مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/04/09 18:14
رئاسة الدولة الإسلامية.. الخلافة
كان لخلو منصب القيادة في الدولة الإسلامية بوفاة الرسول "عليه الصلاة والسلام" أثر عنيف، وهزة مباغته أصابت المجتمع الإسلامي في المدينة، ولذلك لم يلبث المسلمون أن سارعوا لاختيار رئيس (قائد) من بينهم ليتولى شئون الدولة. وقد دارت بهذا الصدد مناقشات حادة بين طوائف المجتمع في المدينة في يوم الوفاة نفسه (12 ربيع الأول 11هـ)، وتمخضت هذه المناقشات عن إنشاء نظام جديد عُرف في التاريخ باسم "الخلافة".

الواقع أنه لما قُبض الرسول كانت هناك اتجاهات ثلاثة: اتجاه الأنصار(1)، وهو اتجاه يدعو لأن تكون الرئاسة للأنصار، وتزعم هذا الاتجاه سعد بن عبادة "سيد الخزرج"، فهم القوة التي آزرت الرسول في كفاحه لنشر الدين، وعلى أيديهم وبوجودهم آمن المسلمون على أنفسهم وأموالهم، واتسعت رقعة الدولة. كما أن الذي دفع جماهير الأنصار لذلك هو خوفهم من المستقبل إذ ما آلت الرئاسة للمهاجرين، فمنزلتهم البارزة في الدولة سرعان ما يفقدونها، ولن تعرف لهم الأجيال التالية من أبناء المهاجرين هذه المكانة. إلا أن هذا الاتجاه لم يصل للغاية التي كان يرجوها للتدخل السريع من جانب الاتجاه الثاني.

اتجاه غالبية المهاجرين(2)، مَثَل هذا الاتجاه أبو بكر وعبيدة وعُمر "رضي الله عنهم"، وقد استطاع أبو بكر بحجته القوية أن يستميل الغالبية العظمى من الأنصار إلى الاعتراف بأحقية المهاجرين، ولم ينفض الاجتماع في السقيفة (سقيفة بني ساعدة) إلا بعد أن اختار القوم أبا بكر، فأطلق على هذه البيعة اسم "البيعة الخاصة"، ثم تمت "البيعة العامة" في اليوم التالي في المسجد. وقد تدخلت عوامل متعددة في اختيار أبي بكر للخلافة؛ فهو أول مًنْ أسلم من الرجال، وطالت صحبته للرسول، وهناك اعتبارات عملية حيث شجاعته النفسية وقدرته على تدبير الأمور وتوجيهها لصالح المسلين. أما اتجاه بني هاشم(3)، ومَنْ التف حولهم كالزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، اعترضوا على أبي بكر وطالبوا بعلي بن أبي طالب خليفة للمسلمين. وقد اعتمدوا في دعواهم على قرابتهم للرسول، وأنه يجب أن يظل أمر المسلمين في بيت الرسول، وقد فشلت كل محاولاتهم، وما لبث أن استجاب علي لبيعة أبي بكر.

في عهد الخلفاء الراشدين، اختلفت الطريقة التي تم بها اختيار الخلفاء بعد أبي بكر الذي أيقن بدنو أجله فخاف على المسلمين أن يقعوا في الخلاف الداخلي إن هو ترك الأمر لهم ليختاروا، فاجتهد برأيه وبعد موافقة كبار الصحابة والناس على اختيار عُمر بن الخطاب "رضي الله عنه". ثم شُغل عُمر بمَنْ يلي منصب الخلافة بعده، وكان بقية العشرة المبشرين بالجنة لا يطمئن لواحد منهم تمام الاطمئنان لما يرى فيه من بعض الصفات التي لا ينبغي أن تكون في الحاكم العادل الحازم، إلا أنه فوض لتلك البقية أمر الاختيار والتشاور لثلاث أيام، وقد فرغوا من ذلك بالإجماع على عثمان بن عفان. وبعد الثورة على عثمان ومقتله عاد الأمر مرة أخرى للأمة التي اجتمعت على علي بن أبي طالب وبايعته، ولكن كانت هناك معارضة من بنو أمية بقيادة معاوية بن أبي سفيان للمطالبة بدم عثمان، فكانت الحرب الأهلية بين المسلمين  طيلة خمس سنوات، وكانت النتيجة مقتل علي وانتقال الحكم لبني أمية.

في عهد الأمويين، وبعد أن كان لا يصل لمنصب الخلافة أي شخص إلا بناء على رغبة الأمة ورضاها، إذ بمعاوية يفرض نفسه على جماهير المسلمين بالقوة المسلحة. هذا وقد أقدم معاوية على أخطر انقلاب دستوري في مجرى التطور السياسي للمسلمين وهو تقرير مبدأ الوراثة في الحكم، حيث تولى يزيد بعد وفاة أبيه، فانتقل الأمر للأمويين وظل فيهم يتناوبون الحكم حتى سنة 132هـ، وخلال تلك الفترة كان يُعهد للأبناء أحيانًا وللأخوة وأبناء العم مثل (عُمر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك) أحيانًا أخرى.

في العهد العباسي، عمل أبناء العباس على الوصول للخلافة معتمدين على منطق القربى من الرسول، وهو ما صرح به أبو العباس السفاح الخليفة العباسي الأول في أول خطبة ألقاها بعد تمام البيعة له، فقال: "الحمد لله اصطفى الإسلام لنفسه... وخصنا برحم رسول الله وقرابته"، ومن ثَمَّ أقام العباسيون خلافتهم على أساس ديني بحت. وينبغي الإشارة هنا إلى؛ التطورات السياسية التي حدثت ومدى انعكاسها على منصب الخلافة، وهي: ضياع سلطة الخلفاء الفعلية، واستبداد المتغلبين من القادة الأتراك والبويهيين والسلاجقة بتدبير شئون الدولة – والحرص على أن يظل للخليفة بعض الاعتبارات الدينية كذكر اسمه في الخطبة ونقشه على السكة والإشراف على تولية القضاة – والإصرار على بقاء الخلافة، حتى أن البويهيين الشيعة عدلوا عن اسقاط الخلافة لكي تظل واجهة يسيطرون من ورائها على مقاليد الأمور – وأصبح تولية الخلفاء أو عزلهم من اختصاص المتغلبين على الحكم.

الخلافة العباسية في مصر.. عندما كانت الخلافة تتعرض للعدوان أو السقوط في منطقة إسلامية فإن المسلمين كانوا يسارعون إلى إقامتها في منطقة أخرى، مثلما حدث عندما سقطت الخلافة العباسية على أيدي جحافل المغول في بغداد 656هـ، وتمكن هولاكو من القبض على الخليفة المستعصم بالله وقتله. وعلى الناحية الأخرى كانت مصر قد سقطت الدولة الأيوبية فيها وقامت بدلاً منها دولة المماليك الذين بالرغم من قدرتهم السياسية والعسكرية، إلا أنهم كانوا يشعرون بضعف مكانتهم أمام الشعب المصري، فعمدوا إلى إحياء الخلافة العباسية، واتخاذ القاهرة بدلاً من بغداد مقرًا لها. حيث استقبل الظاهر بيبرس عباسيًا هو أبو القاسم أحمد بن الظاهر فأعلنه خليفة للمسلمين سنة 659هـ، ولقبه بـ "المستنصر بالله" بعد أن ثبت أنه من نسل العباسيين، وقد فرح الناس بذلك الحدث، ولكن المستنصر أراد العودة إلى بغداد، فجهزه الظاهر بيبرس بفرقة من الجيش، ولكن هذه الحملة هُزمت على يد المغول، وفُقِدَ المستنصر خلال المعركة، وبذلك خلا الجو لحفيد الخليفة المسترشد بالله، وهو أبو العباس أحمد، الذي كان قد بايعه قطز بالخلافة قبل أن يحدث ما حدث، وقبه بالحاكم بأمر الله، فعاد هذا الأخير إلى القاهرة، وأجريت له مراسم الاحتفال بتنصيبه خليفة للمسلمين. ويتضح من ذلك أن المصريون صبحوا حماة الخلافة والمدافعين عنها.

الخلافة العثمانية.. ظلت الخلافة العثمانية في مصر حتى سنة 923هـ عندما تمكن الأتراك العثمانيين من ضم المشرق الإسلامي لممتلكاتهم والقضاء على دولة المماليك. وقد اصطحب السلطان سليم الأول آخر الخلفاء العباسيين وهو المتوكل على الله العباسي إلى استانبول، وبذلك تحولت الخلافة من القاهرة إلى العاصمة العثمانية. وتثير قضية انتقال الخلافة إلى العثمانيين جدلاً بين المؤرخين؛ فريق يذهب بالقول بأن السلطان سليم قد حمل الخليفة المتوكل على التنازل عن منصب الخلافة، وتسلم منه شعائر الخلافة النبوية وهي: (البردة، القضيب، بعض شعيرات من لحية الرسول)، وتلقب سليم بلقب خليفة المسلمين. وقد دعمت وجهة النظر هذه بأدلة تاريخية، حيث أن بعض الكتابات الإنشائية ترددت فيها أسماء السلاطين العثمانيين مقرونة بلقب الخليفة أو خليفة الله، كما أن شعائر الخلافة لا تزال محفوظة حتى الآن في تركيا.

وقد ذهب الفريق الآخر إلى إنكار هذا التنازل، حيث أن المؤرخون الثقاة الذين عاصروا الفتح العثماني لمصر كأبن اياس في كتابه "بدائع الزهور"، أو سعد الدين بن شيخ الإسلام في كتابه "تاج التواريخ"، لم يذكروا شيئًا عن هذا التنازل، مع ملاحظة ان سعد الدين هذا عثماني. على أنه ينبغي أن يكون واضحًا في الأذهان أنه لما مات المتوكل دون أن يعهد من بعده لأحد بالخلافة، كانت السلطة والقوة في يد العثمانيين، ولم يكن هناك ما يحول بينهم وبين إعلان أنفسهم خلفاء للعالم الإسلامي. زد على ذلك؛ أن الإسلام لم يحصر الخلافة في الجنس العربي، حتى يكون انتقالها إلى الأتراك يبحث له عن تبرير شرعي، وإذا كانت الخلافة انتقلت من قطر إلى آخر حتى استقرت  في القاهرة، فما وجه الغرابة أن تنتقل إلى استانبول.

وعلى أية حال؛ فإن السلاطين العثمانيين تلقبوا بالخلافة، وظلت لقبًا من ألقابهم حتى سنة 1343هـ عندما عزل مصطفى كمال أتاتورك، محمد رشاد آخر الخلفاء العثمانيين، واسقط الخلافة، وأعلن قيام جمهورية تركيا على أنقاض الخلافة العثمانية.
 

المراجع:
  • أحمد محمد سالم، دولة السلطان: جذور التسلط والاستبداد في التجربة الإسلامية.- القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011.
  • عبد الحميد العبادي وآخرون، الدولة الإسلامية: تاريخها وحضارتها.- القاهرة: مكتبة نهضة مصر، 1955.
  • محمود إسماعيل، تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.- القاهرة: الأهرام للكمبيوتر والطباعة، 2000. 
  • يوليوس فلهوزن، تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية/ ترجمة: محمد عبد الهادي ابو ريدة.- القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005.
أضافة تعليق