هدية من غير إهداء
سميرة بيطام
فاضت عيناك بدمع أكيد، لست تدري أي الرسائل ستدون فيها خاتمة نصرك، فقد كنت قريبًا من عطاء مستوفٍ لحق الصدق والوجاهة، فلِمَ تساوم اليوم نفسك بما قدمت؟ فلا شأن لك إن كان العطاء قليلاً أو كثيرًا، فالمهم هو فعل الاقتراب من الإحسان، وإمداده لذوي الحاجة المُلحَّة والماسة، بَدْءًا بضعيف كاد يختفي، وانتصافًا بمريض كاد ينتهي، ووصولاً إلى نفسك التي آثرت الغير عليها، فتلك - إذًا - قمة الوجاهة والإيثار، ولك أن تدون مذكرات أيامك كما شئت وبما شئت؛ لأن من سيقرأ لك مستقبلاً لن يعرفك حق المعرفة، فأنت كنز مغلف ببيان شفرته ليست سهلة الافتكاك، وسل من قاربك إن كان موج العطاء توقف رسله قليلاً أو هدأ صياحه طويلاً، فأنت من يعي جيدًا فنون العطاء، وازدواجية المثل العليا في مراتبه ونتائجه، إنها كرامة عظيمة وشجون يقر في النفس ارتياحًا ليس يوفره مال كثير، ولا جمال دائم، ولا علم أكيد، إنما ما يضمنه هو نقاء السريرة حينما تهب ما تشاء، ولمن تشاء، ودونما تردد أو خجل مما قدمت، فإن كان على المقدم فهو إنسان عظيم يسعى دائمًا لأن يقتسم عنفوان الحياة مع الغير حتى يشعر بإنسانيته؛ لأنه من غير هذه الإنسانية يتجرد من لوازم الاحتكاك المفضي إلى الإحساس بالسعادة، والحق يقال ليس كل الناس تفهم قيمة العطاء، وليست كل القلوب تستقبل ذاك الخير بنشيد الثناء الإيجابي في أن التواصل واجب بين بني البشر.
أفتك من نفسي اللحظة إطراقة رأسي كيف أن حال الدنيا اليوم تغير، فأصبحت الأمور لا تؤخذ على سجيتها، وإنما تؤول بحسب ما يبغيه هوى النفس الشاعرة بمركب النقص، والذي من المفروض ألا يكون؛ لأن الإيمان والقناعة يلغيان كل شك أو عدم ارتياح؛ ولذلك لسنا نشعر أو نستشعر توازن المجتمع في ظل هذا التفاضل والتنافس غير المبرر، والذي أحيانًا أرى أنه ليس وقته أو ليس محله، خاصة حينما يكون الطرف المقابل من المنافسة هو إنسان طيب لا شأن له بأمور التنافس، وإن شاء نافس نفسه بنفسه حتى لا ينشغل بعيوب غيره، وحتى لا يفتح باب الفضول أو التطفل، وعليه نحن بحاجة إلى إعادة الكلمات إلى مصافها الحقيقي، والنوايا على مدارجها المرتبة من باب أولى عبر صمامات القلب الدقيقة في النبض، فإن كتبت مقالاً نابعًا من شعوري وإحساسي الصادق فهو ليس كنقل المقال لكاتب آخر حتى أُعبِّر عن شعوري بما عبر عنه هذا الكاتب، بسبب عجز في طريقة التعبير، أو عدم تمكن في جودة الكتابة، فشتان - إذًا - بين الإبداع بعناء الحرف والإحساس والصدق، وبين الإبداع بنقل وتواتر لما يطابق ما نشعر به؛ لذلك وجب إعطاء كل ذي حق حقه من الإتقان والتفوق، ولا نبخس الناس أشياءهم، وإلا لتشابه ضوء القمر مع ضوء النجوم، على الرغم من أنهما مصدر إنارة وهالة للإشراق حتى في ليل مظلم حالك، فنحن نشعر ونعبر وننقل ما نشعر به لغيرنا حتى نوقد شعلة العطاء من غير مقدمات أو مؤخرات فور انتهائنا من واجبنا تجاه أنفسنا بداية بتحريرها من إحساس العذاب والفتور، سواء أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا، ثم لغيرنا بنقل صدى الصدق لنتأكد أننا نعيش عيش الكرماء والسعداء، ومن لم يألفنا اليوم حتمًا سيتعود على رنة التآلف منا؛ لأننا لا نبغي إلا سلامًا ورحمة للجميع، وعبر رسالة الإبداع الندي بقطرات البصمة الصافية نُحيِّي كل من آزرنا في ضعفنا، وكفكف دموعنا في وحدتنا، وأضفى على خوفنا أنسًا ومواساة، فلسنا ننسى بالمرة من وقفوا إلى جنبنا يوم كنا نصارع الحقيقة، حيث أردناها أن تظهر في أقرب وقت ممكن، في حين أن المطلوب والمرغوب لا يتحققان في ومضة برق، بل كان لا بد لنا أن نربي أنفسنا على التحلي بالصبر، مهما طال أمده، وباجتياز الصعاب عن رضا، حيث لا يشوبه لوم أو ندم أو خسارة، فالعطاء يُمنح بتلقائية في الفعل، وبارتجالية في الكلام، حتى يدون في سجل القبول عند الغير، إن ما كان ممنوحًا عن ود سيتقبل من الغير عن ود، وإن كان ممنوحًا عن كدر فسيرفض في منتصف الطريق، بل يظله إلى غير صاحبه، هكذا هي حكمة الانطلاقة من خط التكرم، لا من خط الإيذاء أو التكبر، وللكل أمثلة عاشتها أنفسهم بتلون الطرق والمضامين، ليبقى أن ما ينبع من القلب يقينًا فسيصل إلى القلب، وعليه فلنحسن العطاء من غير قراءات مسبقة لما سيحدث في الغد؛ لأن حقيقة هذا العطاء ستظهر من غير انتظار منا، حيث لن نكون بانتظار ظهوره، فالنسيان نعمة تسيطر على عقولنا من كثرة البرامج والمشاغل، ولحظة العطاء لا تنظم إلى أجندة أوقاتنا المنظمة بمواعيد مدروسة مسبقًا، فهلا أدركنا الحكمة من الهدية من غير إهداء، وما أروعها من لقطة تكسر القيود، وتحيي القلوب، وتُصحي العقول، وتزين الفكر بأحلى ذكريات الهبة! كيف جاءت؟! ومن كان مرسولها؟! فحتى هذا المرسول يجب أن يكون على قدر من الوداعة والأمانة، ويا حبذا لو التزم التكتم، ولم يعرف بنفسه؛ لأن مراسيل الخير يلفهم طابع من الخفاء المستحسن، يزينه حسن المظهر، ويرتبه نسق الكلام المبدع بجواهر اللفظ الطيب، بدءًا بالسلام، وختامًا بالترحال إلى لقاء آخر، فيه الخير الوفير، والمستجد من أحداث اليوم والليلة، إن ما كان بالأمس ليس يشابهه ما سيكون في الغد، وحتى أقلامنا إن هي توقفت عن الكتابة تنوب مكانها أحاسيس متبادلة، وعن بعد هي في وصال الأرواح المجندة طابع آخر من عطاء طاهر وصافٍ ومقدم لوجه الله بداية، ومن ثم لحاجة الموقف أو الكِيان البشري؛ لذلك فنحن نكبر بعطائنا، وينتشر صيتنا بحسن أخلاقنا، نحن نتقدم بحضارة البناء المشيد بسواعد تعرف كيف تلتقي، وتُتْقِنُ فن اختيار الهدية من أجل بناء القلوب على التراحم والتوادِّ، ومن غير إهداء طبعًا، وذاك هو لب الروعة في هذا النوع من الهدايا، حينما يغلفها الكتمان، ويزينها سحر الاختيار لما تحبه وتفضله الشخصية المهدى لها، فلنحسن العطاء باختيارٍ أمثلَ للهدية، ومن غير إهداء، ولنترك صفحة الإهداء لمن سنتعرف عليه جديدًا في حياتنا؛ حتى نسهل له طريق الوصول إلى قلوبنا.