سوريا وصراع الجمال
في ظلام كل أمة مأساة وأدت أحلام أبنائها، وفي كنف كل أم إحساس بالظلم حينما استشهد الابن والأب، وفي متنزه كل أرض دماء سالت وترقرقت وجف بريقها حينما غاب الأمل عن تلك الأوطان، كثيرًا ما سمع أهل تلك الأمم وعودًا وحكايات عن الخلاص، فارتقبوا النصر بالقرب من سهول جبالها الشامخة، ولكنه كان مجرد صدى يتردد صوته كلما تشرد طفل أو بكت عجوز أو جف نهر جارٍ كان بالأمس نبعًا صافيًا يرتوي منه العطشان والشبعان، هي الدموع من جفت ولم يعد فيه بكاء أو عويل.
سكت صوت الرصاص ولم يعد فيه لا دخان ولا ضباب، فالكل راضٍ بما هو فيه من حصار.
إن غاب الظل أو هاجر الطير أو ارتحل الصدق فذاك المعتاد في زمن بدا فيه الخسيس مفضلاً، فإن كانت لأحكام القضاء ضمائر تلت موتًا مرتبًا من غير شواهد فتلك علامة أن الفوضى عمت في تلك الأمم، حتى بديع السنين اختلط بلحظات اليأس والكتمان، فلم يتبقَّ سوى مشاهد الكلمة المرة، أما عشق الحق من الصغر فقد أضحى حبًّا للكتمان؛ لأنه أرحم من نفض الحر لغبار القهر أزمانًا عدة.
عذرًا لأوطان في سكون الليل المسجَّى بنوبات العذاب، وعذرًا لمن لحن لها ألحان الحرية وسرقت منه روحه في وطن الشام الأصيل الملون بغبار الخراب، حزن ودم وشقاء في كل شبر من سوريا.
فلا تخطئوا وترددوا سيرة وطن، فالروح مسروقة من ديارها منذ زمن، والعقول فقدت صوابها منذ قرن بفكر أعلن صمته عن أي رأي.
أما نحن فإننا نكتب الكثير من الحروف، ونرتب بعضها على حساب الآخر، لا لأن فيها الكلام البليغ وإنما دموعنا هي من تختارها للتصبر بما حدث فيسوريا بعطر الشاميات فوق سطور كتبنهن وهن يبنين أحلام شهيدات في أحلامهن الموعودة.
نرتل الكثير من الآيات وفينا كل اليقين أن النصر قريب، فذاك ما استطعنا أن نواسيك به يا شام بعد أن سكنت للألم واكتفيت برحمته في ظل غياب مدد الأمم لك.
لسنا نردد الجرح فيك بقدر ما تردد فينا الصدى ليسكن الخجل أنفسنا ونحن بعدُ لم نفهم أن كره البنادق كان أقوى من جمالك وحضارتك وصمتك، لكنه الظلم حينما يمتد ويتجبر إلى آخر شبر من أرضك.
النصر نصر الله فاعذِرينا لأننا سكتنا منذ أزل، النصر نصر الله فهو القادر على خلاصك، النصر نصر الله فلا أحد يقدر أن يتخطى حدودك ليرى دموع خريطتك جمدت في عيون العرب، قد يكون ذاك قرارًا وقد يكون فرارًا، اجعلي لنا من صمودك ألمًا يحس به كل من لم يذق ويلات الحرب، لكن ابقي جميلة يا شام ولو بالألم، فالجمال ليس يرضى بفراقك في أشد المحن، فمن الجمال ما مسح انتفاضة الغدر بلمسة انتظام، ويكفي أن ابتسامة أطفالك الساكنة تقتل كبرياء كل رجل لم يعرف بعدُ أرض الشام وأهلها.
إن رسائل الأحباب للشام تصل القلوب الرحيمة والمتألمة لتبث في شكواها مزيدًا من الصدق أن الله هو الناصر، وأن الشام لها الله في حزنها، فلقد كتبت تلك الرسائل بشوق للارتياح بعد دخان كثيف غيَّم على سماء سوريا لفتة ونظرة وصرحًا آخر من الظلام، لكن صدق النوايا يميزه التطلع الصادق لذاك اليوم السعيد، يوم لا تكون فيه الشام جريحة فقط؛ بل في رفق الألم برحمة تبعث فيها شموخًا جديدًا يسقط عنها كل الأقنعة، ويلفها بحلية جديدة تكسوها من برد الشتاء وغدر الرصاص وخراب الديار، فكم يلزم لذاك اليوم من استعداد وتحضير؟ ربما تحف النجاة والسكون هي من يسبق القول والنظرة والفعل، إنها حضارتك الباقية يا شام بعد أن تأخذي حريتك، ولن يكبل جمالك أحد بعد ذاك اليوم القريب إن شاء الله.
وسيكون لقاء شهدائك مرموقًا عند صاحب العزة، فإن كانت الحياة تتسع لنشبع من وصال بعضنا البعض، فإن الصمت في هذه الليلة هو موعد خلاصك من كل القيود، ولن تري فيه ألمًا أو عذابًا، فقد فهمنا ما عنيتِ لنا يا شام من معانٍ وزدتِنا يقينًا أنك على حق، وإن كانت بعض الأوطان منشغلة عنك اليوم فإن الغد ستشغلينهم بسحر نجاتك، وتصبحين حديث كل من خرس في ضعفك، حتى الباطل لن يتكلم حديثًا عنك بعد نصرك؛ لأن ظلامه سيتبدد ويقبر سدوله إلى غير رجعة.
الآن البسي رداءك يا شام بكل رحمة من ألم، واسكني بالقرب من سهولك ووديانك وجبالك وشجعي أبناءك حتى لا ينكسر فيهم الأمل للأبد، فأنت من يرفع الصرح أو يسقطه.
تشجعي وتمالكي في ضعفك؛ لأنه لن يدوم فيك، وحتى إن ظننت أنه سيدوم وحده الله من سينصرك.
ما أروعها من همة! وما أزكاها من أمة! ولو أننا لم نرتوِ من النظر إلى جمالك الساحر بسبب الحرب والدمار، لكنك ستظلين رغم الحصار والألم، سوريا حبيبتي.