لما نطق الأوراس خرس العالم...!!!
سميرة بيطام
كانت جبالاً على ارتفاع الشموخ تاجًا للقارة السمراء وكانت للأدباء والكتاب انطلاقة الحبر على صفحات التاريخ من أنك يا أوراس ارتفاع للمرتفعين على هضابك لأناس كتبوا تاريخهم بدمائهم ولم يمنحوا رخصة الكتابة لغيرهم ممن لم يشهدوا بطولتك، لأن الجهاد جهادهم وكفاحهم ولأنه قرارهم في أن يموتوا في سبيل جزائر حرة مستقلة، فهل في الجهاد مساومات أو تبادل في الأدوار؟.
لا لم يكن لدى الجزائريين الأبطال من على قمم جبال الأوراس طول نفس بغير علو هاماتهم وشموخ كبريائهم.
هي الأوراس.. مجموعة من جبال تمتد من جبال بوطالب والحضنة الشرقية غربا حتى حدود مدينة تبسة شرقا، تحدها مدينة بسكرة جنوبا وقسنطينة شمالا، وهي تعتبر همزة وصل بين الأطلس التلي والصحراوي وهو ما أهَّلها خلال الثورة التحريرية لتلعب دورا رئيسيا في تفجير الثورة الجزائرية واحتضان المجاهدين[1].
وهذا الموقع الاستراتيجي جعل منها الاختيار لتكون انطلاقة الرصاصة الأولى ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954 ضد المستعمر الفرنسي الغاشم.. ولو أني اعتبر شهر نوفمبر كله عرس ثوري..
أما أودية الأوراس ومنخفضاتها فقد مثلت رابط للوصلات التجارية والعسكرية، فعلا مثلت موقعا استراتيجيا في الخريطة الجزائرية، وبالمقابل أرادت فرنسا أن تطفئ لهيب هذا العطاء الأوراسي في طبيعتها الخلابة، فقامت ببناء حصون وقلاع وهي الآن موجودة آثارها بمنطقة تازولت وتيمقاد ومعسكر وتبسة، وكان الهدف منها هو مراقبة تحركات الأهالي وإيقاف كل حركة تصدر منهم.
فجبال الأوراس[2] تشكل في وضعها الطبيعي شكلاً رباعيًا يبلغ طولها من الشمال إلى الجنوب حوالي 100 كلم ومن الشرق إلى الغرب حوالي 80 كلم وتبلغ مساحة دائرة باتنة 172 و118 كلم مربع، وذكر البكري أن مسيرة جبال الأوراس وهي تؤلف مجموعة من الجبال الأكثر وعورة في إفريقيا، وهي تكتسب وضعية جغرافية جد متميزة، لأنها صعبة الاختراق تنتهي في الجنوب على الصحراء، قممها شاهقة جدا حيث توجد أعلى قمم بها في الجزائر الشمالية وهي قمة الشلية (2329) م، وكاف محمل (2321)م.، وتنتهي فجأة فوق السهول العليا في واجهتها الشمالية بمقدار(1300) م، وفي جهتها الجنوبية بـ(1800) م، هذا بالإضافة إلى القمم الأخرى مثل الشلعلع وارفاعة، أما السبب الذي جعل هذه الجبال دائمة الاخضرار تقريبا فهو استقطابها للسحب والضباب الذين لا يفارقان معظم المرتفعات العالية إلا في أواخر فصل الربيع.
يذكر التاريخ أن جبال الأوراس شهدت بطولات فذة وكان من العناد الجسيم لأبنائها ما خلدها لأن تكون هي الشاهد على جهاد المجاهدين الجزائريين الأباسل عبر الوطن الجزائري، ودونما عودة لأمهات الكتب فالتضاريس ضمت أثر القوافي في فترة الاحتلال لأبطال مروا من على جبال الأوراس وحتى حفاة.
... هي جبال الأوراس نطقت بأول شارة غضب لتعلنها للعالم من أن الجزائريين يريدون أرضهم محررة وبلدهم مستقلة، وما زاد هذه الرغبة تأييد الإخوة المغاربة والتونسيين وسكان البلاد العربية وبشتى أنواع المساعدات الفعالة حيث صار موقف فرنسا أمام الرأي الدولي محرجا.. وللتاريخ قول في فصل الخطاب..
إن كتابة التاريخ أمانة وحملاً ثقيلاً، فلابد من مراعاة الحقيقة في سرد الأحداث، وهناك شهادات حية لمن عايشوا حفلاً أوراسيًا مغوارًا إبان الثورة ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، أدلوا بشهاداتهم عن قمة الأوراس الأشم من أنها كانت حضنا للأوفياء والصادقين والمحبين للوطن اسمه الجزائر.
و مما روي لي من شهادات الأبطال أن الأكل كان يحضر بداخل أكواخ متناثرة على قممها وفي البعض منها المتواجد في الريف المسمى بأولاد عوف وأولاد بشينة وكانت مراكز بناها سكان الأوراس لتكون حضنا ومجمعا للمجاهدين في أخذ الأكل واللباس والذخيرة من الخراطيش، وكان للمرأة الأوراسية دورًا مقدامًا في إثراء الثورة بالدعم على مختلف الأشكال.. كانت تترك واجبات البيت لأن واجب الوطن أحق في تحريره فكان منها دور التمريض والتطبيب وحتى حمل السلاح، فالهدف كان واحد أو الغاية واحدة وهو أن تحيا الجزائر حرة مستقلة وبسواعد ودماء أبنائها.
وفي سبيل ذلك كانت لمسيرة الأبطال حكاية بل حكايات من على قمم الأوراس والطائرات تحلق فوق رؤوسهم ولم يكن يخيفهم لا صوت الرصاص ولا دوي القنابل، لأنه الخوف من الله ليس إلا.
ولقد كان للغابات دور مهم في حمايتهم، حيث مثلت لهم حصونا منيعة من المستعمر إلى أن اندلعت الثورة في الأوراس بعد طلقة أول رصاصة واستمرت الطلقات حتى تحقق النصر، وأصبحت صرح القوة في هذه المنطقة بدءا بالعهد الروماني أين مثلت قلعة حصينة من قلاع المقاومة الوطنية إلى أن غادرت فرنسا أرض الجزائر،، صحيح كانت فيه لحظات ضعف وقوة للثورات التي سبقت الثورة التحريرية وهذا راجع لعدم وفرة الإمكانيات المادية والبشرية ولكن لم يكن فيه رجوع للوراء أو خوف من ألوان التعذيب أو تنازل عن حق الأرض وحق العيش بكرامة.
والواقع أن سكان الأوراس كانوا يواجهون جبهات متعددة كان قد جمع بينها الطمع والسلب والمصادرات المستمرة، ونظرا لأهمية الغابات في حياة الشعوب والأمم فقد ظلت منطلقا لمختلف الثورات والمقاومات الوطنية، وهذا في رأيي يعود إلى العوامل المساعدة والمشجعة على العصيان، وتعتبر الأوراس محظوظة من حيث وفرة مجموعة من المزايا[3].
ومن الإعجاب بملحمة المنطقة كانت الأقلام تتداول السيرة البطولية لها ومن أجناس عدة.
فقد تغنى بالأوراس الكثير من الشعراء في الوطن العربي، ارتفع صوت محمد بشير سالم يشيد بصفات الجزائريين في أنهم لا يخضعون إلا لله، وأن شعارهم "الله أكبر" كما في هذه الأبيات:
لي في الجزائر أبطال غطارفة
وفي ذرى جبل الأوراس إخوان
أسد أباة لغير الله ما خضعوا
كلا.. ولا هم بغير الحق قد دانوا
سمعت صرختهم دوت مجلجلة
الله أكبر ما للعرب قد لانوا
|
و قد كتبت جليلة رضا من مصر خصيصًا للمجاهدة الجزائرية هذه بعض أبياتها:
أختاه يا فخر النساء ومنبع الروح النقية
يا كنز إيمان ونبل وانتفاضات حية
يا من بعثت من الرؤى والوهم روح الواقعية
أشعلت باللهب المقدس، بالمنى، بالشاعرية
وبكل معنى للحياة، مسارب النفس الخفية
فإليك يا عربية الأخلاق من قلبي التحية
هي شهادات شعرية من أقلام عربية في مقتطفات عطرة من بستان العروبة الأصيل، مداده أريج يفوح بحب النضال، وللشعر العربي مدح بقصائد وخواطر توقع على بطولات دوخت التحليل السياسي والأدبي في سر نجاح بطولة تاريخية احتضنت مسرحها جبال الأوراس الأبية، هو نموذج واحد فما بالك بنموذج جرجرة وغيرها.. فهل تكفي الصفحات في تسطير خطوط جزائرية عبر كامل الخريطة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها؟.. أخشى في ذلك أن يرتعد الشعر حينما يريد تنظيم أبيات عن فاطمة نسومر والكاهنة، حتى فرنسا لم تستوعب الدرس بعد، لأنها لم تفهم مصدر قوة الشعب الجزائري وقوة صموده وصبره وشدة تحمله لألوان التعذيب.. لكنه حب الجزائر نقش من دم الشهداء.
هو الشعر العربي من شاد بإيمان الأبطال وباحتوائهم للأم الجزائر.. وحدها الجبال والأودية والسهول من عاشت مخاض الثورة.. وحدها الجزائر من عانت ويلات الاحتلال، لكنها عاشت فرحة الاستقلال لتصبح الذكرى تدون للذكرى.. وحده العالم من أقر بمعجزة الجزائر في ثورة مباركة، وحده الأوراس لما نطق برصاصة أولى خرس العالم لانطلاق الرفض من تحت ظلال أشجار كثيفة غطت الملحمة ولتتحول إلى ملهبة لكل من يريد بالجزائر سوءا. وفرنسا أراد ت بالجزائر سوءا فكان لها الدرس أعظم في أن تستدركه بعقول جنرالات ألقت بسياط الاستسلام أمام مقصلة زبانة وشهامة بوحيرد.
كل الشكر والتقدير لشعرائنا وأدبائنا العرب تقديرا لمجهودهم في الإشادة على البطولة والكفاح الباسل... فعلا كانت ملحمة زلزلت فواصلها رصاصة أوراسية لتتبعها رصاصات من كل شبر من الجزائر.. عاشت كل بلاد ينبض فيها نبض الإسلام حرة مستقلة، ولتتغنى بلحن رصاصة الغضب منوالا لنيل الحرية والاستقلال.. ليبقى الأوراس هامة شاهدة على أول رصاصة ليلة الفاتح النوفمبري المجيد.. وعلى الفور خرس العالم لوقع دوي رصاصة التواضع ولكن بإصرار الكبرياء في أن تستعاد الجزائر لأبنائها وبسواعدهم وفعلا كان ما كان وتحقق المراد.. لتبقى الأوراس مفخرة النضال والكفاح لكل الجزائريين بكلمة الله أكبر عاليا ليصل صداها إلى العالم ولكن في سكوت منه إعجابا واندهاشا منه لثورة منظمة باسلة... أطلقت شرارتها رصاصة غضب على شرف بلاد غالية اسمها.. الجزائر.