نهاية المهمة الصعبة
كان لجرأة التحدي عُنوان على ألسنة من قَبِلوا يومًا ما أن يخوضوا معاركَ وعرة، هم لم يبدؤوا في الجدال ولا في الملام، هم أناس أصفياء صفاء الماء الزلال من يَنبُوع الرحمة، هم أناس لم يكن لميلاهم أي داعٍ للقلق؛ لأن الميلاد كان لمولود من رحم الأحزان ليس إلا.
هم أناس طَبَعت البراءة خاتمَها على وجنتَي كلِّ واحدٍ منهم في أنهم مجبولون على الخير والجمال بفنيات من الهدوء واللا صخب، هم أناس عشقوا البُعد الإلهي في كل شيء، حتى في لوحاتهم التي رسموها بأنامل كانت تتفنَّن في الإبداع البريء، ليس به خداع ولا خديعة، ليس به ضباب ولا رياح الغضب، كل ما في الأمر أن هؤلاء الناس كَبِروا على درب صعْب، فمنذ الصغر وهم يتعارَكون مع الوقوف، فإما وقفة شامخة، وإلا سقوط أبدي، فراحوا يُصارِعون الفشلَ تِلو الفشل بعزيمة أن الوقوف باعتدال واجب بل فرْض، فقَبِلوا التحدي ولو عن كُرْه ومضض وكراهية منهم لعذاب الرُّوح، لكن المعركة هكذا، شرب العلقم بكأس السخرية، لكنهم قَبِلوا الرِّهان.
كان الصبر سلاحهم، والمصابرة جُهْدهم الإضافي حينما تنقطِع السُّبل بهم إلى آخر نقطة في بحر الرداءة وحبُّ التنكر والوقيعة، لكن التسبيح كان لغتهم بلحن اللامبالاة، ولو أن فيه مبالاة في حقيقة الأمر، لكنها المقاومة في أنْ لا شيء يُسقِط ثمن الانتصار إلى أبخس الأثمان، كان الجِد والمثابرة ثم الاستماتة في أنْ لا شيء يقدر عليهم، ولو أنه فيه هزيمة في الكواليس لرُوحٍ بكت وتَعذَّبت، لكنها كانت تُواصِل المسير، كانت الصلاة ملجأهم حينما يشعرون بعدائية الأهل والأصدقاء، فكان النوفل بالود وللود يُهدي ورود الألفة في أن قلوبهم لا تعرف الكره ولا الحقد ولا اليأس، ولو أنه فيه لحظات يأس من الميئوس منه، أيُّ معركة هذه وأي ترسانة حربيَّة تَقدِر على عدة مِثل هذه، لو لم تكن قَذِرة؟
هؤلاء الناس لم يفشلوا ولو أنهم تَعِبوا، لم يَمَلوا ولو أن سواعدهم كلَّت فملَّت، لم يَندَموا على الرغم من أنهم حرَموا أنفسهم حق العيش الرغيد في كَنَف الطبيعة الخالدة، طبيعة الأم والأب والإخوة.
هم فَهِموا لغزَ اللعبة بل المهمة القَذِرة في أنهم لو فتحوا مجرَّد فتحة وليس بابًا، لاخترق الهواء الملوث مجال حريَّتهم؛ ليصبحوا بعد ذلك أسرى للمهمة القذرة، ولأنهم كانوا ذوي هممٍ عالية، لم يعرفوا حقيقة همَّتهم إلا في نهاية المهمة.
هم أناس غرباء، وغرَّبهم الحظ إلى بعيد عن ضوضاء العيش الرغيد ونسمات الحضن الدافئ، هم أناس يَمشون وسط غيرهم من الناس، ولا يحملون أي شيء يدافع عنهم لو حدث مكروهٌ لهم (لا قدر الله)؛ لأنهم أرادوا من صدورهم دروعًا واقية تُكابِد وتُواجِه أعاصير التغريب والفرقة والوحدة والمرض، ماذا أيضًا فوق كلِّ هذه الأوصاف والحقائق لهؤلاء الصِّنف من الناس؟
هل تبحثون عن كنيتهم وأصلهم وجنسهم؟
لا داعي لمعرفة ذلك؛ لأن المستقبل سيجيب عن كلِّ تساؤلاتكم، فقط سيرتهم الذاتية ستُدفَن معهم؛ لأنهم صهروا الحديد ليصنعوا مجدَ هذه السيرة؛ لأنهم كانوا أناسًا دون تعريف دنيوي ولا مادي، كانوا من الاستقامة أقرب وأصلح وأقوم، كانوا من الجهاد أكبر من كلمة جهاد، كانوا من الشجاعة ألمع وأغلى، كانوا يضعون على رؤوسهم تيجان الكرامة بشموخ الإصرار والتأكيد على أن لا شيء يوضَع فوق رؤوسهم سوى ما تصنعه أيديهم الطاهرة طهارة رُوحهم العَذْبة، كانوا لا يضحكون بل يبتَسِمون ابتسامة أن الجنة عُنوان موعدهم، فسلَّموا لكل شيء؛ ولكنهم لم يستسلِموا، فشتان بين فَعل ويفعل على وزن التخيير في الأنسب والأجدر؛ لأنهم في بداية المعركة أقسموا أن يعيشوا ذاك العيش بتأكيد الولاء لله خير من تفاهة عيش منشطر بانشطار الأهواء.
في بداية المعركة أحبُّوا الصمودَ والتحدي حتى النهاية، لكنهم في خِتام العراك بكوا دموع حزن ممزوجة بمِسك الختام في أنه مِسك، لكن بعد ماذا؟
خسارة ثم فُرْقة، حرمان ثم ألم، غربة ثم تغريب.
لم تكن الضريبة سهلة ولا رخيصة، كانت غالية جدًّا، فهؤلاء الناس وبعد انتهاء المهمة القذرة، هم الآن في حَيرة: لمن يهدون نجاح الانتصار؟ نجاح الانتصار يفوق الكلمتين، أليس النجاح يُهدى للمحبِّين وللمشجعين؟ أم أنه من نوع النجاح الذي لا يهدى؟
لست ممن يحتكِر إهداء النجاح في كلِّ فرصة، لكن لا أستطيع أن أجيب على سؤال طرحته آثار المهمة القَذِرة في عزِّ نهايتها؛ لأنه بنهايتها انتهى كلُّ شيء بما في ذلك الملام والعتاب.
سلوا غيري ممن هم من صِنف هؤلاء الناس، ربما لديهم الجواب، وإن لم يكن، فخلُّوا السبيل سبيله؛ حتى تصحو الضمائر وتتنور البصائر؛ علَّ الجواب في حضن الربيع القادم بصفاء السماء وانقشاع الغيوم ليمتد عمرٌ جديدٌ، ثم ألم أقل: إن الانتصار يولد من رحِم الأحزان؟ إذًا لا داعي للسؤال.