شخصيات خالدة..
سميرة بيطام
سميرة بيطام
كثيرون هم من انسكبت أحلامهم في صراع البقاء دونما مسعى لترك الحالمين في أحلامهم بنسج الصبح خيوط الأمل على توقعاتهم طيلة مشوار لامع بالأماني، كثيرون هم من انحنوا أرضا لالتقاط حبات السمسم المتناثرة بفعل فاعل لتشتيت الإرادة و الصفاء و الإخلاص لفكرة طالما كبرت و ارتفعت معالمها إلى بعيد البعد في فسيح السماء العالية..
كثيرون من تألموا و حبسوا الدمع و الصراخ ليكملوا المشوار بعيدا عن الشكوك و الظنون لأياد طالت طويلا لاقتصاص الحلم من مضجعه حتى لا تكتمل الحكاية بآخر مشهد الروعة و التشويق في معرفة ختام قصة البطل الذي تحدى عواصفا و أطماعا و نوايا سيئة حتى غاب عن الأنظار فارا من زوابع النكران للجمال المميز في الوجه و الابتسامة الساحرة.
كثيرون من سهروا الليالي لتحصيل العلم النير بصعوبة الحفظ و الفهم في ظروف المطاردة حيث يفر الحرف من الجملة فيختل التوازن في التعبير و المعنى و يصبح التحريف في بداية كل كلمة هو عبارة عن تيه آخر يليه عدم الفهم و من ثم إلغاء الجملة التي كان الهدف منها إيصال معنى التحمل و الانصهار من اجل حرية المبدأ و الهدف...و الكل محتقر لهذه المساعي..
كثيرون هم من بكوا مع بكاء الشموع في ظلمة الليل و لا احد فهم هذا البكاء أو حاول احتوائه ، خاصة و أن أنين التعبير عن محاولة اغتيال القوامة في مواجهة الصعاب لم يطلب مساعدة من أحد ، لأن العزيمة كانت مبنية على حسن التوكل على الله ..و كلما كان الاعتدال في السلوك كان احتيار من أرادوا الاحتكار سخطا و لغطا لضوء منارة لم تخبو للحظة في جزيرة الأحلام الواعدة..
فحينما استرسل في مواساة هؤلاء المثابرين أجدهم غلابى من كثرة المقاومة باستماتة الخلق الرفيع و الاحتساب لله عز وجل ،فأرحل مع فكرهم الراقي لأتعلم منهم فنون الصبر و التحدي ، لكم كان التنكر لهم قاسيا و عنيفا ، لكم كان تهميشهم في عدم أخذهم بأحضان النصرة طعنات سكين في ظهر المغترب و الوحيد..صدقا أتفنن في فهم لب العقل لدى هؤلاء العظماء ممن حباهم الله بالتقوى و الكفاح المستمر حتى يستقر النفس الأخير على تحقيق المراد و ما أصعبها
من مهمة بل ما أقساها من أمنية و هي تمتص معها راحة البدن و خلو الذهن من الهواجس و ارتحال الضمير بحثا عن الهناء ، بصراحة أحتار حينما أريد فهم حجم المعاناة و لكني و بإحساسي أختزل الكثير من المفاهيم و المآسي...
في سير هؤلاء رحيل مغترب ، فلا رسالة يتركونها ورائهم لإعلام الأحباب عن موعد الرحيل و لا إفصاح بالجهر عن حجم الجراح لمن سكنوا صدورهم بالود و الإخاء في أحلى لحظات العمر ، إنها الهجرة حيث لا يسمع صوتهم و لا حركة أقلامهم حينما يبدعون في صمت..لكم بللت دموعهم صحائف خواطرهم ، لكم سكن السكون بيوتهم ، فلا تسمع لهم ضجيجا و لا كلاما مفهوما ما عدا ما صيغ من طيب الكلم في تلاوة القرآن، وزانه الصبر المحمود و العودة إلى الله حينما تضيق السبل و يتغلغل اليأس بداخل سرائرهم فينقطع السبيل بينهم و بين صخب الدنيا و كأنهم أحياء و لكن أموات حينما يخفون ملامح الحقيقة أمام الناس ،اعتبارا من آثار مزقت بها أمواج الخديعة قلوبهم ، حتى صار لهم شكل آخر و هندام مغاير و لغة متبدلة بحسب ما ترسب لديهم من خيبة أمل ممن قاطعوهم عن عمد رغبة في الإنقاص من قيمة ما تحملهم عقولهم من فهم نادر و فكر نير..
تابعت خطى هؤلاء الغرباء و ما هم كذلك لدى عوام الناس لأنه لا أحد يعرف ماضيهم و لا آلامهم و لكن الأصفياء من الناس يستأنسون بمجالسهم و حديثهم فيلتف حولهم الصغير و الكبير من أعمار العارفين ، إنها إرادة الله في أن لا يبقى هؤلاء النجباء غرباء طول العمر حتى لا تفتر عزيمة الإبداع فيهم فيغيب الحلم و يغيب الأمل..حتى أنا اشتقت لمحادثتهم و بالفعل حصل فكانوا لا يذكرون لأحد آلامهم و لا يستعرضون سيرا ممن أسالوا دماء الجراح ، فكانوا
يغيرون الحديث إلى حديث آخر حتى لا يغتاب من تنكروا لهم ، لكني كنت أفهم و أدرك هذا التستر، فكان أن استوعبت أن العظماء لا يكبرون بكثرة الانجاز و إنما بطيب الخلق في كظم الغيض و مجاهدة النفس في أن لا تجر أصحابها إلى هاوية الفشل في آداء الرسالة الآدمية لاستمرار المنهج المحمدي وفق سنة مباركة، فتكون بذلك الخسارة خسارتين ، خسارة أجر الصبر و خسارة أجر الاحتساب .
ما شاء الله على طاقات فاعلة مثل هذه..ما شاء الله على نماذج تبني و لا تهدم ، ما شاء الله على هامات تخلد لأسمائها بتوقيع أناملها في أنها لا تتغير و لا تتصنع و لا تقلد الغير ، ما شاء الله على شخصيات خالدة و ستبقى كذلك طالما فيه نوايا طيبة و إرادات فولاذية في أن تغلق منافذ الشيطان من كل صوب حتى تنتصر الانتصار الأعظم...ما أروعها من عقول تزن الفعل قبل أن ينطلق من أياديها ،ما أثقلها من كفاءات ناضجة لا تنفعل لأدنى تصرف و لا تأتي بالمثل بل تصفح و تسامح ، ما أجملها من نفوس تقية تشتكي إلى الله و لا تشتكي إلى البشر و في يقينها ألف تأكيد أن الله هو الفارج..
تبقى شخصيات مستخفية بظلها ما دامت حية و حينما تموت تدخل التاريخ من أوسع أبوابه بعد أن دخلت الدنيا من أضيق أبوابها بالزهد و القناعة لتتحول إلى شخصيات خالدة يخلدها القلم و التاريخ و اللسان و الشواهد ...