة في النفس البشرية في الشمال والجنوب.
"تجربة حرب الإبادة التي نُفذت على الجزائر وحدها لها مدلولات فكرية لم تُعتمد في التقييم الفلسفي العالمي، كقاعدة علمية لروح الإبادة والتمييز العنصري المتوحش في فرنسا عاصمة الثورات الغربية، ولا تزال نتائج هذه العهود مؤثرة في صناعة النظام العالمي الجديد، ولا يزال الانحياز وعدم المساواة في الدماء البشرية لاختلاف دينها وعرقها سائداً"
بل إن تجربة حرب الإبادة التي نُفذت على الجزائر وحدها لها مدلولات فكرية لم تُعتمد في التقييم الفلسفي العالمي، كقاعدة علمية لروح الإبادة والتمييز العنصري المتوحش في فرنسا عاصمة الثورات الغربية، ولا تزال نتائج هذه العهود مؤثرة في صناعة النظام العالمي الجديد، ولا يزال الانحياز وعدم المساواة في الدماء البشرية لاختلاف دينها وعرقها سائداً.
وهو ما يمنع الاعتراف والاهتمام بها كضحايا إنسانية تحمل ذات المعيار الأخلاقي، كل ذلك لا يُلغي الاعتراف بأي ظواهر عنف وتطرف جرت في واقع المسلمين، ولا يهوّن من مسؤولية الفكر الإسلامي عن معالجة مسبباتها، لكنه أيضاً لا يُمكن أن يُعفي الغرب الرسمي وشريكه المستبد العربي الذي حارب حرية شعبه والديمقراطية العربية بكل برميل نفط امتلكه، فمنح الغرب نصفه وسرق بقيته وحرم الشعب من قطراته.
حين تُحرر هذه المسارات سيصفو الذهن لوضع قواعد الحوار، وما هي مهمته:
1- فهم الإسلام في خطابه الفكري وعلاقته بالحياة المدنية.
2- فهم الإسلام في معادلة الوجود والعمران.
3- فهم الإسلام في فكرة التشارك الإنساني والبعد الأخلاقي لكرامة الفرد.
وهنا نركز على الفهم، وليس التفهيم القسري من وعاظ التطرف ولا وعاظ الراديكالية العلمانية، الذين بعضهم أكثر حماسة من الغرب الرسمي المتطرف، لاحتجاز الفكرة في نموذج قولبة الإسلام كإرث تخلف ذاتي، ثم الانتقاء المجتزأ والتفسير الحصري، لوضعه في ذات السياق الفسلفي للحداثة الغربية دون أن يصح ذلك علميا.
فهذا ليس حوارا للفهم وإنما هو بغيٌ على الفكر، وإسقاط لقاعدة علمية تاريخية، وهي أن الفكرة والفلسفة يجب أن تُفهم بحسب مضامينها، ثم تنقد دون الإسقاط الرغبوي عليها، لمنع مجتمعات الشرق من أي ارتباط بروحه وقيمه، فهذا إسقاط يحقق مشروعاً سياسياً لا حواراً فكرياً فلسفياً، يبتغي الحقيقة ليصل إلى رسالة النهضة الإنسانية في رحلة الفكرة الإسلامية.
المصدر : الجزيرة