أنور الجندي
جاء الإسلام حركة تحرر في مواجهة الغزو الخارجي وحركة عدل اجتماعي في مواجهة الاستغلال وحركة شورى في مواجهة الاستبداد وأخوة عالمية في مواجهة التفرقة العنصرية.
وفي الفتح الإسلامي حذر الالإسلام من الغدر:
’’لا تحرقن بيتاً ولا تعقرن شاة، ولا تقتلن وليداً ولا هرماً ولا امرأة’’.
وكان الرومان يبيدون كل عامر ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ. والإسلام أسبق شريعة قررت العدل الاجتماعي والشورى: لأنهم تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حول ولا قوة، حيث لا تشرع الحرية والمسئولية ضرورية لا محيص عنها كما شرعتها من قبلها حكومات الأقدمين، وفي مجلس يزدجرد سأل الامبراطور سفير المسلمين: ما الذي جاء بكن؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وأعظم عطاء الإسلام وذروة المعرفة فيه هي معرفة الله تبارك وتعالى ولذلك دعا الإسلام الإنسان إلى الفكر والذكر.
المعرفة بالله وأسمائه جل وعلا، ومعرفة عظمة ملكه المتمثلة في الطبيعة والكون ومعرفة عالم ما وراء المادة، والمعرفة بكتب الله ورسله واليوم الآخر.
والمعرفة طريق إلى الإيمان:
الإيمان: بقوة علوية تشرف على الإنسان من فوق وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الضعيف.
والدين هو الذي كون حاسة ’’الخوف من الله’’ وخشية الله بما وضعه من مقاييس للفضائل والرذائل وتعهد بها النفس الإنسانية بالتربية والتقويم.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة وعبادة صحيحة وكتاب منير ’’القرآن’’ وأسوة حسنة ’’الرسول’’ وشريعة عادلة وأخلاق إيجابية وتربية صالحة وجهاد في سبيل الله’’.
ولقد دعانا الحق تبارك وتعالى أن نتفكر في خلق الله لا في ذات الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ’’تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا’’.
إن المسلم يبحث في الكون وآفاقه ولكن لا يحاول أن يبحث في الجوهر. عليه أن يبحث في الخصائص ولا يبحث إطلاقاً عن الماهية، ذلك لأنه لا يملك أدوات البحث فالعقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحب في تطوافه إلى تلك الغاية قلباً يتلقى عنه مدركاته.
ولقد أرسى القرآن العظيم قواعد الإسلام على وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة النفس البشرية ووحدة الدين ووحدة الإنسانية ووحدة الكون ووحدة التشريع وحق الله تبارك وتعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته إنما تتمثل في طاعة أمره وتجنب نواهيه.
’’ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم’’.
إن الله تبارك وتعالى تكفل لمن يعتصم به أن يخرجه من كل ضائقة وكل أزمة ومن كل حيرة يقع فيها ’’ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب’’.
ومفهوم الإنسان الحق لاستخلاف الإنسان في الأرض وما له من إرادة محدودة يكون مسئولاً في حدودها يمكن الإنسان من إقامة الانسجام والوحدة والتوازن بينه وبين عناصر الكون كلها: من مجتمع وحياة وإنسان.
’’وإدراك المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الوجود كله وفق سنن ونواميس متفقة هو الذي وضع له هذا المنهج باعتباره أحد عناصر هذا الوجود يعطيه الثقة بأنه في نطاق هذا المنهج يمارس نشاطه مه حركة الوجود كله ووفق هذه الحركة بانسجام وتوافق لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل هذا المنهج فهو والحالة هذه ليس ريشة في مهب الريح ولا جرماً انفلت عن مداره ولا يدري حتى يصطدم بغيره’’.
وإيمان المسلم بأن له إرادة واختياراً تجعله آمناً من الوقوع تحت سلطان الجبر الذي يقع فيه الماديون فيقتل منزع الإرادة منهم ويعطيهم الجرأة على فعل المنكر ’’وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون’’.
ولو لم يكن للإنسان إرادة واختيار لما كان محلاً للتكليف ولا موضعاً للحساب والجزاء، ولما توجه إليه من الله تعالى أمر ونهي.
أقام الإسلام نظاماً متكاملاً شاملاً للنفس والمجتمع تتمثل مقاصده الأساسية في نقاط محددة، وأساس الإسلام أنه نظام دنيوي أخروي في آن واحد، لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ولا المجتمع عن الشريعة ولا الأخلاق عن الحياة.
وقد أحيا الإسلام عقيدة إبراهيم عليه السلام واعترف بجميع الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ونظم أمور المجتمع ووضع تعاليمه في صيغة كلية وأصول عامة متكاملة مترابطة متفاعلة لا يجوز تجزئتها أو الأخذ بفرع منها دون الآخر، وأقر نظام الأسرة بالزواج وأعلن حقوق الأسرة ورفع مكانة المرأة وأبطل الرق وأعلن الزكاة وجعلها حقاً للفقراء. وقرر الإسلام أن العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان علاقة مباشرة دون أي وساطة وأكد الإيمان بالله وحده لا شريك له والإيمان بالبعث والجزاء والحساب وجعل طلب العلم فريضة ودعا إلى النظر والتماس الدليل والبرهان وحث على تنمية المدارك.
وأقام الإسلام شرعة الجهاد ونظم مفهوم المال الذي هو مال الله الذي آتاكم، والإنسان مستخلف لتوجيهه إلى الخير وصالح الجماعة وفي سبيل الله.
وقد حرر الإسلام الإنسان من الوثنيات جميعاً: عبادة الأصنام والدنيا والأبطال والخرافات والأساطير وألغى التفرقة بين العناصر والتعصب للجنس ودعا إلى المساواة والإخاء ووفق بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم وأعلن احترام الملكية الفردية ووجهها إلى العمل النافع في مال الغني زكاة ودعا إلى التوفيق بين جانبي الإنسان وجانبي الحياة الروحي والمادي وأقام الإسلام الالتزام الأخلاقي وجعله مناط المسئولية والحساب.
وأقام قاعدة حرية الفكر، لا إكراه في الدين، وكفل لغير المسلمين حرية العقائد وحماية الأموال والتسامح.
وأطلق الإسلام العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الاعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة، واعترف بالنوازع البشرية وقرر حق الإنسان في مزاولتها ووضه له ضوابط ونظماً لتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهذب من مداخل هذه النوازع ومخارجها بحيث لا تؤذي الفرد نفسه ولا تسيء إلى المجتمع كذلك وعاد الإسلام إلى الوحدة العالمية وجعل من شعيرة الحج منطلقاً إلى التقاء الأجناس والعناصر، وأقام الإخاء العالي وقضى على كل تفرقة لونية أو عنصرية وشجب العنصرية القائمة على الدم والأنساب ومنع التفاضل بهما وجعل تقدير الناس بالأعمال.
أعلن القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى لم يرسل إلى البشرية طوال التاريخ البشري إلا ديناً واحداً هو الإسلام: أي إسلام الإنسان وجهه لله والحكم لله وكل الأنبياء الذين بعثهم الله في أقطار مختلفة وفي شعوب مختلفة في العالم ما جاءوا إلا بنداء التوحيد والإسلام، وقد غيرت التفسيرات من أصل الأديان وبدلت، وحرفتها عن جوهرها الأصيل حتى جاء الإسلام يدعو البشرية من جديد إلى هذا الدين الحق، وقد جعل الله تبارك وتعالى كتابه محفوظاً من حيث النص مهيمناً على الكتب وجعل الإسلام خاتم الأديان وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وفرض على كل من شهد الإسلام أن يؤمن به.
وقد جاءت بشاراته في الكتب السابقة وكان كثير من المؤمنين يترقبون ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وترهص الدلائل التي بين أيديهم ببعثه ومطلع رسالته. والمسلمون يؤمنون بجميع من جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من أنبياء ورسل وكتب وأن هذا الإيمان جزء أساسي من عقيدتهم لا يكمل إسلامهم بدونه وإن كانوا يتلقون الهداية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط لأن تعاليمه هي آخر التعاليم.
وكلام الله الذي بين دفتي المصحف هو كلام إلهي محض لم يمازجه شيء من كلام البشر، وهو محفوظ بلغته الأصلية ولغته هي إحدى اللغات الحية في العالم، ولم يطرأ أي تغير علىق واعدها ومبانيها ومعانيها وأساليبها ورسوم الكتابة بها.
وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والسلوك وما صدر عنه من الأقوال تم تدوينه وحفهظ بأصح ما يكون من الطرق وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بموجب عقيدتنا جاءت لجميع العالم ولسائر الأزمان.
إن نظرة عميقة مستفيضة إلى بعض الوقائع والأحداث في حياة الإسلام الأولى من خلال تاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أبعاداً عريضة للدعوة الإسلامية لم تكن واضحة وضوحاً كافياً حتى جاءت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام فألقت عليها ضوءاً كاشفاً. تعني هذه الوقائع ارتباط الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله بميراث النبوة كله: إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى يتجلى ذلك واضحاً في واقعة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلاته إماماً بالأنبياء جميعاً قبل عروجه إلى السموات العلا هذا الارتباط بميراث موسى وعيسى دليل على صدق نبوة محمد وأنه جاء خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الكتب ومهيمناً عليها، وقد تحقق ذلك بعد سنوات قليلة عندما فتح المسلمون بيت المقدس وعقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لسكان القدس العهدة العمرية.
كذلك فقد جاءت فريضة الحج لتربط المسلمين بدين إبراهيم عليه السلام الذي أقام القواعد من البيت وإسماعيل وأهدى إلى أهل التوحيد تلك المناسك في منى وعرفات والمزدلقة وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم ومن نسل إسماعيل وسجل القرآن ذلك تسجيلاً رائعاً.
’’إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي’’.
’’ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين’’.
وهكذا ارتبطت دعوة التوحيد بين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام وجاء هذا الارتباط واضحاً في كل دين جاء به الأنبياء إذ حمل إليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولقد ذكرت التوراة والإنجيل كلاهما هذه النبوءة وسجلتها تسجيلاً: ’’ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل’’ ولقد أبان سيدنا عيسى بن مريم رسول الله إلى بني إسرائيل هذا الارتباط: ’’ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد’’.
كل هذا يعطي مفهوماً واضحاً هو المسئولية الكاملة النهائية لكل ميراث النبوة والرسالة، والارتباط بين أنبياء الله ورسله على كلمة التوحيد يسلمها كل منهم إلى من بعده حتى تختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل الأمانة ولذلك نقلها الحق تبارك وتعالى إلى العرب: ’’قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء’’.
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل عن أنع دين رشد الإنسانية وأن البشرية قد تجاوزت طفولتها، فقد جاءت رسالة الإسلام معجزة بيان خالد باق إلى يوم القيامة هو القرآن الكريم الذي تحدى به الحق تبارك وتعالى العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو بآية واحدة، ولقد عجز البشر وما زالوا عاجزين إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها عن هذا التحدي.
ولقد جاء الإسلام ليفصل بين تاريخين للبشرية: تاريخ ما قبل الإسلام كله وهو تمهيد لنزول الإسلام، وتاريخ العالم منذ الإسلام، ومنذ أن بزغ ضوء الإسلام وهو عنصر فعال ومؤثر في كل حدث من أحداث البشرية على وجه الأرض.
وقد حرر الإسلام البشرية من الوثنية وعبودية الإنسان في حضارات الفراعنة والفرس والهنود واليونان والرومان وحرر هذه المنطقة العربية التي توالت عليها أمواج الهجرات من قلب الجزيرة العربية خلال أكثر من خمسة آلاف سنة متوالية حتى جاء الإسلام فوسدت له العروبة والعربية ذلك السفح الممتد من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا وسرعان ما استجابت هذه الأمة كلها لكلمة الله في سنوات قليلة ونسيت تاريخاً إغريقياً رومانياً امتد أكثر من ألف سنة من سوريا إلى إسبانيا عبر شمال أفريقيا، منذ فتح الإسكندر الأكبر.
وفي يوم فتح مكة رفض رسول الله قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة وقال: ’’اذهبوا فأنتم الطلقاء’’.
وأعلن الإسلام دعوة إنسانية عالمية تخاطب الناس جميعاً فالناس كلهم من ذكر وأنثى وعباد الله وخلقه وقد استخلفهم تبارك وتعالى في الأرض، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ومن آياته اختلاف ألسنتهم وألوانهم، والرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين ’’قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً’’.
وانداح المسلمون في أنحاء الأرض يعلنون كلمة الله ويقيمون دعوة الحق، ولا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يضعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها وهم كما يقول فتحي عثمان: مع سكان المدن المقيمين، والمهاجرين والوافدين سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.
ولقد واجه المسلمون النصر والهزيمة، انتصروا حين استمسكوا بكتاب الله تبارك وتعالى وحقه الذي بينه لهم وانهزموا حين تخلوا عنه ’’والحق تبارك وتعالى – كما يقول الأستاذ محمد قطب – حين يتعامل مع رسله وأنبيائه وأتباعهم من المؤمنين لا يتدخل من أجلهم فيخرق الناموس وينصرهم بالمشيئة على طريقة كن فيكون’’ وإنما يعودهم أن يكونوا أول الناس إيماناً بالقانون الاجتماعي وأكثرهم إدراكاً لسنن الحياة ونواميسها وأن يكونوا أحرص الناس على التوافق مع هذه السنن والنواميس فهو يبتلي رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب الناس ولا يتدخل بالمشيئة المباشرة ليعفيه من أعباء الجهاد في سبيل دعوته وإنما يذكره بقانون الحياة وسنة الصراع بين الحق والباطل:
’’ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين’’. ويبين الله تبارك وتعالى علاقة المشيئة الإلهية بقوانين المجتمع فيقول: ’’ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض’’.
ولقد كشف الباحثون المنصفون عن هذا الدور الخطير الذي قام به الإسلام في ’’تحضير’’ البشرية ورفعها إلى درجة الإنسانية فيقول إيربري: إن الإسلام لم يكد ينزل على محمد في قلب جزيرة العرب حتى بدأ يغزو العالم بسرعة أذهلت المفكرين المحللين للتاريخ. وقد حاول المؤرخون المحدثون تعليل هذه الانتصارات الواسعة والفتوحات العظيمة بردها إلى عوامل اقتصادية أو حربية أو سياسية ولكن كل تلك التفسيرات ظلت عاجزة عن التعليل الصحيح فكان لابد من الرجوع إلى العامل المؤثر وهو الدين الجديد.
’’إن بلاغة القرآن المعجزة مع بساطة تعاليم الإسلام التي جاءت في هذا الكتاب هي المفتاح لحل لغز أعظم ’’مد’’ في تاريخ الأديان ذلك أن الإسلام جاء يدعو إلى حياة منظمة جادة، حياة جماعة عاهدوا الهل أن يخضعوا لإرادته في كل أمر، وأن يجاهدوا في حمل كافة البشر على الإقرار بقدرته وملكوته.
حقاً، اختار محمد رسول الله الرفيق الأعلى، ولكن رسالته بقيت، حملها معهم المجاهدون إلى أطراف الأرض وكانوا جنداً وفي الوقت نفسه مبشرين بدعوة الدين الجديد. وأعلن أكثر من باحث غربي أن انتشار الإسلام كان أكبر خرقاً للعادة، يقول (م. روي) أن امبراطورية أغسطس الرومية بعد ما وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون ولكنها لا تساوي المملكة الإسلامية التي أسست في أقل من قرن. إن امبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسراً من كسور مملكة الخلفاء الواسعة. أن الامبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة ولكنها غلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات، وما تزال مسألة ’’لماذا انتصرت الجيوش الإسلامية القليلة العدد والعدة على الجيوش الضخمة’’ أكبر معضلة في تاريخ الإسلام وموضع دهشة الباحثين، حين استطاع بسرعة انتشاره المذهلة خلال فترة قصيرة أن يبسط جناحيه من حدود الصين إلى حدود فرنسا.
ويرجع ذلك في الرأي الأصدق إلى طبيعة العقيدة وجمعها بين الدنيا والآخرة والعقل والقلب وطابع العدل والرحمى والإخاء البشري وتحرير العقل الإنساني من الوثنية وتحرير الجسد البشري من العبودية.
فقد عرف الإسلام منذ يومه الأول بمرونته في مواجهة الحضارات والثقافات وإتاحة الفرصة لأهل البلاد في حكم أنفسهم، وحرية العبادة وعدم فرض العقيدة الإسلامية عليهم بالقوة، وكون الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه كان في مجمله منهج حياة ونظام مجتمع.
وقد أدى الإسلام دوراً حضارياً وثقافياً بالغ الخطورة خلال ألف سنة كاملة وإنساب إلى مختلف الثقافات والعقليات فمنها من تقبلته عقيدة ومنها من تقبلته ثقافة وحضارة، وهو الذي أنشأ بذرة الحضارة الحديثة حين قدم لها المنهج العلمي التجريبي.
لقد كانت الدولة وأصحاب الأديان يفرضون مذاهبهم وعقائدهم بالقوة، أما الإسلام فقد ترك لكل إنسان حريته في العبادة وأقام العدل وحمى معابد اليهود والنصارى ولم يحارب المسلمون أبداً في سبيل نشر الإسلام وإنما ردوا على عدوان من اعتدى عليهم أو وقف في طريق دعوتهم.
بماذا انتصر المسلمون؟
يقول ماكس مايرهوف في كتابه (العالم الإسلامي):
’’يكاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منقسمين إلى عشائر ليس عندهم العدد والأعتدة اللازمة يهزمون في هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا يفوتونهم في الأعداد والعتاد وكانوا يقاتلونهم في كتائب منظمة، أن القول بالمراس الذي عرفه العرب للحروب والقتال والنظم والانقياد العام للقيادة فيه مغالطة كبيرة، فقد ثبت أن الروم والفرس كانوا راقين في النظام الحربي، وقد بلغت الدولة البيزنطية في بداية القرن السابع المسيحي زهوها وأوج قوتها، ودحر الروم الفرس وردوهم على أعقابهم عام 625 قبل زحف المسلمين على الشام باثنتى عشرة سنة فقط، وقد وقف 24 ألف مسلم في وجه الروم الذين كانوا أكثر من مائة وثمانين ألفاً’’.
ونقول: لقد كان الإيمان هو الموازن لفرق الكفة من ناحية العدد والعدة، فقد كان المسلمون يدخلون معاركهم وقد آمنوا بأن الحرص على الموت يهب الحياة وكانوا يقدمون أنفسهم وأرواحهم لله خالصة.
ولقد كان المسلمون رحماء في فتوحهم كرماء مع خصومهم أيضاً.
أين هذا مما يقوله مؤرخ الحروب الصليبية حين يقول: ’’إذا كنت تريد أن تعرف المعاملة التي لقيها أعداؤنا في بيت المقدس فيكفي أن تعلم أن أصحابنا كانوا يخوضون في بحر من الدماء حتى الركب ولم يستطع أحد من الكفار (المسلمين) الخروج سالماً ولم نعف عن أحد حتى النساء والأطفال’’.
أين هذا الذي فعله المسلمون مما فعله فيليب الثاني بأمر البابا عندما أصدر أمراً يقضي بطرد جميع المسلمين من إسبانيا وقبل أن يتمكن المسلمون من الفرار والنجاة بأنفسهم تم القضاء على ثلاثة أرباعهم بأمر الكنيسة والذين استطاعوا النجاةة من الموت أصدرت في حقهم محاكم التفتيش أمراً بالإعدام ثم القضاء على ثلاثة ملايين مسلم دون مبرر.
ومع ذلك فقد أعطى المسلمون حضارتهم ولم يبخلوا: يقول المؤرخ الكبير هونشو: لقد خرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين فإذا هم جلوس تحت أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة، ولقد بهت أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التي رجحت حضارتهم رجحاناً لا تصح معه المقارنة بينهما.
وكان هناك جانب خفي على الغرب، هو أنهم لم يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً فقد استقى الغربيون معارفهم عن الإسلام من مصدرين (كما يقول أدوين كالفرلي) أحدهما يتمثل في الشائعات التي روجها بعض المحاربين والتجار الغربيين وغيرهم، وألا يتمثل في المعلومات التي أذاعها الغربيون القليلون الذين اطلعوا على القرآن وغيره من كتب الإسلام، وقد ذخرت الشائعات التي روجت عن الإسلام بأخطاء كثيرة ما زال بعضها راسخاً في أذهان كثير من الغربيين ومن بين هذه الأخطاء أن المسلمين يعبدون محمداً وليس عسيراً أن يتقبل الغربي هذه الفكرة فكما أن بعض المسيحيين يعبودون المسيح، فكذلك يظن بعض الغربيين أن المسلمين يعبدون محمداً مؤسس دينهم الذي يطلق عليه الغربيون لهذا السبب اسم ’’المحمدية’’.
وقد كانت هذه الفكرة شائعة في أوربا قبل حروب الصليبيين وأثناءها ثم زادت رسوخاً ورواجاً عند عودة الصليبيين من حروبهم فقد حاول الدعاة من رجال الدين وقادة الجيوش العائدة أن يثيروا في نفوس الجنود بغض المسلمين فأخذوا يروجون الإشاعات المضللة عن معتقدات المسلمين وتقاليدهم وفي مقدمتها أنهم يعبدون محمداً نبيهم ووجدت هذه الإشاعات مرعى خصباً بين أولئك الجنود فأخذوا يتناقلونها ويرددونها مع الزيادة فيها ولاسيما أن أكثرهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون حتى بلغتهم الأصلية، كما أنهم لم يختلطوا بالمسلمين ولم يكونوا يعرفون العربية، فلم يتح لهم أن يقرأوا أو يسمعوا شيئاً يذكر عن الإسلام والمسلمين، والعجيب أن هذه الفكرة الخاطئة ما زالت شائعة تجد الطريق ممهداً لترويجها ويروج كتاب (ماركوبولو) لهذه الفكرة الخاطئة بطريقة غير مباشرة. ففي الفصل الخامس منه يتحدث ماركوبولو عن العرب الذين يعبدون محمداً.
وهناك صحف غربية كثيرة لا تزال تقع في هذا الخطأ وتردده، وبعض المعاهد الغربية تلقن طلبتها هذه الفكرة ويرى أساتذها أن محاولة المسلم أن يطيع محمداً ويحاكيه في كل أفعاله ليس إلا عبادة في حين يقرر المسلمون جميعاً أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الهل وفي حين أن طاعة المسلمين لمحمد ليست إلا طاعة لله الواحد الأحد الذي دعاهم إلى عبادته.
ويصور برناردشو موقف الغرب من الإسلام فيقول: ’’لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصماً للمسيح أما أنا فأرى واجباً على أن يدعي محمد منقذ الإنسانية وأعتقد أن رجلاً مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته’’.
والواقع أن محمداً ودينه لم يكرها المسيح عليه السلام ولم يختصما معه بل آمنا به إيمانهم بكل أنبياء الله ورسله وكتبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فجمله وحسنه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فكان الناس يطوفون بالبيت ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم المرسلين’’.
ولقد أنكر الغرب وإلى زمن قريب في مدى أربعة قرون فضل المسلمين على الحضارة العالمية، أما المسلمون فأنهم قد اعترفوا بما أفادوا من تراث الأمم، هذا الذي غربلوه ونخلوه في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية فحسب أما في مجال الإنسانيات والعقائد وأسلوب العيش والأدب فإنهم لم يأخذوا من أحد واستهدوا فطرتهم وطبيعتهم وفي مجال العلوم استطاعوا أن ينشئوا المنهج العلمي التجريبي وكانوا منصفين دائماً لكل من عرفوا من علم واعترفوا بفضل من سبقهم في أي ميدان دون أن يجدوا في ذلك غضاضة، فقد علمهم دينهم: العدل والإنصاف من النفس وقد فعل الغرب ذلك كله ليصور المسلمين أمام أهليهم بصورة العاجزين عن الانبعاث مرة أخرى أو بصورة التابعين لحضارة العرب ورغبة في إحكام السيطرة والنفوذ على مقدراتهم، كما حاولوا إثارة الفتن القديمة والخلافات بين مختلف الوفود التي طويت مرة أخرى للتفريق بين المسلمين.
ومع ذلك فقد استعاد الإسلام وحدة الفكر من جديد وعرف أهداف الغزو والتغريب وقطع مراحل طويلة في التقدم الاجتماعي وفي التوسع السلمي فدخل بلاداً كثيرة وانتشر في مختلف القارات وأثلجت كلمة لا إله إلا الله ملايين الصدور التي كانت حائرة مضللة.
ووصف ذلك عدد من المؤرخين المنصفين فقال أحدهم أنه متى دخلت قبيلة من القبائل الوثنية في الإسلام اختفت عنها في الحال عبادة الشيطان وعبادة البشر وأكل لحم الإنسان وتقديم الضحايا البشرية وقتل الأولاد والسحر، وصاروا يرتدون الثياب وحلت فيهم النظافة وشعروا بالعظمة واحترام النفس وصار قرى الضيف عندهم من الواجبات الدينية وندر شرب المسكرات وحرم القمار والرقص المنافي للعفة وفوضى اختلاط الجنسين وصارت طهارة العرض من أعظم الفرائض وذهبت البطالة والكسل ودخل العمل والكد محلهما وتغلب النظام والرزانة على الشقاق وحرمت القسوة على الحيوان والعبيد، وتعلموا الشعور بالإنسانية واللطف والأخوة، وصدق الله العظيم إذ يقول:
’’أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها’’.
جاء الإسلام حركة تحرر في مواجهة الغزو الخارجي وحركة عدل اجتماعي في مواجهة الاستغلال وحركة شورى في مواجهة الاستبداد وأخوة عالمية في مواجهة التفرقة العنصرية.
وفي الفتح الإسلامي حذر الالإسلام من الغدر:
’’لا تحرقن بيتاً ولا تعقرن شاة، ولا تقتلن وليداً ولا هرماً ولا امرأة’’.
وكان الرومان يبيدون كل عامر ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ. والإسلام أسبق شريعة قررت العدل الاجتماعي والشورى: لأنهم تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حول ولا قوة، حيث لا تشرع الحرية والمسئولية ضرورية لا محيص عنها كما شرعتها من قبلها حكومات الأقدمين، وفي مجلس يزدجرد سأل الامبراطور سفير المسلمين: ما الذي جاء بكن؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وأعظم عطاء الإسلام وذروة المعرفة فيه هي معرفة الله تبارك وتعالى ولذلك دعا الإسلام الإنسان إلى الفكر والذكر.
المعرفة بالله وأسمائه جل وعلا، ومعرفة عظمة ملكه المتمثلة في الطبيعة والكون ومعرفة عالم ما وراء المادة، والمعرفة بكتب الله ورسله واليوم الآخر.
والمعرفة طريق إلى الإيمان:
الإيمان: بقوة علوية تشرف على الإنسان من فوق وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الضعيف.
والدين هو الذي كون حاسة ’’الخوف من الله’’ وخشية الله بما وضعه من مقاييس للفضائل والرذائل وتعهد بها النفس الإنسانية بالتربية والتقويم.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة وعبادة صحيحة وكتاب منير ’’القرآن’’ وأسوة حسنة ’’الرسول’’ وشريعة عادلة وأخلاق إيجابية وتربية صالحة وجهاد في سبيل الله’’.
ولقد دعانا الحق تبارك وتعالى أن نتفكر في خلق الله لا في ذات الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ’’تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا’’.
إن المسلم يبحث في الكون وآفاقه ولكن لا يحاول أن يبحث في الجوهر. عليه أن يبحث في الخصائص ولا يبحث إطلاقاً عن الماهية، ذلك لأنه لا يملك أدوات البحث فالعقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحب في تطوافه إلى تلك الغاية قلباً يتلقى عنه مدركاته.
ولقد أرسى القرآن العظيم قواعد الإسلام على وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة النفس البشرية ووحدة الدين ووحدة الإنسانية ووحدة الكون ووحدة التشريع وحق الله تبارك وتعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته إنما تتمثل في طاعة أمره وتجنب نواهيه.
’’ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم’’.
إن الله تبارك وتعالى تكفل لمن يعتصم به أن يخرجه من كل ضائقة وكل أزمة ومن كل حيرة يقع فيها ’’ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب’’.
ومفهوم الإنسان الحق لاستخلاف الإنسان في الأرض وما له من إرادة محدودة يكون مسئولاً في حدودها يمكن الإنسان من إقامة الانسجام والوحدة والتوازن بينه وبين عناصر الكون كلها: من مجتمع وحياة وإنسان.
’’وإدراك المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الوجود كله وفق سنن ونواميس متفقة هو الذي وضع له هذا المنهج باعتباره أحد عناصر هذا الوجود يعطيه الثقة بأنه في نطاق هذا المنهج يمارس نشاطه مه حركة الوجود كله ووفق هذه الحركة بانسجام وتوافق لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل هذا المنهج فهو والحالة هذه ليس ريشة في مهب الريح ولا جرماً انفلت عن مداره ولا يدري حتى يصطدم بغيره’’.
وإيمان المسلم بأن له إرادة واختياراً تجعله آمناً من الوقوع تحت سلطان الجبر الذي يقع فيه الماديون فيقتل منزع الإرادة منهم ويعطيهم الجرأة على فعل المنكر ’’وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون’’.
ولو لم يكن للإنسان إرادة واختيار لما كان محلاً للتكليف ولا موضعاً للحساب والجزاء، ولما توجه إليه من الله تعالى أمر ونهي.
أقام الإسلام نظاماً متكاملاً شاملاً للنفس والمجتمع تتمثل مقاصده الأساسية في نقاط محددة، وأساس الإسلام أنه نظام دنيوي أخروي في آن واحد، لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ولا المجتمع عن الشريعة ولا الأخلاق عن الحياة.
وقد أحيا الإسلام عقيدة إبراهيم عليه السلام واعترف بجميع الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ونظم أمور المجتمع ووضع تعاليمه في صيغة كلية وأصول عامة متكاملة مترابطة متفاعلة لا يجوز تجزئتها أو الأخذ بفرع منها دون الآخر، وأقر نظام الأسرة بالزواج وأعلن حقوق الأسرة ورفع مكانة المرأة وأبطل الرق وأعلن الزكاة وجعلها حقاً للفقراء. وقرر الإسلام أن العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان علاقة مباشرة دون أي وساطة وأكد الإيمان بالله وحده لا شريك له والإيمان بالبعث والجزاء والحساب وجعل طلب العلم فريضة ودعا إلى النظر والتماس الدليل والبرهان وحث على تنمية المدارك.
وأقام الإسلام شرعة الجهاد ونظم مفهوم المال الذي هو مال الله الذي آتاكم، والإنسان مستخلف لتوجيهه إلى الخير وصالح الجماعة وفي سبيل الله.
وقد حرر الإسلام الإنسان من الوثنيات جميعاً: عبادة الأصنام والدنيا والأبطال والخرافات والأساطير وألغى التفرقة بين العناصر والتعصب للجنس ودعا إلى المساواة والإخاء ووفق بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم وأعلن احترام الملكية الفردية ووجهها إلى العمل النافع في مال الغني زكاة ودعا إلى التوفيق بين جانبي الإنسان وجانبي الحياة الروحي والمادي وأقام الإسلام الالتزام الأخلاقي وجعله مناط المسئولية والحساب.
وأقام قاعدة حرية الفكر، لا إكراه في الدين، وكفل لغير المسلمين حرية العقائد وحماية الأموال والتسامح.
وأطلق الإسلام العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الاعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة، واعترف بالنوازع البشرية وقرر حق الإنسان في مزاولتها ووضه له ضوابط ونظماً لتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهذب من مداخل هذه النوازع ومخارجها بحيث لا تؤذي الفرد نفسه ولا تسيء إلى المجتمع كذلك وعاد الإسلام إلى الوحدة العالمية وجعل من شعيرة الحج منطلقاً إلى التقاء الأجناس والعناصر، وأقام الإخاء العالي وقضى على كل تفرقة لونية أو عنصرية وشجب العنصرية القائمة على الدم والأنساب ومنع التفاضل بهما وجعل تقدير الناس بالأعمال.
أعلن القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى لم يرسل إلى البشرية طوال التاريخ البشري إلا ديناً واحداً هو الإسلام: أي إسلام الإنسان وجهه لله والحكم لله وكل الأنبياء الذين بعثهم الله في أقطار مختلفة وفي شعوب مختلفة في العالم ما جاءوا إلا بنداء التوحيد والإسلام، وقد غيرت التفسيرات من أصل الأديان وبدلت، وحرفتها عن جوهرها الأصيل حتى جاء الإسلام يدعو البشرية من جديد إلى هذا الدين الحق، وقد جعل الله تبارك وتعالى كتابه محفوظاً من حيث النص مهيمناً على الكتب وجعل الإسلام خاتم الأديان وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وفرض على كل من شهد الإسلام أن يؤمن به.
وقد جاءت بشاراته في الكتب السابقة وكان كثير من المؤمنين يترقبون ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وترهص الدلائل التي بين أيديهم ببعثه ومطلع رسالته. والمسلمون يؤمنون بجميع من جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من أنبياء ورسل وكتب وأن هذا الإيمان جزء أساسي من عقيدتهم لا يكمل إسلامهم بدونه وإن كانوا يتلقون الهداية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط لأن تعاليمه هي آخر التعاليم.
وكلام الله الذي بين دفتي المصحف هو كلام إلهي محض لم يمازجه شيء من كلام البشر، وهو محفوظ بلغته الأصلية ولغته هي إحدى اللغات الحية في العالم، ولم يطرأ أي تغير علىق واعدها ومبانيها ومعانيها وأساليبها ورسوم الكتابة بها.
وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والسلوك وما صدر عنه من الأقوال تم تدوينه وحفهظ بأصح ما يكون من الطرق وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بموجب عقيدتنا جاءت لجميع العالم ولسائر الأزمان.
إن نظرة عميقة مستفيضة إلى بعض الوقائع والأحداث في حياة الإسلام الأولى من خلال تاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أبعاداً عريضة للدعوة الإسلامية لم تكن واضحة وضوحاً كافياً حتى جاءت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام فألقت عليها ضوءاً كاشفاً. تعني هذه الوقائع ارتباط الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله بميراث النبوة كله: إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى يتجلى ذلك واضحاً في واقعة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلاته إماماً بالأنبياء جميعاً قبل عروجه إلى السموات العلا هذا الارتباط بميراث موسى وعيسى دليل على صدق نبوة محمد وأنه جاء خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الكتب ومهيمناً عليها، وقد تحقق ذلك بعد سنوات قليلة عندما فتح المسلمون بيت المقدس وعقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لسكان القدس العهدة العمرية.
كذلك فقد جاءت فريضة الحج لتربط المسلمين بدين إبراهيم عليه السلام الذي أقام القواعد من البيت وإسماعيل وأهدى إلى أهل التوحيد تلك المناسك في منى وعرفات والمزدلقة وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم ومن نسل إسماعيل وسجل القرآن ذلك تسجيلاً رائعاً.
’’إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي’’.
’’ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين’’.
وهكذا ارتبطت دعوة التوحيد بين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام وجاء هذا الارتباط واضحاً في كل دين جاء به الأنبياء إذ حمل إليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولقد ذكرت التوراة والإنجيل كلاهما هذه النبوءة وسجلتها تسجيلاً: ’’ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل’’ ولقد أبان سيدنا عيسى بن مريم رسول الله إلى بني إسرائيل هذا الارتباط: ’’ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد’’.
كل هذا يعطي مفهوماً واضحاً هو المسئولية الكاملة النهائية لكل ميراث النبوة والرسالة، والارتباط بين أنبياء الله ورسله على كلمة التوحيد يسلمها كل منهم إلى من بعده حتى تختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل الأمانة ولذلك نقلها الحق تبارك وتعالى إلى العرب: ’’قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء’’.
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل عن أنع دين رشد الإنسانية وأن البشرية قد تجاوزت طفولتها، فقد جاءت رسالة الإسلام معجزة بيان خالد باق إلى يوم القيامة هو القرآن الكريم الذي تحدى به الحق تبارك وتعالى العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو بآية واحدة، ولقد عجز البشر وما زالوا عاجزين إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها عن هذا التحدي.
ولقد جاء الإسلام ليفصل بين تاريخين للبشرية: تاريخ ما قبل الإسلام كله وهو تمهيد لنزول الإسلام، وتاريخ العالم منذ الإسلام، ومنذ أن بزغ ضوء الإسلام وهو عنصر فعال ومؤثر في كل حدث من أحداث البشرية على وجه الأرض.
وقد حرر الإسلام البشرية من الوثنية وعبودية الإنسان في حضارات الفراعنة والفرس والهنود واليونان والرومان وحرر هذه المنطقة العربية التي توالت عليها أمواج الهجرات من قلب الجزيرة العربية خلال أكثر من خمسة آلاف سنة متوالية حتى جاء الإسلام فوسدت له العروبة والعربية ذلك السفح الممتد من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا وسرعان ما استجابت هذه الأمة كلها لكلمة الله في سنوات قليلة ونسيت تاريخاً إغريقياً رومانياً امتد أكثر من ألف سنة من سوريا إلى إسبانيا عبر شمال أفريقيا، منذ فتح الإسكندر الأكبر.
وفي يوم فتح مكة رفض رسول الله قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة وقال: ’’اذهبوا فأنتم الطلقاء’’.
وأعلن الإسلام دعوة إنسانية عالمية تخاطب الناس جميعاً فالناس كلهم من ذكر وأنثى وعباد الله وخلقه وقد استخلفهم تبارك وتعالى في الأرض، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ومن آياته اختلاف ألسنتهم وألوانهم، والرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين ’’قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً’’.
وانداح المسلمون في أنحاء الأرض يعلنون كلمة الله ويقيمون دعوة الحق، ولا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يضعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها وهم كما يقول فتحي عثمان: مع سكان المدن المقيمين، والمهاجرين والوافدين سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.
ولقد واجه المسلمون النصر والهزيمة، انتصروا حين استمسكوا بكتاب الله تبارك وتعالى وحقه الذي بينه لهم وانهزموا حين تخلوا عنه ’’والحق تبارك وتعالى – كما يقول الأستاذ محمد قطب – حين يتعامل مع رسله وأنبيائه وأتباعهم من المؤمنين لا يتدخل من أجلهم فيخرق الناموس وينصرهم بالمشيئة على طريقة كن فيكون’’ وإنما يعودهم أن يكونوا أول الناس إيماناً بالقانون الاجتماعي وأكثرهم إدراكاً لسنن الحياة ونواميسها وأن يكونوا أحرص الناس على التوافق مع هذه السنن والنواميس فهو يبتلي رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب الناس ولا يتدخل بالمشيئة المباشرة ليعفيه من أعباء الجهاد في سبيل دعوته وإنما يذكره بقانون الحياة وسنة الصراع بين الحق والباطل:
’’ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين’’. ويبين الله تبارك وتعالى علاقة المشيئة الإلهية بقوانين المجتمع فيقول: ’’ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض’’.
ولقد كشف الباحثون المنصفون عن هذا الدور الخطير الذي قام به الإسلام في ’’تحضير’’ البشرية ورفعها إلى درجة الإنسانية فيقول إيربري: إن الإسلام لم يكد ينزل على محمد في قلب جزيرة العرب حتى بدأ يغزو العالم بسرعة أذهلت المفكرين المحللين للتاريخ. وقد حاول المؤرخون المحدثون تعليل هذه الانتصارات الواسعة والفتوحات العظيمة بردها إلى عوامل اقتصادية أو حربية أو سياسية ولكن كل تلك التفسيرات ظلت عاجزة عن التعليل الصحيح فكان لابد من الرجوع إلى العامل المؤثر وهو الدين الجديد.
’’إن بلاغة القرآن المعجزة مع بساطة تعاليم الإسلام التي جاءت في هذا الكتاب هي المفتاح لحل لغز أعظم ’’مد’’ في تاريخ الأديان ذلك أن الإسلام جاء يدعو إلى حياة منظمة جادة، حياة جماعة عاهدوا الهل أن يخضعوا لإرادته في كل أمر، وأن يجاهدوا في حمل كافة البشر على الإقرار بقدرته وملكوته.
حقاً، اختار محمد رسول الله الرفيق الأعلى، ولكن رسالته بقيت، حملها معهم المجاهدون إلى أطراف الأرض وكانوا جنداً وفي الوقت نفسه مبشرين بدعوة الدين الجديد. وأعلن أكثر من باحث غربي أن انتشار الإسلام كان أكبر خرقاً للعادة، يقول (م. روي) أن امبراطورية أغسطس الرومية بعد ما وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون ولكنها لا تساوي المملكة الإسلامية التي أسست في أقل من قرن. إن امبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسراً من كسور مملكة الخلفاء الواسعة. أن الامبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة ولكنها غلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات، وما تزال مسألة ’’لماذا انتصرت الجيوش الإسلامية القليلة العدد والعدة على الجيوش الضخمة’’ أكبر معضلة في تاريخ الإسلام وموضع دهشة الباحثين، حين استطاع بسرعة انتشاره المذهلة خلال فترة قصيرة أن يبسط جناحيه من حدود الصين إلى حدود فرنسا.
ويرجع ذلك في الرأي الأصدق إلى طبيعة العقيدة وجمعها بين الدنيا والآخرة والعقل والقلب وطابع العدل والرحمى والإخاء البشري وتحرير العقل الإنساني من الوثنية وتحرير الجسد البشري من العبودية.
فقد عرف الإسلام منذ يومه الأول بمرونته في مواجهة الحضارات والثقافات وإتاحة الفرصة لأهل البلاد في حكم أنفسهم، وحرية العبادة وعدم فرض العقيدة الإسلامية عليهم بالقوة، وكون الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه كان في مجمله منهج حياة ونظام مجتمع.
وقد أدى الإسلام دوراً حضارياً وثقافياً بالغ الخطورة خلال ألف سنة كاملة وإنساب إلى مختلف الثقافات والعقليات فمنها من تقبلته عقيدة ومنها من تقبلته ثقافة وحضارة، وهو الذي أنشأ بذرة الحضارة الحديثة حين قدم لها المنهج العلمي التجريبي.
لقد كانت الدولة وأصحاب الأديان يفرضون مذاهبهم وعقائدهم بالقوة، أما الإسلام فقد ترك لكل إنسان حريته في العبادة وأقام العدل وحمى معابد اليهود والنصارى ولم يحارب المسلمون أبداً في سبيل نشر الإسلام وإنما ردوا على عدوان من اعتدى عليهم أو وقف في طريق دعوتهم.
بماذا انتصر المسلمون؟
يقول ماكس مايرهوف في كتابه (العالم الإسلامي):
’’يكاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منقسمين إلى عشائر ليس عندهم العدد والأعتدة اللازمة يهزمون في هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا يفوتونهم في الأعداد والعتاد وكانوا يقاتلونهم في كتائب منظمة، أن القول بالمراس الذي عرفه العرب للحروب والقتال والنظم والانقياد العام للقيادة فيه مغالطة كبيرة، فقد ثبت أن الروم والفرس كانوا راقين في النظام الحربي، وقد بلغت الدولة البيزنطية في بداية القرن السابع المسيحي زهوها وأوج قوتها، ودحر الروم الفرس وردوهم على أعقابهم عام 625 قبل زحف المسلمين على الشام باثنتى عشرة سنة فقط، وقد وقف 24 ألف مسلم في وجه الروم الذين كانوا أكثر من مائة وثمانين ألفاً’’.
ونقول: لقد كان الإيمان هو الموازن لفرق الكفة من ناحية العدد والعدة، فقد كان المسلمون يدخلون معاركهم وقد آمنوا بأن الحرص على الموت يهب الحياة وكانوا يقدمون أنفسهم وأرواحهم لله خالصة.
ولقد كان المسلمون رحماء في فتوحهم كرماء مع خصومهم أيضاً.
أين هذا مما يقوله مؤرخ الحروب الصليبية حين يقول: ’’إذا كنت تريد أن تعرف المعاملة التي لقيها أعداؤنا في بيت المقدس فيكفي أن تعلم أن أصحابنا كانوا يخوضون في بحر من الدماء حتى الركب ولم يستطع أحد من الكفار (المسلمين) الخروج سالماً ولم نعف عن أحد حتى النساء والأطفال’’.
أين هذا الذي فعله المسلمون مما فعله فيليب الثاني بأمر البابا عندما أصدر أمراً يقضي بطرد جميع المسلمين من إسبانيا وقبل أن يتمكن المسلمون من الفرار والنجاة بأنفسهم تم القضاء على ثلاثة أرباعهم بأمر الكنيسة والذين استطاعوا النجاةة من الموت أصدرت في حقهم محاكم التفتيش أمراً بالإعدام ثم القضاء على ثلاثة ملايين مسلم دون مبرر.
ومع ذلك فقد أعطى المسلمون حضارتهم ولم يبخلوا: يقول المؤرخ الكبير هونشو: لقد خرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين فإذا هم جلوس تحت أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة، ولقد بهت أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التي رجحت حضارتهم رجحاناً لا تصح معه المقارنة بينهما.
وكان هناك جانب خفي على الغرب، هو أنهم لم يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً فقد استقى الغربيون معارفهم عن الإسلام من مصدرين (كما يقول أدوين كالفرلي) أحدهما يتمثل في الشائعات التي روجها بعض المحاربين والتجار الغربيين وغيرهم، وألا يتمثل في المعلومات التي أذاعها الغربيون القليلون الذين اطلعوا على القرآن وغيره من كتب الإسلام، وقد ذخرت الشائعات التي روجت عن الإسلام بأخطاء كثيرة ما زال بعضها راسخاً في أذهان كثير من الغربيين ومن بين هذه الأخطاء أن المسلمين يعبدون محمداً وليس عسيراً أن يتقبل الغربي هذه الفكرة فكما أن بعض المسيحيين يعبودون المسيح، فكذلك يظن بعض الغربيين أن المسلمين يعبدون محمداً مؤسس دينهم الذي يطلق عليه الغربيون لهذا السبب اسم ’’المحمدية’’.
وقد كانت هذه الفكرة شائعة في أوربا قبل حروب الصليبيين وأثناءها ثم زادت رسوخاً ورواجاً عند عودة الصليبيين من حروبهم فقد حاول الدعاة من رجال الدين وقادة الجيوش العائدة أن يثيروا في نفوس الجنود بغض المسلمين فأخذوا يروجون الإشاعات المضللة عن معتقدات المسلمين وتقاليدهم وفي مقدمتها أنهم يعبدون محمداً نبيهم ووجدت هذه الإشاعات مرعى خصباً بين أولئك الجنود فأخذوا يتناقلونها ويرددونها مع الزيادة فيها ولاسيما أن أكثرهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون حتى بلغتهم الأصلية، كما أنهم لم يختلطوا بالمسلمين ولم يكونوا يعرفون العربية، فلم يتح لهم أن يقرأوا أو يسمعوا شيئاً يذكر عن الإسلام والمسلمين، والعجيب أن هذه الفكرة الخاطئة ما زالت شائعة تجد الطريق ممهداً لترويجها ويروج كتاب (ماركوبولو) لهذه الفكرة الخاطئة بطريقة غير مباشرة. ففي الفصل الخامس منه يتحدث ماركوبولو عن العرب الذين يعبدون محمداً.
وهناك صحف غربية كثيرة لا تزال تقع في هذا الخطأ وتردده، وبعض المعاهد الغربية تلقن طلبتها هذه الفكرة ويرى أساتذها أن محاولة المسلم أن يطيع محمداً ويحاكيه في كل أفعاله ليس إلا عبادة في حين يقرر المسلمون جميعاً أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الهل وفي حين أن طاعة المسلمين لمحمد ليست إلا طاعة لله الواحد الأحد الذي دعاهم إلى عبادته.
ويصور برناردشو موقف الغرب من الإسلام فيقول: ’’لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصماً للمسيح أما أنا فأرى واجباً على أن يدعي محمد منقذ الإنسانية وأعتقد أن رجلاً مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته’’.
والواقع أن محمداً ودينه لم يكرها المسيح عليه السلام ولم يختصما معه بل آمنا به إيمانهم بكل أنبياء الله ورسله وكتبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فجمله وحسنه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فكان الناس يطوفون بالبيت ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم المرسلين’’.
ولقد أنكر الغرب وإلى زمن قريب في مدى أربعة قرون فضل المسلمين على الحضارة العالمية، أما المسلمون فأنهم قد اعترفوا بما أفادوا من تراث الأمم، هذا الذي غربلوه ونخلوه في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية فحسب أما في مجال الإنسانيات والعقائد وأسلوب العيش والأدب فإنهم لم يأخذوا من أحد واستهدوا فطرتهم وطبيعتهم وفي مجال العلوم استطاعوا أن ينشئوا المنهج العلمي التجريبي وكانوا منصفين دائماً لكل من عرفوا من علم واعترفوا بفضل من سبقهم في أي ميدان دون أن يجدوا في ذلك غضاضة، فقد علمهم دينهم: العدل والإنصاف من النفس وقد فعل الغرب ذلك كله ليصور المسلمين أمام أهليهم بصورة العاجزين عن الانبعاث مرة أخرى أو بصورة التابعين لحضارة العرب ورغبة في إحكام السيطرة والنفوذ على مقدراتهم، كما حاولوا إثارة الفتن القديمة والخلافات بين مختلف الوفود التي طويت مرة أخرى للتفريق بين المسلمين.
ومع ذلك فقد استعاد الإسلام وحدة الفكر من جديد وعرف أهداف الغزو والتغريب وقطع مراحل طويلة في التقدم الاجتماعي وفي التوسع السلمي فدخل بلاداً كثيرة وانتشر في مختلف القارات وأثلجت كلمة لا إله إلا الله ملايين الصدور التي كانت حائرة مضللة.
ووصف ذلك عدد من المؤرخين المنصفين فقال أحدهم أنه متى دخلت قبيلة من القبائل الوثنية في الإسلام اختفت عنها في الحال عبادة الشيطان وعبادة البشر وأكل لحم الإنسان وتقديم الضحايا البشرية وقتل الأولاد والسحر، وصاروا يرتدون الثياب وحلت فيهم النظافة وشعروا بالعظمة واحترام النفس وصار قرى الضيف عندهم من الواجبات الدينية وندر شرب المسكرات وحرم القمار والرقص المنافي للعفة وفوضى اختلاط الجنسين وصارت طهارة العرض من أعظم الفرائض وذهبت البطالة والكسل ودخل العمل والكد محلهما وتغلب النظام والرزانة على الشقاق وحرمت القسوة على الحيوان والعبيد، وتعلموا الشعور بالإنسانية واللطف والأخوة، وصدق الله العظيم إذ يقول:
’’أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها’’.