علمني كيف أنسى
سميرة بيطام
استمعتُ للكثير من النَّصائح في أن: الدنيا ساعة، سأجعلها طاعة، والنَّفس طماعة، سأعوِّدها القناعة..
فَهِمتُ من الكثير من المُجرِّبين أنَّ تَجاوُز الأزمات يكون بالصبر والاحتساب، فرُحت أمنَح لرُوحي رياضة الطيبة بقواعد الصَّفح الجميل، ناقشتُ العديد من المفكِّرين في أنَّ دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى يوم الساعة، فرحتُ أَغضُّ بصري عن الشرِّ وناسه.
هكذا كنتُ أتعلَّم وأجتَهِد في أن أمنح لنفسي شخصية مُتوازِنة، فليس سهلاً على الإطلاق أن أُعاني مرَّ اختلاط الأدوار على أن أبدو أكثر تفهُّمًا لأسباب الظلم، فلا عقلي في تراكيبه يمنحني قوَّة التفهُّم، ولا قلبي المُرهَف الإحساس يَمنحني فرصةَ التخلِّي عن اقتصاص حقِّي بكل ما أُوتيتُ من وسيلة، ففي جزء المعادلة لم أتجاوَز حدِّي عمْدًا، وفي النِّصف الآخر من المعادلة تُنكِر وتداري لما حدث.
لذلك دنوتُ من التعقُّل دُنوَّ الصغير من أُمِّه يَطلُب دفئًا وحنانًا منها، في حين كان مطلبي من الإنصاف، كيف أَقِف موقفًا وسطًا؛ فلا أَميل مع نِداء الذَّات بداخلي في أنَّ خطرًا ما ألَمَّ بها، ولا أميل إلى إعطاء فرصة للمُخطئ في أنَّ دوافع انتهاك حُرْمتي كان لسببٍ من الأسباب؟!
إذًا، علِّمني كيف أبدو أكثر جمالاً في تواضُعي، وعلِّمني كيف أسمو بأعلى قَدْر من خُلُقي، وعلِّمني كيف أَكفَّ سؤالي في أنَّ جرحًا لا يزال يَنزِف بإلحاح في تقطيع عبراتي دَفعة دَفعة إلى حيث مآل النِّهاية من التوقُّف في أنَّ في طلبي إقرارًا وفقط، رجاءً علِّمني كيف تبدو أناقة الزُّهد لِباسًا أرتديه حيث نَزَلت وأينما حللت موطنًا لي للتفاوض.
ولا زلتُ أطلب منك أن تُعلِّمني كيف أبدو كالملاك في خفَّة مروره؛ حتى أتْرُك انطباعًا حسنًا من أنَّ خفة ظلِّي أسكنت الرضا في قلوب مَن تَحدَّثت إليهم بصِدق الرؤى لما تَستدعيه حاجةُ الموقف من الكلام، نعم، علِّمني كيف يبدو مني الصَّعب سهلاً في التقرُّب لكِياني طلبًا للتسامح، وعلِّمني دونما ضَغْط عليَّ حتى لا أَمَل من أول درس، فما هو مُستقِر بوجداني قد يُبعِد عني نشوةَ التعلم بكلِّ حب ورغبة شديدة في تصحيح أخطائي وتقويم عيوبي، ولي شُكْر في أن أهديتني عيوبي، إنها الصَّراحة مني دونما غلاف على الحقيقة، إذًا لا تتردَّد وعلِّمني كيف يتحوَّل الموقفُ الجميل مني إلى موسوعة من الحِكَم يكون على مَن غاب عنه الرأي السديد مرجعًا حينما تضلُّ به السُّبل، علِّمني ولا تَكُف عن تعليمي حتى أَعِي جيدًا أنَّ ثقافة الحياةِ هي تلك السُّلوكيات الحضارية المستمَدَّة من أشكال الرُّقيِّ، والمنصوص عليها في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنها مرجعيَّة التصحيح والثبات والسَّداد، وأصل شرحك إذًا ولا تتوقَّف عن تعليمي؛ فإني أجهلُ الكثيرَ من صرخاتِ النون في أنَّ مطلبي في التعلم بالقلم كتابة وبالإصغاء الجيد منفذ عبور لقافلة الطهارة دونما فواصِل لعودة الجَهْل في أمور الحياة مرة أخرى، أوَليس التَّعلُم في الصغر كالنَّقش في الحجر؟ ولي قول في أنَّ ما أُخِذ من مورده الصحيح شُرِب من مَنبعِه الأصلي كالماء الزُّلال، فلا تَكُفَّ عن تعليمي حتى أغدو كبيرةً بعِلْمي وثقافتي وحُسْن تدبُّري لأمور حياتي.
ولكن بعد أن أَعِيَ شروحاتك جيدًا، علِّمني الدرسَ الأهمَّ من المهم مما سبق من الدروس، وهو أنْ أتعلَّم كيف أنسى لا أن أتناسى، فأنا بحاجة إلى عمليَّة استفراغ لذاك الحيز المملوء بالغضب وحب المواجَهة؛ لأخذ حقِّي حينما أكون شديدةَ التوتر والبقاء في العيش عَبْر دوامة الماضي المُنهِكة لي، فرجاءً علِّمني وبصبر منك عليَّ؛ لأنِّي لستُ أفهم بالسَّهل كيف سيكون بَدء النِّسيان لمن اقتصَّ مني جزءًا من حياتي هباء منثورًا دونما فائدة، ولكنَّها الإرادة مني في أن تعطيني مراتب النِّسيان رويدًا رويدًا وعلى التمهُّل عليَّ؛ حتى لا يتملَّكني فرضُ القوة على ذاكرتي في أن تنسى اليوم أو غدًا، فالاستعجال لا يَخدم هدوئي، وأرجو منك أخذي على قَدْر استيعابي، ولو أنَّ استيعاب النِّسيان من الأمور الدقيقة جدًّا والمتمرِّدة أكثر؛ لذلك أَسكُب على فِكْري دلوًا مِن تَجرِبة السلف مثل تَجرِبة بشر بن الحارث - وهو من كبار الصالحين - حينما قال: اجعل الآخرةَ رأسَ مالك، فما أتاك من الدنيا فهو رِبْح.
علِّمني منها كيف أنسى ملذَّات الدنيا؛ لأنِّي فعلاً بحاجة لأنْ أنسى، وليتني أكون مِثْل الأعرابي الذي احتُضر فقيل له: أَبشِر بالجنة ورَوحها، فقال:
قد بشَّروني بالجِنان ورَوْحها
ولكسْر بيتي عند نفْسي أطيبُ
يا ليت حظِّي بالجِنان ورَوْحها
بيتٌ بصحراء الغبيط مُطنَّبُ
|
أخيرًا، علِّمني كيف أنسى حتى ينساني الألم والضَّعف والتردد عن التألُّق أوقات حصار الإبداع بين أَكُفِّ الظلم، لا تتوانَ لحظة واحدة في أن تُعلِّمني كيف أنسى، فقوة الإحسان في قمة النِّسيان، هو أصعب الدروس، لكنه فرضٌ عليَّ تعلُّمه، وسأكون تلميذة نجيبة حينما تُحاصِرني المِحَنُ، فلا تُثني على فِعْلي، وراقِب مني تطبيقَ الدرس بكامل فصوله، والتقط عني زلَّةَ اللسان والقلم؛ حتى تصبح حُجَّة عليَّ، وإنِّي لشاكرة لك هذا الجميل.