مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/08/26 19:44
نحو الدولة المدنية بعزيمة إسلامية

مهنا الحبيل
قدمنا في مقالات سابقة شرحاً لسلسلة مفاهيم تُفكّك الموقف الخاطئ لدى شريحة من الإسلاميين من الدولة المدنية، كان أحد أهم أسبابها هو عدم وعي معنى الدولة المدنية كإطار اجتهادي معاصر، وليس منظومة عقائد أيديولوجية، يتداخل العداء لها من خلال الخطاب التعبوي التربوي العاطفي، الذي أُقحم على التجارب السياسية للإسلاميين العرب.

واستغلت تحت مواسم الصراع مع التيارات الفكرية العلمانية، وهي مواسم كان غالب التفويج فيها من صنيعة المستبد ذاته، الذي حاولت بعض الأطر الإسلامية استرضاءه باسم حماية مصطلحات رسمية ظنوا عبثا أنها تحمي الشريعة، فلا هي بالتي حمت الشريعة ولا كفلت الحرية السياسية لهم ولغيرهم.

 

وتأتي العودة اليوم إلى هذه القضية في ظل أبرز مواسم الاصطدام مع الجدار السياسي والمجتمعي للحركة الإسلامية والشعوب العربية، بعد حصاد ثقافة هذه المرحلة التي لم يقف رفض الدولة المدنية فيها حائلاً أمام إنزال أفدح الخسائر بالشعوب العربية وبالحركات الإسلامية ذاتها، من قتلٍ وسجنٍ وتشريدٍ واحترابٍ طائفيٍ وأهلي، وتخلف تعليمي وسلوكي، ساهم المستبد في نشره مستفيداً من حالة الفراغ للوعي الفكري والدستوري الذي احتاجه الإسلاميون.

وهم اليوم في أشد الحاجة لإعادة قراءة وتحرير الموقف الشرعي والفكري من هذه المصطلحات المهمة، التي ترتب على الجهل بها وبحقيقتها استنزاف واسع لجهودهم وحرياتهم، وتوريط الشعوب في مصائد المستبد العربي المتنوعة.

 

ومما يُحمد في هذا الاتجاه أن حركة الوعي الإسلامي بدأت بالفعل محاولة التحوّل لمرحلة زمن اليقظة، ومراجعة مفاهيمها التجديدية التي تنطلق من مقاصد الشريعة وتتصل بقيمها، لتبني ثقافة وعي جديد هي بأمس الحاجة إليه، كما أن الشباب العربي بمجمله -في مساحة الحياد التي تنتظر الجواب- قد بدأ أيضاً يدرك مفاهيم هذه المرحلة، والنقد العلمي المنهجي الذي باشر بتبصرة الإسلاميين بأخطائهم الفكرية، لعل ذلك يهدي إلى الوقاية من تجارب مرة أخرى تذهب بالأرواح وبالاستقرار.

فالتعبد الشرعي في صناعة الدول يقوم على دفع المضار لا تمنّي البلاء والبكاء عند أطلاله، والسعي لتوسعة فرص نهضتها وسلامة شعوبها المدنية، وإقرار أرضية مدافعة سلمية لأوبئة الاستبداد والتخلف، حتى تكون أرضية انطلاق وصناعة نهضة لأي شعب عربي ومسلم، فتُقدّر مساحة تأثيرها وإمكانيات مشروعها المدني للنهضة.

 

وتؤمن بأن التجربة السياسية تحتاج لتراكم تطبيقي ومعرفة حضارية وتجارب سياسية، قبل أن تُعلن أن هذه الدولة المتقدمة تُمثل تطبيقا للشريعة الإسلامية، في مفاهيم العدالة الاجتماعية التي تقوم على المساواة بين الناس، لا على ثيوقراطية تبطش بالناس باسم الراهب الديني (الإسلامي) والحكم الجبري.

ولا بد من التنويه بأن التأسيس الفكري يسبق الخلاصة السياسية والتجربة الميدانية، فالقول هنا عن حل سحري يُنزّل على كل أرض -بمجرد إقرارها بقواعد النهضة لفكر المقاصد الإسلامي- غير صحيح أبداً، ولا تقدم صيدليته دواءً للأعراض، إنما تعالج للمستقبل جوهر الخلل في مفاهيم الفكر الإسلامي المعاصر.

 

وكذلك فهم تاريخ التشريع الإسلامي، وأين مساحة الاجتهاد الضخمة التي غمرتها استدلالات قاصرة لم تراع الفرق بين الفتوى والحكم، وبين أرضية التطبيق ومساحة الدفع بين الخير والشر لصالح الشعب في مزامنة التطبيق، وبين معنى تحقيق مناط التطبيق في زمنه بكمال بنيانه وثقافة مجتمعه، والقفز على الحدود قبل أن تكتمل شروطها وما قبلها من أرضية.


هذا في حال وصول القوة السياسية والقدرة الميدانية والولاء الشعبي إلى مستويات رضا ودعم ثابت، فيُحرَّر لهم حينها ما يصلح الأوطان وينظّم علاقتهم دستوريا ببرنامج عملي، أدرك حقيقة مقاصد العدالة الكلية والتفصيلية للشريعة الإسلامية، واستقوى بكل إطار اجتهاد مدني يحقق تطلعات كل شعب باتجاهاته الدينية والقومية.

 

أما في حال المدافعة السياسية وخروج الأوطان من محن الحروب والفتن والمواجهات، فإن مآل التقويم هنا اجتهادي؛ فحيث تحققت مصالح الشعب فهي مصالح رضاها الشرع، لا تُسقط قطعيات الإسلام ولا تهمّش مفاهيمها القيمية الخاصة، ولكنها تنظم حاجات الناس ومجتمعاتهم عبر تنافس سلمي غير مسلح، ومدافعة بيانية وسياسية، ودفع إنتاج مجتمع النهضة الثقافية المؤمن بدولته المدنية وهويتها القيمية الإسلامية.

وسنعود إلى التذكير بتفكيك عوائق الفهم لشحذ الهمة لمستقبل الفكر الإسلامي الجديد، لعهد تنويرٍ يؤمن بفلسفة الإسلام وليس بفن إسقاطه وتجاوزه، فقضية إسقاط الإسلام بدعوة كلامية لتنحيته من ضمير الشعوب ليست صعبة، وقد تعاقبت عليها شخصيات وأفكار عدة، باسم تجديده حيناً وباسم استئصاله حيناً آخر.

 

وهذا الإسقاط لم يكن في مجمله عملاً فكرياً نقدياً وإنما صيغة عبور عشوائية للتجربة الغربية، دون أن تُستوفى مستحقاتها الشَّرطية في حياة المسلمين المدنية، وبالتالي يصنعون أرضيتهم الوطنية والحرية الدستورية، ثم يبنون قناعاتهم لتوحد شعبهم على دستور مدني لا يصادم قيمهم.

وهنا تتضح أكبر كارثة نفذتها الثورات المضادة للربيع العربي، حيث حطّمت إمكانية قيام الأوطان عبر عقد اجتماعي وفشل الإسلاميين المتوقع في عمليتهم التطبيقية، فيتداولون السلطة وتتكرس التجربة حتى تنضج في دولهم، أو استبق التآمر الغربي والعربي فوزهم كما جرى في سوريا، وأدخلوا عليهم ترساً خطيراً كان كافيا لتدمير الثورة ولفتح ثغرات للمخابرات ومصالح الأنظمة، باسم تطبيق الشريعة (المحرّفة) التي تبشر بها السلفية الطائفية الجهادية والعقائدية.

 

ونستعرض هذه العوائق الفكرية للفهم في التالي:

 

1- الدولة المدنية ليست علمانية بالضرورة، ووصول الغرب لهذا المصطلح -في حركة علمانية تحررية من بطش الدين المحرّف بقبضة الملوك- لا يعني أن كل قالبٍ مدني اجتهادي وصلت إليه تجربتهم البشرية أو تجربة الإنسانية هو علماني محادٍّ للدين، فالدولة المدنية في ماليزيا وتركيا ساهمت في تنظيم حياة المسلمين كما في الغرب.

فللحقوق المدنية الدستورية مساحة اجتهاد تختلف في مواضع ولكنها تتفق في مواضع أخرى، فهو عقد اجتماعي يُنظم حياة كل شعب مسلم، بالتوافق بين أطيافه وبقانون يرتضونه، يعتمد عبر التنافس السياسي على تعزيز هذا القانون بمعادلة الشريعة، ولا يُسقطها عقدياً أو أيديولوجياً.


2- العلمانية ليست بناء عادلاً في كل صورها، بل قد تكون وسيط بشع للطغاة، فشيوعية السوفيات وماو تسي تونغ فيالصين وكوريا الشمالية، ومفهوم الديمقراطية الأميركية التي أنتجت دونالد ترمب، وعززت صوت تجار السلاح على صوت الفرد، وكذلك جوانب عديدة من النظام الليبرالي الاقتصادي الذي لا يراعي حق الفرد كفرد تكفل حقوقه الدولة، وضمان أساسياته في المواطنة والحياة، وجوانب من المعادلة الاشتراكية واستنساخاتها العربية العديدة؛ كلها جوانب سلبية لم تحقق العدالة.

 


3- لكن هناك إشكالية في التعامل مع المصطلح ذاته، فأحيانا بعض تطبيقات العلمانية هي تنظيمات إدارية، ومفاهيم قانونية تقصد العدل، ومساحة من تشريعات الفنون والحياة الاجتماعية المتسامحة، هي نُظم وليست أيديولوجيات، وحين تُنزع منها صفتها الأيديولوجية تُفهم بصورة أفضل، فيما بعض المفاهيم والتجارب هي حالات تصادم واستبداد تواجه تديّن الفرد وروحه وقيم الشعوب.

4- ليس من الضرورة أن يصل هذا الشاب الإسلامي أو الشيخ التربوي -الذي يمارس وينظّر للعمل السياسي- إلى وعي فكري شامل، أدركه فكر النهضة الإسلامي منذ عقل مالك بن نبي وتوجيهات محمد الغزالي ودعوات العروة الوثقى، حتى فلسفةعلي عزت بيغوفيتش وفلسفة إسلاميي الزمن المعاصر.

لكن من المهم أن يخرج من قضية توظيفه تحت سلطة الاستبداد أو جماعات الغلو، بحجة أن نموذج الدولة المدنية متى ما طُرح وأينما طُرح هو نموذج كافر، فيكون هذا المستغفَل الإسلامي مطية لمشروع تدميري للغرب الكافر بكل حقوقه، أو يُستحمر من وعاظ السلطة لهدم فرص الحرية والإصلاح والنجاة لشعبه، وعندما يُنتهى منه تأتي العلمانية لتشنقه بفتوى دينية.

هذه المفاصل الأربعة هي ما نظن أن الشاب والشيخ المسلم بحاجة إلى وعيها وعياً تاماً، ليخرج الفكر الإسلامي المعاصر من زمن التيه إلى ما بعد الصحوة، ومن إرث التخلف في التراث الذي طمر كنوز علماء ومصلحي الأمة إلى عهد النهضة الفكرية، وهي أول محطة لحلم العدالة للدولة الدستورية في الإسلام.


أضافة تعليق