حنين إلى مصر
سميرة بيطام
ترددتُ كثيرًا قبل أن أخوض في الكتابة عن مصر ولو بكلمة تحتوي اسم القاهرة؛ لأني أحسستُ بالخوف والارتباك في أني قد لا أوفِّي هذا البلدَ الطيِّب حقَّه من الوصف والعِرفان؛ لأنه في ظرف ما، وفي مكان ما، وفي حِقبة زمنية من عمري - فَتح لي هذا البلد الطيب بابًا واسعًا لتكون أولى الخُطى في بوَّابة المطار ببركة: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [يوسف: 99]، فعلاً دخلتُها بأمان بعد أن خانني الأمانُ في أَوْج محنة لي، وهي التي كانت بمثابة مُنعطف التغيير في مسيرتي، ولم أكن أتصور في يوم من الأيام أنَّ أُولى بوادر التغيير ستكون من بلدٍ حضاري عمره 7000 سنة.
فبدايةً، تحية حبٍّ واحترام وردِّ الجميل مني لمصر على ما قدَّمته لي من حِضْن الاستقبال للشرب من منبع النيل بامتداد طول البحر الأبيض المتوسط؛ ليكون الامتدادُ الآخر للحضارة المصرية منذ 2500 ق.م إلى عهد الدولة الوسطى ثم الدولة الحديثة، وهذا بعد أن تَعرَّض الفراعنة لغزو الآشوريِّين والفرس والإغريق ثم الاحتلال الروماني، لكنَّكِ سموتِ يا مصرُ بما يُسمى بعلم المصريات حضارةً وتاريخًا وآثارًا ولغةً، وامتدَّ هذا العِلم إلى كُبريات الجامعات العالمية ليدرس إبداعات حضارتك ومقاماتها العجيبة، من مسلة فرعون إلى الأهرامات الشامخة شموخ مشيديها، وصولاً إلى منارة الإسكندرية كمَعْلم أصيل.
كانت لي الانطلاقة على مدارج إحدى جامعاتك الفائضة بعِلم الغَوص في أعماق المفاهيم الشاملة والعريقة، فرُحت أنهل من هذا البحر الواسع ما شاء الله لي من العلم، ولو أنه في الأزهر موسوعة دينية أخرى ضخمة من علوم الدين، وأخصص بالمناسبة تحية تقدير للأندونيسيين الذين كانت لهم جامعة تابعة للأزهر لتعليم الفقه خاصة بهم، وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على متانة هذا البلد وثرائه في الفقه والقانون، حتى راحت الشعوب الإسلامية تَحطُّ رحالَها في هذا البلد الطيب.
ثم كانت لي الوجهة الثانية لأتنَزَّه في رُبوع الأرض المصرية بَدءًا من آثار قلعة صلاح الدين، وهي أحد الشواهد على حروب القرون الوسطى، حيث تضم ثلاثة مساجد وعددًا من المتاحف، وعلى سبيل المثال لا الحصر: متحف الحديقة والمتحف العسكري وغيره.
كما يوجد بها قصر الجوهرة، نسبة إلى جوهرة هانم آخر زوجات محمد علي، أما الوجهة الأخرى، فكانت في المتحف المصري الكبير، والذي يحتفظ بداخله بأعظم طاغية عرفه التاريخ، وهو فرعون؛ ليكون آية للعالمين، في لفاف محنَّط متقَن الالتفاف إلى جانب عدد من المومياوات.
وما لَفت انتباهي أثناء زيارتي لهذا المتحف هو تلك العناية المخصصة من الدولة المصرية لأجل الحفاظ على الرموز الفرعونية في توابيت موجودة بالبدروم، والمصنوعة من الخشب الملون؛ حفاظًا عليها من ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة، كما لفت انتباهي بعض التَّرميمات في بعض التوابيت التي ترجع إلى العصر اليوناني والروماني، أما مجموعة الكارتوناج، فكانت واجهة أخرى للأمتعة، فيها ملامح المتوفين والمومياوات، يعود تاريخها للعصرَين اليوناني والروماني.
وإلى قبلة أخرى ومن فوق صحراء شاسعة يلوح لُغز الأهرامات من الأُفق على امتداد البصر، هذه العِمارة الفنية التي حيَّرت العلماء، فلا شك أن بناء هذا الهيكل الكبير لم يكن سهلاً في ذاك الزمان، وقد تَعجِز عنه الحضارة الحالية على الرغم مما تملكه من تقنيات وتكنولوجيا متطورة.
والعلماء يُقدِّرون بناء الأهرامات بحوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، واللُّغز يَكمُن في كيفية بنائها، فالاعتقاد الذي كان سائدًا أن الفراعنة قاموا بنحت الحجارة، لكن السؤال الذي أطرحه ويطرحه كلُّ متأمِّل زائر لهذا الفن المعماري، هو: كيف جاءت الحجارة متناسقة ومتطابقة؟ أم أن الإجابة في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]؟
فالمتمعن لهذه الآية سيجد أن نظام البناء المستخدم هو نظام الأبنية المرتفعة، وهو الصَّرح، وذلك بعد أن يُخلط الطين الموجود بالقُرب من نهر النيل بمائه ووضعه في قوالب وإيقاد النار عليه حتى يتصلَّب وتتشكل الحجارة، ولكن كيف تم الوصول إلى ذاك الارتفاع للهَرَم الواحد؟
هذا السؤال وردت فيه فرضيات كثيرة، من بينها أن الفراعنة كانوا يستعينون بالجن لرفع الحجارة الثقيلة، ويبقى العلم واليقين عند الله - سبحانه وتعالى.
وبالقرب من الأهرامات الثلاثة وفي انبطاح سيادي يوجد تمثال "أبي الهول" كإبداع آخر لفن أسطوري في جسد إنسان ورأس أسد، وموقعه بالتحديد على هضبة الجيزة على الضفة الغربية من النيل في الجيزة، حيث يبلغ طوله 73.5 مترًا، وعرضه 6 أمتار، وارتفاعه 20.22 مترًا.
والرأي الجامع يقول: إن المَلك "خوفو" هو الذي بناه، حيث إن وجه أبي الهول هو شبيه لتمثال خوفو، ويقال: إنه يُمثل إله الشمس، والأبحاث لا زالت مفتوحة إلى يومنا هذا.
هذه ومضات من على أرض مصر، اختطفتها ذاكرتي بلحن الإعجاب لأُمِّ الدنيا، أو المدينة التي لا تنام، فبالفعل بعثت في نظام نومي سحرًا، فأصبح ليلي نهارًا بنشاط طلب العلم مرَّة، وبالمرة الأخرى بنشاط استنشاق عبق الحضارة الفرعونية في نهار نهارك.. والسحر اللَّيلي لن يعيشه أحد إلا وهو في مصر، واطمئناني يزيد وأنا ألحظ أبناءَك يقرؤون القرآن في ناقلات السفر، فيا أمَّ الدنيا، إليكِ مني حنينٌ وشوق لزيارتِكِ، يا مَن كنتِ مهدًا ومستقرًّا للأنبياء، وجميل عرفاني لكِ، إنكِ أهديتني - بتوفيق من الله - مِفتاح التغيير لذاتي، فلولاك وبشهادة أقرُّ بها لما توقد فكري في طلب العلم من فوق مصابيح النور عبر ممرات على هدوء نهرك العظيم، ومن على ممرات الإسكندرية وحلوان والمنصورة، ولا أنسى أكلات "العيش والفول والكشري والمهلبية" لتمثل حضارة أخرى أضيفها إلى رصيد حضارة العقل المصري باقتدار.. تحياتي القلبية لكِ، وتقديري لعلمائك وناسكِ.