مهنا الحبيل
يعيش حاضر العالم الإسلامي مرحلة لم تسبق، يواجه خلالها أزمات شرسة سياسية وعسكرية وفكرية، بعد حالة انكشاف ضحالة لغة الفكر الذي يُقدَّم للمسلم المعاصر، على مستوى الوعي الإنساني لرسالة الاستخلاف والعلاقات البشرية.
ومن خلال سقوط الجغرافيا السياسية لدوله أو مناطق من دوله تحت صراعات دموية، أفضت اليوم إلى تأميم مساحة كبيرة من جغرافيا الشرق، في عهدة دولية جديدة تقوم على صراع حرب باردة بين الأميركيين والروس، أو تأثيراتها في مستقبل مناطق الصدمة التي عانت من إرهاب الأنظمة أو إرهاب جماعات التطرف.
ومما فاقم التأثيرات السلبية لاندلاع هذه الأزمات ذلك الفهم الخاطئ الذي تبناه الإسلاميون، برفضهم إقرار الدولة المدنية بحكم أنها مقابلٌ عقائديٌ للدولة الإسلامية التي لم ينضج مطلقا نموذج تطبيقي معاصر لها، يمكن أن تطمئن الشعوب لتركيبته القانونية ودورها في الاستقرار الاجتماعي.
"واقع اليوم يشهد -على الصعيد الفكري- تجاوزاً لتجارب تنظيمات الحركية الإسلامية، أو ما يسمى في الإعلام العربي والعالمي الإسلام السياسي، لكون واقعها السياسي وبنيته الفكرية لم تعد مؤهلة -رغم كل التجارب- لإمكانية تحقيق نقلة نوعية فكرية تصحيحية للمجتمع المسلم المعاصر"
مع مراعاة أن واقع اليوم يشهد -على الصعيد الفكري- تجاوزاً لتجارب تنظيمات الحركية الإسلامية، أو ما يسمى في الإعلام العربي والعالمي الإسلام السياسي، لكون واقعها السياسي وبنيته الفكرية لم تعد مؤهلة -رغم كل التجارب- لإمكانية تحقيق نقلة نوعية فكرية تصحيحية للمجتمع المسلم المعاصر.
وبالتالي تُطرح اليوم قراءات التجديد في الفكر السياسي بالمغرب العربي للإسلاميين، وفي تجربة تركيا حتى 2010، وبعض رؤى الشيخ حسن الترابي ومراجعاته النقدية وغيره من المفكرين المستقلين عن التنظيمات الحزبية، وفي التجربة الماليزية، كقاعدة تأسيسية جديدة لخطاب الفكر الإسلامي الجديد.
ولعل هذا يشبه إعلاناً عاماً لم يتخذ صيغة بيان يذاع إعلاميا، لكن تواترت معانيه لتقول للمجتمع -بصوت خافتٍ- إن إعادة تدشين خطاب الفكر الإسلامي الجديد لن تقف أمام نقد هذه التجارب للتقويم وانطلاقتها من جديد، وإنما ستمضي إلى إعادة وعي الفكر في كل محاور المراجعات التي تقتضيها مدرسة المقاصد، في اتجاهاتها العديدة بين محافظة ومنفتحة، لتفتح فكرة العقل والفلسفة في صدر تداول العلوم الإسلامية لها، ومنزلة الاستنباط لمدارات إحياء التجربة الإنسانية، وفهم سنن الكون، ودلالات النص فيه.
والعودة إلى قراءة التاريخ وعِبره ليكون منهج العدل في الإسلام وأخلاقياته هو الميزان في الحكم على تجارب تفوق حالة المسلمين وحكوماتهم، وليس تقديس الإرث التاريخي الذي اشتبك مبكراً في توظيف مذهبيات دينية، وصراعات جدلية عقائدية متعددة، لصالح البغي السياسي، وأسس عليها منظومة من الفرز بالإيمان الصحيح أو الباطل، بناء على تدخل الاستبداد وتوظيفه لهذا الصراع.
وتبعاً لذلك، يصاغ الموقف من استدعاء العهود المتأخرة أو استنساخها لنموذج التضليل الديني أو الحروب الدينية داخل المسلمين أو ضد غيرهم ظلماً، وهو فكر لم يخضع لمنهج الأخلاق والعدالة الإسلامية، وإنما نحل على الدين لتحقيق غرض سياسي متقدم أو متأخر.
فيما الخروج من معادلة التعمية السياسية -المستترة بالدين منذ التاريخ القديم- سيسمح للفكر الإسلامي المعاصر بأن يُقيّم بالفعل آثار هذه الأقوال والمدارس منذ المعتزلة ومن بعدهم، في إطار علمي حرّ يسترشد بنص الشريعة وما يمكن أن تسمح به من مساحة اجتهاد العقل، ثم ينظر في هذا الخلل أو ذاك قبل أن يقضي بالحكم على بطلان كل منتج هذه المدارس، ومعرفة ما هي زواياها الإيجابية.
"الخروج من دائرة نقد الجماعات الإسلامية وقرن التصويب بهم، هو تعامل واقعي بأن هذه التجارب ليست تجارب الإسلام، بل تجارب جماعات من المسلمين لها اجتهادها وأخطاؤها، وأن الأمة المسلمة يجب ألا تبقى رهينة هذه التجارب وإن بقيت هذه الجماعات عقودا وقروناً"
إن مفهوم مقاربة الكتاب والسنة المعتمد لدى المدرسة السنية المتعددة الآفاق، هو بحسب ما يُفهم بصحة أكبر لاحتمالية تفسير النص في غير القطعيات، وليس بموجب تعميم سياسي ديني قد يُسقط كنزاً من التراث، بحجة فرز هذه الجماعة العلمية من تاريخ التشريع الإسلامي، وتنحية غيرها، فالمناط الفهم الراشد لا دعوى الصحة المطلقة.
وتجربة عمر بن عبد العزيز بتسليم أحد أبرز قيادات المعتزلة مؤسسة اقتصادية كبرى، وإطلاق يده في كف يد بني أمية فيما اعتادوا عليه من التعدي على المال العام للدولة، وذلك من خلال إيمانه بحماس وتقوى الشيخ المعتزلي ضد سرقة المال العام، دلالة على هذا الفرز المهم للفهم، فضلا عن انسجام المعتزلة في عهده وإيمانهم بعدالته وتسلميهم لها.
وهذا لا يلغي مسؤولية من تورط منهم في دعم استبداد المأمون، لكنه يوضّح كيف يتداخل الموقف الفكري بالسياسي، وكيف يُصلَح الأمر بالعدل، وقس على ذلك موقف الخوارج في عهد عمر.
والخروج من دائرة نقد الجماعات الإسلامية وقرن التصويب بهم، هو تعامل واقعي بأن هذه التجارب ليست تجارب الإسلام، بل تجارب جماعات من المسلمين لها اجتهادها وأخطاؤها، وأن الأمة المسلمة يجب ألا تبقى رهينة هذه التجارب وإن بقيت هذه الجماعات عقودا وقروناً، كما هي مدارس الفقه والتصوف التي نشأت منذ قرون.
فمن الخطأ بمكان أن يظن المسلمون أن سقوط هذه الجماعات هو سقوط للإسلام وبقاءها بقاء للإسلام، بغض النظر عن مساحة الصواب والخطأ لديها، وضرورة فهم ما تعرضوا له من توظيف سياسي ضخم، بالضغط المباشر الظالم ضدهم أو فتح مساحات لهم، كأي تيار أيديولوجي سياسي عاش في حاضر العالم الإسلامي.
ومن هنا فإن جدولة مهام الفكر في الإيمانيات الكبرى أمام الهجوم الحاد على الإسلام، ومحاصرة منابره القادرة على الرد العقلي، أو خلط مفهوم الاستقرار والإيمان الروحي الذي يُشكل رحلة التوازن المعرفي والوجداني، بواقع تجارب سياسية فاشلة أو استبداد، هو من مهام العصر.
كما أن مهمة تحرير الخطاب الأخلاقي الذي غُيّب مفهومه المقاصدي المركزي، وغُيّبت رسالته المبدعة في تعاليم الشريعة، أو في تزكية النفس وفي حقوق المرأة والمستضعفين، هي فريضة اليوم العاجلة.
عبرها يعرف شباب اليوم رسالتهم قبل أن يجحدوها وهم يجهلونها، بعد أن فتنوا بواعظ في ميمنة مستبد، فتاه العقل وتلقّته فكرة غربية آثمة، لم تقم على قواعد فهم الحياة الفاضلة للإنسان واستقراره الروحي المقترن بحقه الدستوري والشخصي، وإنما أُلهب ضميره في زاوية احتجاج مضطرب، لا يُبقي للعقل المؤمن المطمئن ولا إنسانياته الأخلاقية مساحة، ويُترك في جحيم الشك والانحراف المؤذي للبشرية واستقرارها الوجودي.
"المفصل هو سعادة الشعب وتنمية بيئته، وتحقيق مساحة العدل والحداثة مع الهوية، حيث لكل أمة مسالك أخلاقية، لكن تنظيمها القانوني وفقا لمصلحة استقرار الدولة والمواطنة، ووعي هذا الشعب رسالة الأخلاق مع مضبطة القانون المنصفة، وليس الموجهة وفقا لصراع أيديولوجي"
ومن أهم هذه المداخل التي يحتاجها الشباب إعادةُ شرح الموقف من البنيان السياسي، الذي يمكن أن يقام في أي بلد مسلم، لشعبه بغالبيته المسلمة وبأقلياته، وأين تتاح له الحقوق الدستورية المتوافق عليها، شعبيا بالقناعة العامة أو عبر ممثليه السياسيين، وأن الدولة المدنية القائمة على تنظيم العقد الدستوري للشعب والأفراد، والمحافظة على مساحة حريته الشخصية في الفضاء الواسع لقناعة الإنسان، هي هيكل إداري إصلاحي وليست عقيدة دينية.
وهي ليست ممنوعة في الإسلام، بل هي مقصد يُدار بتحقيق المصلحة للشعب، ولا تعتبر مقابلا لمصطلح الدولة الإسلامية التي عبثت بها اجتهادات كارثية، واختلف الناس عليها قبل أن يولد مفهومها في الزمن المعاصر على الأرض، وأضحت مقدمة للقلق والفزع، لأن مناطها المقاصدي في الإسلام لم يتحصّل أصلا، ولا ما يترتب عليه من سكينة الشعب وأفراده في حياتهم الوطنية والاجتماعية.
وأُلغيت مساحة مشتركة مع التجربة الإنسانية، وعُمّم مصطلح العلمانية غير المفهوم عند كثير ممن يردده من الإسلاميين، على كل ما يرد عليه اجتهاد بشري في تطوير الدولة المدنية.
وكان المفصل هو سعادة الشعب وتنمية بيئته، وتحقيق مساحة العدل والحداثة مع الهوية، حيث لكل أمة مسالك أخلاقية، لكن تنظيمها القانوني وفقا لمصلحة استقرار الدولة والمواطنة، ووعي هذا الشعب رسالة الأخلاق مع مضبطة القانون المنصفة، وليس الموجهة وفقا لصراع أيديولوجي.
دون أن يكون ذلك مرتبطا بنص مواجه للشريعة أو محرض عليها، وإنما اجتهاد في دائرة الفهم الدستوري مع مساحة تدافع فكري وسياسي، حين تكون في بنية العدالة الدستورية، فتنظّم الخلافات والصراع الفكري ولا تحولها لحروب أهلية أو اجتماعية.
وسنستعرض في المقال القادم بعون الله نموذجا تطبيقيا ليس مثاليا، وإنما هو مدخل مساعد للقارئ الكريم لفهم حقيقة مفهوم الدولة المدنية المسلمة في الزمن المعاصر.