مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
حاجتنا إلى الفقه

حاجتنا إلى الفقه
الشيخ : سيف بن علي العصري
مما لا يخفى أن علم الفقه هو من أهم العلوم الإسلامية وأشرفها، ويكفي في الدلالة على ذلك قول المولى عز وجل: [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة:122} وقال سبحانه وتعالى: [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18}، قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء (1/4): فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجَلاءً ونبلاً.اهـ
: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {المجادلة:11}.وقال الله
: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين). فيما رواه الشيخان عن سيدنا معاوية ويقول النبي
وفي الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي قال: ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابدٌ والآخرُ عالمٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير).
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في الفقيه والمتفقه (1/109) عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح).
فحاجتنا إلى الفقه عظيمةٌ جداً، بل لا يحتاج الناس إلى شيء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل كحاجتهم إلى الفقه، فهو يَمَسُّ أكثرَ مجالات الحياة، ولهذا كان للفقهاء المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة، وكان الأئمة يقدمون الاعتناء بالفقه على الاعتناء بالحديث، بل ويقدِّمون في الحديث نفسه رواية الفقيه عن الفقيه على رواية المحدث عن المحدث، فهذا الإمام الرامَهُرْمُزي يذكر لنا في المحدث الفاصل (ص238) عن وكيع بن الجراح شيخ الشافعي أنه قال لأصحابه: (الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله – بن مسعود-، أو سفيان – الثوري - عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب. فقال: الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقية عن فقيه عن فقيه عن فقيه).
فقدم الإمام وكيع بن الجراح سلسلة الفقهاء على سلسلة من لا عناية لهم بالفقه، مع كونهم أئمة في الحديث.
ومن الخلل البين الواضح ما يفعله كثير من الناس من العبث العلمي تحت شعار اتباع السنة وتعظيمها، فتراه دون فقه وعلم، يقدم على دراسة كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري أو صحيح مسلم أو سنن أبي داود، ثم يريد بعد ذلك أن يكون مرجعاً للفتوى، وإصدار الأحكام، وما عَلِمَ أن أهلية الفتوى لها شروط كثيرة، من لم يُحَصِّلْهَا لمْ يَحِل له أن يفتي أو يُصْدِر الأحكام.
وسأل رجلٌ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ قال الإمام أحمد: لا. قال:فمائتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قال: فأربعمائة ألف؟ قال: بيده هكذا وحرك يده. يعني له إذا حفظ هذا المقدار الكبير من الأحاديث مع العلم بالعربية والأصول وأقوال من سبقه، لعله بعد هذا كله يكون أهلاً أن يفتي الناس بقوله واجتهاده. انظر إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله تعالى (1/45).
وقد قيل للإمام الحنبلي الكبير ابن شاقلا رحمه الله: فأنت تحفظها؟ فقال: إن لم أحفظها فإني أفتي بقول من يحفظها وأكثر منه. يقصد أنه يقلد في الفتوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وابن شاقلا رحمه الله هو الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/292): شيخ الحنابلة أبو إسحاق... كان رأسا في الأصول والفروع.اهـ
وهذا الإمام الكبير ابن وهب رحمه الله يقول: اقتدينا في العلم بأربعة اثنان بمصر، واثنان بالمدينة، الليث بن سعد وعمرو بن الحارث بمصر، ومالك بن أنس وعبد العزيز الماجشون بالمدينة، لولا هؤلاء لكنا ضالين. انظر تاريخ دمشق (45/464).
وقال الإمام ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.
فقيل له: كيف ذلك؟
فقال: أكثرت من الحديث فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا، ودع هذا. انظر ترتيب المدارك (2/427) والديباج المذهب (1/133).
وابن وهب هذا هو الذي يقول الذهبي في ترجمته كما في سير أعلام النبلاء (9/223): (عبد الله بن وهب، الإمام شيخ الإسلام، الحافظ، كان من أوعية العلم ومن كنوز العمل).
فإكثارُ الإمام عبد الله ابن وهب من طلب الحديث دون العناية بفقهه وفهمه سبب له الحيرة، وهذا واضح، وقوله: (لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت) لا غبار عليه، لأنَّ أخذ الحديث بدون قواعد واضحةٍ سببٌ لضلال الإنسان وإضلاله لغيره، لأنه قد يأخذ بالحديث المنسوخ فيعمل به، ويفتي به الناسَ، وهو بهذا عامِلٌ بغير الشرع، لأن الشرع قد نسخ هذا الحكم وأبدله بحكم آخر، أو يعمل بعموم آية مُخَصَّصَةٍ، ويكون ما فعله خارجٌ عن العموم بالدَّلِيْلِ المُخَصِّصِ، وهكذا.
وذكر الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/158) عن الإمام أبي العباس بن عُقْدة أنَّ رجلاً سأله عن حديث، فقال - أبو العباس -: (أقلوا من هذه الأحاديث، فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها).
وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (كثير من هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطين وإني لم أحدث به، ولعله يطول عمره، فتنزل به نازلة في دينه، يحتاج أن يسأل عنها فقيه وقته، وعسى أن يكون الفقيه حديث السن فيستحي). ذكر ذلك الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/158).
وقد بين الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله كلام الإمام مالك فقال: (ومعناه أن الحديث كالقرآن في أنه قد يكون عامَّ اللفظ خاصَّ المعنى وعكسه، ومنه ناسخ ومنسوخ ومنه ما لم يصحبه عمل ... ولا يعرف معنى هذه إلا الفقهاء بخلاف من لا يعرف إلا مجرد الحديث، فإنه يضل فيه). الفتاوى الحديثية (ص/284).
قال الإمام الحاكم: (فمالك بن أنس على تَحَرُّجِه وقِلَّةِ حديثه يتقى الحديثَ هذه التقية، فكيف بغيره ممن يحدث بالطَّمِّ والرَّمِّ). انظر معرفة علوم الحديث للخطيب البغدادي (ص61).
وكان الإمام مالك وهو نجم الأئمة يحث أقرب الناس له على الإقلالِ من الحديث والسعي في طلب فقهه، فقد قال لابني أخته أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: (أراكما تحبان هذا الشأن – جمع الحديث وسماعه – وتطلبانه).
قالا: نعم. قال: (إن أحببتما أن تنتفعا به، وينفع الله بكما، فأقلا منه، وتفقهاً). انظر الفقيه والمتفقه (2/159).
وهذا الإمام الفضل بن دُكَين شيخ الإمام البخاري يقول: كنت أمرُّ على زفر وهو محتب بثوب، فيقول: يا أحول، تعال حتى أغربل لك أحاديثك. فأريه ما قد سمعت، فيقول: هذا يؤخذ به، وهذا لا يُؤخذ به، وهذا ناسخ، وهذا منسوخ). انظر الفقيه والمتفقه (2/163).
وجالس الإمام أحمد كثيرا من المحدثين، وأخذ عنهم وانتفع بهم، ولكن كان لفقه الشافعي أعظم الأثر في نفسه، حتى قال: هذا الذي ترون، كله أو عامته من الشافعي، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا ادعوا الله للشافعي، واستغفر له.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته.
، وكان قليل الطلب للحديث.وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله
وقال الإمام المحدث ابن معين لصالح بن أحمد بن حنبل: ما يستحي أبوك !! رأيته مع الشافعي، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته وقد أخذ بركابه، قال صالح: فقلت لأبي. فقال لي: قل له: إن أردت أن تتفقه فخذ بركابه الآخر.
قال الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/159): وليعلم أن الإكثار من كَتْبِ الحديث وروايته لا يصير بها الرجلُ فقيهاً، إنما يتفقه باستنباط معانيه، وإمعان التفكر فيه.اهـ








أضافة تعليق