مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/08/02 13:17
الأستاذ الدكتور محمد عامر...حجة الله على الأساتذة!
الأستاذ الدكتور محمد عامر...حجة الله على الأساتذة!
د.محمد إبراهيم العشماوي 
الأستاذ في جامعة الأزهر 
 
هو شيخنا وأستاذنا وسيدنا وقدوتنا في طريق الله، علم الجهابذة، وحجة الله على الأساتذة، العالم العامل بعلمه، الورع الزاهد في حظه وغنمه، الفائق الحد في جوده وكرمه، العلامة الفقيه المجتهد محقق المذهب الشافعي، الشبراملسي الصغير - وأصله منها - الأستاذ الدكتور محمد سيد أحمد عامر، أحد الأعلام!
تربى - رحمه الله - في حجر الصالحين، والعلماء العاملين، وكان من أخص تلامذة شيخنا العارف بالله الشيخ أحمد أبي الذهب، وهو بلديه، ومن أقران شيخنا الخطيب!
ولم يزل يتعهده بالتربية الصالحة حتى نشأ نشأة الأولياء، ولما دنا أجله، أرسله إلى شيخنا الخطيب، فأتم الله عليه نعمته بمعرفته والأخذ عنه!
وقد حكى لي أنه مرض وهو صغير مرضا يئسوا منه، حتى كانوا ينتظرون موته، وبينما هو نائم يئن في مرضه إذ رأى جماعة من الصالحين يلبسون لباس الأطباء، وفيهم واحد مشرق الوجه جميل المحيا، فأخذوا يتشاورون في أمره: هل يعيش أم يموت؟ فقال لهم الرجل: بل يعيش!
وظلت الرؤيا عالقة بذهنه حتى كبر، وأرسله الشيخ أبو الذهب إلى الشيخ الخطيب، فلما رآه إذا هو صاحب الوجه الذي أتاه في الرؤيا وهو صغير مريض، فلم يزل ملازما له حتى مات!
وكان الشيخ - رحمه الله - زاهدا في الدنيا أشد الزهد، ورعا أشد الورع، حتى كان لا يؤلف كتابا جامعيا ليبيعه للطلاب، كما كان يفعل كثير من زملائه، ولكن كان يدرس من كتب التراث، واشتهر بتدريس حاشتي(قليوبي وعميرة) في الفقه الشافعي!
وقال لي: إن السبب في هذا أن شيخه أبا الذهب قال له: أتبيعون العلم للطلاب يا شيخ محمد؟!
علموا مجانا، كما علمتم مجانا!
وكان يقول لي: الفلوس التي تأتي من بيع الكتاب الجامعي لا بركة فيها، وأما فلوس الإعارة ففيها البركة؛ لأنها تأتي بحق!
وحين اتفقت الأقسام العلمية على ضرورة تأليف الكتب؛ اضطر إلى تأليف كتاب، وكان مقررا علينا، وكان موضوعه فقه الربا، وظل يعتذر لنا عن بيع كتابه، وكأنه سيفعل شيئا عظيما لم يفعله من قبل، ومع هذا كان كتابه أرخص كتاب في الجامعة الأزهرية رغم نفاسته، إذ كان يبيعه بأربعة جنيهات للنسخة، وقد أعطاني عدة نسخ وقتها، وقال لي:  هذه نسخ مجانية لمن لا يقدر على شراء الكتاب من زملائك الطلاب!
ثم لقيني بعدها فقال لي: لقد جاءت جميع الدفعة إلي في المكتب، فأعطيتهم الكتاب مجانا، واستحييت منهم، وكرهت أن أردهم، وغرمت ثمن الكتاب!
وحدثني فضيلة المفتي الدكتور شوقي علام - ثم بكى - أنه كان مسؤولا عن صندوق الكتاب، فكان إذا أعطاه حصته من التوزيع، وكان مبلغا بسيطا نحو ألفي جنيه؛ مكث قرابة نصف ساعة يتعلل ويعتذر عن أخذها، ويقول: هذه أموال ضرورة، ولولا الضرورة ما أخذناها!
وكان يخبر أنه يستدين في آخر الشهر!
فلما أحيل إلى التقاعد رفض أن يأخذ أموال الكتب تماما، وقال: أستحي من الله أن آخذها وأنا في تلك السن!
ومن ورعه أنه أهدى مكتبته قبل موته إلى بلده، للنفع العام، وأوصى أولاده أن تخرج قبل موته، فلما قالوا له: نؤجلها لبعد غد؛ قال: ستكونون مشغولين في هذا اليوم!
وقد كان ذلك يوم موته، فكانت هذه كرامة له!
وكان يقول: إن هذه المكتبة اشتريتها من راتبي، وراتبي من المال العام، فلا بد أن تعود إلى النفع العام!
وأخبرني ولده المبارك السيد (أحمد) أنهم قالوا له قبل موته: ألا ندعوا لك طبيبا؟
فقال: لا، انتهت!
وتوقفت ساعته قبل موته بيومين، فقال لأهله: حضر أجلي!
فكان هذا أيضا مما يعد من كراماته!
وأخبرني فضيلة المفتي عن شيخنا الدكتور سيف قزامل عميد كلية الشريعة السابق، عن ولده السيد (أحمد)، ثم لقيت أحمد، فحدثني به، أنه قال لهم قبل موته: لا تطالبوا الدولة برصيد إجازاتي!
 وقد طلب الدكتور سيف من أولاده أن يعملوا له توكيلا ليرفع لهم دعوى قضائية للمطالبة برصيد إجازات والدهم، وكان رصيده نحو سبعين ألف جنيه، فقالوا له: إن الوالد أوصانا قبل موته ألا نطالب برصيد إجازاته!
وهذا من مبلغ زهده وورعه، وشدة حرصه على المال العام!
وكما كان متورعا في حياته الشخصية فقد كان متورعا في الفتوى، فلم يكن يفتي برأي ابن تيمية في مسائل الطلاق، بل كان لا يفتي في مسائل الطلاق أصلا، وكان يرى حرمة التعامل مع البنوك، وراجعته في هذه الفتوى مرارا، حتى قال لي مرة في آخر عمره: الضرورات تبيح المحظورات!
وهو تنزل منه لم أعهده منه من قبل؛ إذ كان شديدا جدا في ذلك، وكان ينعى على المشايخ المتساهلين، ويرد عليهم في بحوث علمية رصينة!
وكان زاهدا - رحمه الله - في تولي المناصب؛ فقد عرض عليه منصب العمادة في بعض الكليات فرفض، وهي طريقة أشياخه التي تربى عليها!
بل لم يكن يعبأ بالترقية العلمية، ولهذا تأخر جدا في ترقيته أستاذا، وكانت اللجنة العلمية للترقية تتصاغر أمام علمه وفضله!
ولم يكن يعبأ بصاحب منصب، حتى كان يصيح في وجه الدكتور عبد الفتاح الشيخ - رحمه الله - وهو رئيس الجامعة الأزهرية، مع ما عرف عنه من الشدة التي لم يسلم منها أقرب الناس إليه، إلا أن الدكتور عامر كان له عنده تقدير خاص!
وقال مرة لأحد أساتذة القانون - وكان يعمل سابقا في جهة سيادية، وقد رآه يلبس شيئا من الذهب -: لا يلبس الذهب عندنا إلا النساء!
وقد كان - رحمه الله - لا تستعصي عليه المسائل، ولا تعوزه الدلائل، فقد كانت عنده ملكة الفقهاء، وذوق المجتهدين، وكان يبسط الكلام على المسألة بسطا حتى يدخلك في تفريعاتها وتحقيقاتها وصورها، شأنه في ذلك شأن الأئمة المحققين، وما أظن حصل له ذلك إلا من إدمان النظر في كتب الأقدمين التي كان يتعشقها تعشق الظمآن للماء، ويشتمل قلبه عليها اشتمال العروق على الدماء!
وكنت إذا أردت أن أحتاط لديني لم أستفت غيره وغير شيخنا العارف بالله الشيخ عبد السلام أبي الفضل، فقد كانا ممن يخافون الله في الفتوى، ولا يرضون الناس بسخط الله!
وكنت أسأله كثيرا وأنا طالب، حتى إذا تخرجت، وعينت معيدا قال لي: كنا نجيبك وأنت طالب، أما الآن فأنت باحث!
وبمثل ما قال أقول!
وقد أذن لي أن أقرأ عليه بعض الكتب، كشرح الورقات لإمام الحرمين، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي، ونظرا لموسوعيته في الشرح لم نكن نتم كتابا بدأناه!
وقال لي مرة وأنا أقرأ عليه - وهو مما يدل على رقة قلبه -: إني لأغبطكم يا أهل أصول الدين على ما أنتم فيه من نعم!
فقلت: وعلام يا سيدي؟
فقال: إن علومكم التي تدرسونها مرققة للقلب، مهذبة للنفس، موصلة إلى الله!
أما علومنا فلم تزد القلب إلا جمودا، والنفس إلا صدودا!
ولم يكن يكتفي بغذاء عقولنا، بل كان يغذي أبداننا، ويطعمنا فاخر الطعام، وكان كريما في بيته، مضيافا، مجاملا إلى الغاية، وكان يذهب إلى أقاصي البلاد ليجامل في الحزن والفرح، بالنفس والمال!
ولم يسافر إلى الخارج غير إعارة واحدة خمس سنوات، وفضل البقاء في مصر!
وكان الشيخ عظيم الأدب، جم التواضع، محبا للصالحين، حريصا على زيارتهم، وتقبيل أيديهم، وطلب الدعاء منهم، منكرا نفسه في حضورهم!
لكن حدثني أخوه الشيخ إبراهيم أنه قال له في آخر عمره: أنا من أولياء الله تعالى!
وابتلي في آخر عمره بمرض زوجته، وماتت في حياته، ثم لحق بها، وترك بنتين وابنين، أحدهما قد سخر نفسه وبيته ووقته لخدمة كتاب الله الكريم احتسابا لوجهه تعالى، وهو الذي كان يقول عنه والده: أحمد ابني فيه البركة!
وأولادي يحفظون عند السيد (أحمد) القرآن، فرحم الله والده، أحسن إلي حيا، وأحسن إلى أولادي ميتا!
فاللهم احفظ العلماء، وأولاد العلماء، وافتح لهم أبواب فضلك، وانشر لهم من خزائن رحمتك؛ فإنهم عبادك الدالون عليك، الموصلون إليك، القائمون لك بين يديك!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على معلم الناس الخير، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.
مقالات اخرى
أضافة تعليق