أنفاس من لهيب!
أبدعتُ فيما مضى عن قراءة حالي مع الناس من حسن الجوار، أفنيت عمرًا طويلاً في أن أثبتَ في الوصال بعيدًا عن ضربات الانكسار، التفت يَمنة فإذا بغبار البعد عن سندي في موجة إعصار من أن أكف عن مطالب العيش الهنيء، ثم التفت يَسرة فإذا بطوفان الكره في لفة أن لا مكان للأمان في بلد الأمان.
عجيب حال الدنيا هذه، فتحت مخططات الأصالة في متحف التخليد فوجدت سِيرًا وعِبرًا، وازنتُ بين مرادي ومراد الخالدين، فأدركت أنه منقوش بحرف رمزي لم يكن من قائمة الأحرف الشبيهة لأحرفي، ربما في الرمز علامة من أن أهل النضال نوادر، وأهل التحدي فوارق في أن الصبر على الأذى وعر المسلك في الدرب، ومُر الطَّعْم على اللسان، وأن الثبات على حب أهل الكرم مطارق من نور على حياة الصامدين.
كفاني لوعة بما يحدث بأفق هو بعيد المقصد، لكن لزامًا عليَّ أن آخذ العبر، وأعتبر من عبر الماضي والحاضر بأنفاس من لهيب.
كان واجبًا أن أدفع بالمنى إلى أمام مجهول العواقب، وغير واضح المعالم؛ لذلك باعدت بيني وبين خطواتي وبين إشارة الوقوف ألف ميل؛ لأنه الاصطدام في شك التوخي حاضر البوادر،كنت في روحانية المشاعر في أني بمعية الله في أمان، هو صبر من تفاعل من غير أقوال؛ لأن الأقوال مع الطيش يغدو أهوالاً، فيفسد لي الحوار، وأخسر عظم الثواب.
هل كان سهلاً أن تخرج أنفاسًا من لهيب؟ وهل في لهيب الاستدراك ضجيج من الاستنفار؟
لست أناقض الواقع، ولست أغالط الدافع، لكني أقف حيثما وقف بي النفَس لآخذ أنفاسًا أخرى، ومن لهيب دائمًا؛ فأنفاس اللهيب تفرغ دموع الحيارى في كل الأوقات، لكنها تجدد للروح منطلقًا إلى أبعد الترحال.
عمق الجراح لا ينهك القوى مرة، بل يدفع للأفق ألف مرة؛ حيث نور جديد، وإشراق جديد، ولكن بعد أن آخذَ أنفاسًا من لهيب.
صياح الأيامى من خسارة الضمير هو نفس آخر من لهيب، ليكون الصمت مواساة لهن في النهار، فبالأنفاس نواسي أهل النفس العميق من حسرة الضياع لكل شيء، مال وولد وبيت ومزارع، إنها أنفاس اللهيب في موقف إن الله غالب على أمره.
لكم كان لبصمة الأنفاس كتابة أخرى عن إقرارية النظام في بلاد القانون! ولكم كانت من أنفاس أخرى أحاديث عن الحق في لوعة التصدي له، ولكنها أنفاس اللهيب ترد العدوان ضد لهيب دخان المدافع!
يدور الدور على من يلعب دورًا في حياته، إنه التطويع من الله في زمن اللغو والمسخرة في أنه ولَّى، وحان وقت كل شيء في مكانه، في الحقيقة أكره تمازج الأوصاف بين حب وكره، بين اعتراف وإنكار، بين حق وباطل، فهل في التصريح رأي آخر؟
لم تكنْ أنفاسي من لهيب إلا وأنا أغوص في بحر النجاة أبحث عن صدف ثمينة بالقرب من المحار، لكني اضطررت لقطع الأنفاس للغوص في العمق، فلم تكنْ أنفاسي من لهيب في حينها؛ لأنها كانت من إصرار في انقطاع عن الخروج، هو ثمن الغوص في المجهول لاستكشاف المعلوم من المنى بأثمان الجواهر، معادلة سهلة، ولكنها منظمة في الخواطر.
ألم تركن الصدف واللآلئ إلى أسفل المحيط؟ لذلك كان لزامًا لبلوغ المراد إخراجُ أنفاس من لهيب طويلاً، ثم كبتها طويلاً؛ لتتحقق معادلة التساوي في الظَّفر بالغالي من عمق الغالي.
قال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17].
فلو لم تكن أنفاسي من لهيب، لَمَا بلغت الغالي من المراد، وبشق النفس!