مجرد إرهاصات يا مصر
سرَّني إصرارك يا مصر ولم يكن مَحقور الخيال، يا أم الدنيا، أضرت بك الأيام حتى بالكاد أسترجع قوَّتي وأنت تتألمين من نكسة جديدة، لستُ أغيب عن مشهد مواساتك حتى لو بغوا لك للظلامة مركبًا، قالوا وأرادوا وفعلوا ثم ناوَروا، لكني قلت في صمتي: يا رب احفظ مصر، وفعلتُ في صلاتي مثلما يفعل محتاج متذلل للرحمن طلبًا للنصرة، وناورت في ضعفي أن أستعيد نشاطي رويدًا رويدًا وأرقُب فيك عودة صريحة لمَملكتك، مملكة الحق والبناء المجيد، بيني وبينك رباط صداقة متين، وعليَّ واجب الحفاظ على هذا الرابط ولو بأضعف الإيمان، تشجعي يا مصر واتركيني أستعيد وقفة منتظمة الرؤى، ألم نتفق أنا وأنت على الصبر لدرجة المصابرة حتى نَنتصر، فكفكفي دموعك حتى أبدع في مواساتي لك، وإن كنت لا تحتاجين هذه الوقفة، بل أنت مَن يمنحنا تهنئة أنك في تمام التمام مهما كادوا لك.
أعرِفُ أن الدهر قد ألقى بحمله كلِّه عليك، وأفهم أنَّ موقعك سلب العقول المخطِّطة لتَشتيتِ شَملِك، لكن يروق لي وأنا مطمئنة أنك صبور، فإن احتجْنا إليك ضممتِنا، وإن انصرفنا عنك دعوتِنا، فيكِ كرم اللقاء وحزن الألم مُزجا، فيك حضارة جديدة أُسمِّيها مصر الحزينة المتفائلة، طيبة أنت، ولستُ أهديك إلا طيبًا فمنك انبعثت نسائم أغنتْنا عن قطرات الندى اللامعة في أفق بيوتنا، فهل لك مثيل يا صامدة.
عطفت عبر مُنعرَج شديد الانحناءة، وفهمتُ أنَّ الأقوام لا تحصل على أغلى الفضائل إلا بتعب وكدٍّ وتذوُّق لمرار الألم، ولهذا كان لك حقوق يا مصر جاوزت حد القرابة للنسيب الأقرب، فإن كان أخيار الناس هم من يألفهم الناس فإنك يا مصر أشد ملازمة لأبنائك، فإن كانت جزائري ساكنة في عمق قلبي فإنك يا مصر شقيقة بلدي كالتوءم، والمحبُّ لك تَبنين له قَصْر الهمَّة، وإن اعتذر منك أحدٌ لقلَّة حيلة فإنك أوسع الصفح عن عذر بثقة أن مَن أحبَّك سيظل كذلك مهما اشتدَّت المِحَن عليك.
لم نَلتقِ معًا مرة أو مرتين، بل جدّدنا العهد لأكثر من مرة على مر الزمن، فسبحان من خصَّك بالأمان في كتابه، سبحان من جعلك في العصور السابقة ملاذ الأنبياء، لك هذه المكانة فهي تكفيك أن تصبري من جديد، وكلها أيام أو شهور وتمر مِحنَتُك لتتحوَّل إلى مِنحة، ويقين ستتحول إلى فرح وفرج وتيسير بإذن الله، ستتزينين قريبا بأحلى زينة من حواليك لأنك جميلة، ولو لم تكوني كذلك لما حدث ما حدث على أرضك، وإلا فهل يَطلب العطشان ماءً من أرض السراب الجافية؟ غنية أنت، ومفخَرة للجميع من كل من يتطلع إلى تحرير القدس، فأنت المعبر والبوابة والمفتاح، ولا يهمك لأن الأمر كله ما هو إلا فترة فيها إرهاصات هي آيلة لانقشاع الضباب عنك، فصبرٌ جميلٌ والله المستعان يا حبيبة!
بعد أن اطمأننت عليك، سأرسل رسالتي القادمة إلى سوريا، والبقية تأتي تباعًا حتى لا نُقصِّر في حق الغير، ممن تربطنا بهم صلة هوية وانتماء ولغة ومصير.. يا رب احفظ كل بلاد الإسلام والمسلمين.
