أنور الجندي
في حوالي القرن الأخير (1870 تقريباً إلى) اليوم ألقى الفكر الإسلامي والثقافة العربية نظريات ومذاهب وافدة كثيرة، في مختلف مجالات اللغة والدين والاجتماع والحضارة التربية والتراث.
وهي نظريات فرضت في الأغلب فرضاً تحت ضغط ظروف الغزو الاستعماري والاحتلال البريطاني والفرنسي للعالم الإسلامي. وقد ألقيت هذه النظريات من خلال الإرساليات ومعاهدها وفروعها، وكان مجال الصحافة والتعليم والثقافة أبرز ميادينها.
وقد غلف الدعاة إلى هذه النظريات دعوتهم بحماسة الرغبة في النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر، والخروج من الجمود، وكسر قيود التقليد ومقاومة الرجعية والتماس مناهج الغرب الناهض في خطوه، لمساواته ومحاذاته.
وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة واضحة، هي أن أمتنا وأوطاننا ليست من العرب ولا متصلة بأفريقيا وآسيا ولا تربطها بالصحراء العربية رابطة، ولكنها متصلة باليونان قديماً، وبالغرب حديثاً.
وقد امتدت هذه النظريات إلى العقل فقالت أن العقل المصري والسوري والمغربي هو عقل أوروبي، وأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات خارجة عن أدنى حدود العلم والمنطق والتدقيق. وكلها تهدف إلى عزل كل وطن عربي عن العرب كأمة وعرق من ناحية وعن الإسلام كفكر وثقافة من ناحية أخرى.
وقد صدرت مؤلفات تحمل مثل هذه الآراء أريد بها إحداث ضجة كبرى، كعامل هام في سبيل ترديد هذه النظريات الوافدة وإعادة غرسها في العقول والنفوس. وقد جرت المساجلات ساخنة ومثيرة، حول هذه الأفكار ثم انتقلت هذه القضايا من أعمدة الصحف إلى منابر الجماعات إلى مجال البرلمان، وكان نفوذ الاستعمار وقواه تعمل في مجال البرامج التعليمية والمناهج الجامعية والصحف الكبرى والأسماء اللامعة من أجل إقرار هذه الآراء.
غير أن هذه النظريات لم تلبث طويلاً حتى تحطمت، وما عتمت هذه التيارات أن قضي عليها، وفشلت في تحقيق الهدف منها، ذلك أن ذاتية الفكر العربي الإسلامي المستمدة من قيمه ومقوماته الأصيلة عميقة الجذور قد رفضت هذه المحاولات التغريبية لإخراج هذه الأمة من جلدها وإذابتها في الفكر الأممي الشعوبي، غير أن الأمر لم يتوقف بالتغريب عند حد الهزيمة فإنه سرعان ما جدد هذه الدعوات وألبسها صورة جديدة وقدمها مرة أخرى وما تزال رحى المعركة دائرة بين الزيف والصحيح، وبين الأصالة والتبعية.
في مقدمة هذه النظريات تكريم أدب الإغريق وإعلاء أدب اليونان على الأدب العربي، ودعم شأن الإقليميات الضيقة: كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها من الدعوات، والنهي على العرب ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم، وإثارة الخلاف ومحاولة تمزيق الرابطة العضوية بين العروبة والإسلام، ومعارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها، ومقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العامية، هذا إلى المحاولات الضخمة المبذولة من أجل دحر الحقيقة الواضحة الكبرى وهي أن الإسلام دين ونظام اجتماعي معاً، هذا فضلاً عن محاولة توجيه النقد إلى القرآن ووصفه بأنه كتاب أوربي أو كتاب وضعه النبي محمد وكذلك إلى إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار عطائها للحضارة العربية، والدعوة إلى ما يسمى عالمية الثقافة، وهو تذويب قيم الثقافة العربية في أتون الفكر الغربي مع الفروق الواضحة بينهما. ومحاولة توسيد قيم وافدة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، وذلك إلى مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
كما عهدت حركة التغريب إلى إذاعة نظريات فرويد تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه المخططات العمل على انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله، فضلاً عن طرح مفاهيم غربية في البطولة نفسها تستمد طابعها من مفهوم المسيحية الغربية القائم على ما يسمونه الخلاص، وكذلك إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد من خلال مفاهيم الفلسفة المادية، هذا بالإضافة إلى محاولة إعلاء اتجاه التعبير المادي في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً، ووجد النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة وأثيرت مساجلات ومعارك أدبية متعددة.
غير أن هذه النظريات لم تلبث في ضوء الحقيقية أن سقطت وتحطمت.
حاولت هذه الكتابات أن تنقل وجهات النظر التغريبية إلى مجال الفكر العربي الإسلامي في مختلف مفاهيمه واعتمدت على وجهات نظر المبشرين والمستشرقين وهي وجهات نظر خطيرة مغرضة مصاغة بعناية وحذر يراد بها إغراء القارئ العربي -وخاصة ذلك الذي لم يعرف كثيراً عن الفكر الإسلامي- حتى يتقبلها بسرعة، وقد استخدم لها باحثون ألقيت إليهم أضواء واسعة من الشهرة والمكانة.
وقد اتصلت هذه الكتابات بالتاريخ والأدب والاجتماع واللغة العربية، وحاولت أن يتجرد من كل صلة لهذه العلوم بالإسلام في محاولة للتعمية والتضليل.
ولما كان الفكر الإسلامي يمثل وحدة كاملة، وكانت هذه العلوم أجزاء منه يتكامل بعضها مع البعض الآخر، دون أن ينفصل أحدها أو يشكل وحدة مستقلة، فقد رأى دعاة التغريب في مكر بالغ، أن يبتعدوا عن (الإسلام) كدين بصورة واضحة، وأن يجعلوا ضرباتهم موجهة إلى هذه الجوانب حتى يكونوا في مأمن من حملات العلماء، وحتى يتحقق لهم بهدم هذه النواحي إصابة الإسلام في قلبه وأعماقه.
فهذا كتاب يريد أن يصل صاحبه في بحث له طابع علمي براق إلى أن الخلاقة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن نظام الحكم كان حراً طليقاً، إلى هنا والمسألة في نظر الباحث غير المتعمق -يسيرة وربما مقبولة، ولكن هناك هدف المحق وراء ذلك، ذلك هو الإدعاء بأن الإسلام كان ديناً روحياً خالصاً وأن شئون السياسة والمجتمع والحكم لم تكن منه جزءاً لا يتجزأ، وبذلك أحدث الكتاب ثلمة خطيرة في أدق مقومات الإسلام الأساسية التي تفرق بينه وبين الأديان القائمة على العقائد وحدها دون الشريعة، وعلى اللاهوت وحده دون نظام المجتمع، ولكي نعرف مدى خطر هذا الرأي أن تلقفه المستشرقون ومضوا يصرخون بأن في الإسلام مذهبين وليس مذهب واحد أحدهما يقول بأن الإسلام دين وليس له دولة، وحيث أن مستشرقاً لم يجرؤ على هذا الإدعاء قبل أن يصدر مثل هذا الكتاب، وهذا الكتاب ما يزال في الأيدي، وهناك أكثر من بحث للرد عليه ودحض مزاعمه، ولقد كان علينا أن نعلم ما هي خفايا هذا البحث والغرض منه هنالك نجد أنه عمل سياسي أصلاً، أريد به معارضة اتجاه لإحياء الخلافة ومن ثم فقد انتصرت الدعوة في مجال الخصوم الحزبية والسياسية ولكنها تركت آثاراً مريرة في مجال الفكر الإسلامي، فقد أدخل مفهوماً ليس إسلامي الأصل، من مفاهيم الفكر الأوربي المسيحي القائل بالفصل بين الدين والدولة وهو ما لم يعرفه تاريخ الإسلام، ومن عجب أن كتاباً في الفقه الإسلامي لا تجد فيه مرجعاً واحداً من كتب الفقه؛ وإنما يعتمد على مثل الأغاني والعقد الفريد !!
وهناك كتاب شهير أراد صاحبه أن يدعو الباحثين والأدباء إلى أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل البحت في الأدب، وكان ذلك جرياً وراء تغريب الأدب العربي بإخراجه من وضعه الصحيح في الفكر الإسلامي كجزء منه لا ينفصل، ولا يمكن دراسته إلا في موضعه الصحيح؛ فلقد كان للإسلام في الأدب العربي أثر ضخم بعيد المدى، ومن هنا فإنه من العسير أشد العسر أن ينفصل الأدب عن الفكر الإسلامي ولأن أن= يدرس حراً من هذا الارتباط الاجتماعي والأخلاقي، وهو ارتباط عضوي أصيل.
ولقد جنى الأدب العربي من هذا المذهب الوافد في النقد الأدبي آثاراً مريرة عظيمة، فقد فتح الباب أمام إنكار نصوص الكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن، كما فتح الباب أمام محاولة نقد آيات القرآن وانه جزا الأدباء على التركيز على أبي نواس وبشار والضحاك على أنهم نماذج الأدب العربي، بينما أبعدت آثار الغزالي وابن تيمية وابن حزن، فضلاً أنه فتح الباب أمام الإباحيات والأدب المكشوف وإعلانه، والجرأة على قيم الإسلام، فضلاً عن خطأ إعطاء الأدب هذه الحرية في الحكم على أمور لا تدخل تحت نفوذه، وفي التوسع لفرض سلطانه على قضايا المجتمع والدين والتربية والأخلاق، وهذا ما لم يكن من مفهوم الفكر العربي الإسلامي المتكامل الشامل.
ولقد كان ذلك اتجاهاً خطيراً في خطة التغريب يهدف إلى تحقيق نتائج مضللة تنكشف، فنحن نرى كيف أصبح مثل كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، بينما لم يكن هذا الكتاب في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الغنائية وقد وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء لإزجاء فراغهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن وأنه في ذلك لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بالقوى الفكرية من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والصوفية والمؤرخون، وقد تأكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جماع لقصص فيه الصحيح والزائف جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف: فقال اليوسفي المؤرخ: ’’إن أبا الفرج أكذب الناس؛ لأنه كان يدخل سوق الوراقين وهي مملوءة بالكذب فيشتري منها شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منه’’، بل إن المؤرخين قد وصفوه بأنه رجل عار عن الثقة به.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت بعيد إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار العلماء إلى مَن أسموهم ’’أهل الغفلة والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدباء وأسفار الأخبار’’، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: ’’هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد’’، يقول القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم: ’’لتحذروا من أهل الأدب؛ فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين فلا تبالوا بما رووا’’.
من خلال الاعتماد على مثل كتاب الأغاني (وكتب المحاضرات جميعها مردودة كمصادر علمية وتاريخية) وصل بعض الباحثين إلى القول بأن القرن الثاني من الهجرة كان عصر شك ومجون، وأن هذا الحكم قد صدر اعتماداً على دراسة بعض الشعراء المجان، فاستطاع هذا الكاتب في جرأة عجيبة أن يقول بأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ويخولون له الحق في إصدار حكم على العصر كله، بينما يوجد في ذلك العصر عشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين، ولا يمكن أن تتم صورة عصر إلا بدراسة النماذج المختلفة فيه.
وبعد فإن على شبابنا المثقف وكتابنا وأدبائنا أن يقفوا موقفاً علمياً كلما صدفهم مرجعاً أو مصدراً من المصادر الشهيرة، وأن يسألوا أنفسهم سؤالاً صريحاً:
ألم تصدر في مناقشة هذه الآراء ردود أو معارضات.
ثم عليهم بعد ذلك أن يبحثوا عن هذه الكتب ويقرأوها.
فإذا كان من مصادر الكاتب أو الباحث كتب مثل: الشعر الجاهلي أو الإسلام وأصول الحكم أو فلسفة ابن خلدون الاجتماعية أو تحرير المرأة أو نظرية التطور أو حديث الأربعاء أو هامش السيرة أو مع المتنبي، أو مستقبل الثقافة أو الأخلاق عند الغزالي أو النثر الفني، أو غيرها من مؤلفات، فإن ضرورة التحقيق العلمي تقضي على القارئ أن يراجع كل ما كتب عن هذه الأبحاث من ردود ومعارضات؛ ذلك أن هذه الأبحاث لم تكتب إلا في ضوء تحديات خطيرة، هي تحديات الغزو الفكري والتغريب، وأن كُتابها يجب أن يعرضوا على قانون ’’الجرح والتعديل’’.
في عام 1971 كتبت إلى مجلة دعوة الحق الزاهرة البحث الأول في هذا الموضوع، ثم شغلت عنه وكان الهدف هو لفت نظر الباحث المسلم إلى أن هناك نظريات وافدة طرحت في أفق الفكر الإسلامي وقد تناولها الباحثون بالنقد والرد والتفنيد في وقتها، غير أن ذلك لم يجمع في حينه في كتاب، ومن ثم ظلت هذه الكتب التي تحمل النظريات متداولة كأنما هي حقائق ثابتة وأعيد طبعها مرات ومرات، ولقد لاحظت ذلك وتأثرت به حين رأيت الكثيرين من شبابنا المسلمين القادمين من كل مكان في العالم الإسلامي يبحثون عن سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي، فيجدون مقالاتهم المليئة بالشكوك مجموعة في كتب أنيقة ثم لا يجدون ما وُجه إليها من ردود وما فُند من اتهامات؛ لأنها لا تزال مدفونة في بطون الصحف والدوريات، ولقد دعاني هذا أن أجمع في مجلدين كبيرين أغلب هذه المعارك تحت عنوان (المعارك الأدبية) وتحت عنوان (المساجلات والمعارك الأدبية)، وذلك في محاولة لكي أضع تحت عين القارئ وجهة النظر الأخرى التي كانت غائبة عنه والتي تكشف أن لكل رأي رداً وأن مثل هذه المحاولات في فرض نظريات وافدة قد استشرى في فترة الثلاثينيات وما بعدها، واتسع نطاقه حتى شمل مختلف ميادين الفكر، ولكن الحق أن قضية ما من هذه القضايا لم تمر دون تمحيص؛ =ككتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي ووجه بالرد من كثيرين وصدرت كتب عديدة في تفنيده منها (تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، كما صدر كتاب محمد فريد وجدي وكتاب محمد لطفي جمعة وكتاب للشيخ الخضر حسين وكتاب (النقد التحليلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوي، هذا بالإضافة إلى عشرات الموضوعات والبحوث التي حفلت بها الصحف وجمعت بعد أطرافها في كتابيّ المذكورَين عن المعارك الأدبية. كذلك صدرت في السنوات الأخيرة أطروحة الدكتور ناصر الدين الأسد عن حقيقة الموقف في الشعر الجاهلي وانتحاله.
وبالنسبة إلى كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدرت في حين صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر عاشور والشيخ رشيد رضا، وصدر في العام الماضي كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس.
أما بالنسبة لما أثاره سلامة موسى عن اللغة العربية فقد نوقش وجمع، وكذلك ما اتصل بآراء ساطع الحصري ومحمود عزمي.
ولقد عورضت نظريات لطفي السيد عن الإقليمية المصرية وآرائه عن التعليم، ووجدت نظرية ثقافة البحر التي أثارها طه حسين ومحمود عزمي تفنيداً وتصحيحاً، وكذلك عارض الباحثون نظرية أمين الخولي عن إقليمية الأدب، ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على محاولات نقد النص القرآن التي قام بها زكي مبارك، وكذلك رد كثيرون على محمد أحمد خلف الله ورسالة القصص الفني في القرآن.
أما النظرية المادية التي عرضها شبلي شميل وسلامة موسى من بعد فإنها لم تمضِ بدون نقد ومراجعة وكذلك نظريات الدين في التربية.
وكانت أكثر الشبهات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي تستهدف السيرة النبوية والقرآن واللغة العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وفي معظم هذه النظريات فقد غلفها بريق كاذب وحاول صياغتها ووضعها في إطار علمي وصاحبتها دعوة طنانة إلى النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر والخروج من الجمود وكسر قيد التقليد ومقاومة الرجعية، وفي أعماقها دعوة صريحة إلى التبعية والانصهار في الفكر الغربي؛ إيماناً بأن هذا هو الطريق الوحيد لمساواته ومحاذاته، وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة أن أمتنا ليست من العرب وأن الإسلام قد مر عليها كما تمر كل الدعوات وأن العقل المصري أو السوري أو المغربي هو عقل أوربي وأن الفكر الإسلامي أصلاً هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات تستهدف عزل المسلمين عن فكرهم الأصيل وعن كيانهم الخاص وذاتهم التي تتماثل. وقد صدرت مؤلفات أحدثت ضجة كبرى، لم تكن هذه الضجة بالقبول ولكنها كانت بالرفض، وجرت مساجلات ساخنة ومثيرة انتقلت من أعمدة الصحف إلى أندية الجمعيات إلى منابر الجامعات، ولكن هذه النظريات لم تجد قدرتها على الحياة؛ لأنها دخيلة وزائف ونبت لا يقوى على الحياة في أرض لم تمتصه وطقس لم يستسيغه، ولذلك ما لبثت أن تحطمت، وإن عمد الدعاة إليها إلى تجيدها مرة بعد مرة وإثارتها في صورة وأخرى، ومن هذه النظريات:
(1) إعلاء أدب الإغريق على الأدب العربي ومحاولة فرض الذوق الهليني على العرب.
(2) إعلاء شأن الإقليميات الضيقة كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها.
(3) النعي على العرب والمسلمين ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم.
(4) معارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها.
(5) مقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العاميات.
(6) التنكر للحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام دين ونظام مجتمع في آن.
(7) محاولة توجيه النقد إلى أسلوب القرآن ووصفه بأنه كتاب أدبي.
(8) محاولة إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار إعطائها للحضارة الغربية.
(9) الدعوة إلى ما يسمى ’’عالمية الثقافة’’ ومحالة تذويب قيم الثقافة الإسلامية في أتون الفكر الغربي مع تجاهل الفوارق الواضحة بينهما.
(10) محاولة إثارة الشبهات حول العلاقات الجذرية بين الإسلام والعروبة.
(11) محاولة توسيد قيم مقتبسة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي.
(12) مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
(13) إذاعة نظريات فرويد في النفس وسارتر في الوجودية ودور كايم الاجتماع، وكلها تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي.
(14) انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله.
(15) إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد.
(16) محاولة إعلاء اتجاه المادية في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً وكثير ترديدا حتى كادت أن تصبح من المسلمات، ووجدت النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة، منها: مؤلفات جورجي زيدان (التمدن الإسلامي)، ومؤلفات طه حسين (حديث الأربعاء – في الأدب الجاهلي – مستقبل الثقافة – مع المتنبي – هامش السيرة)، ومؤلفات سلامة موسى (اليوم والغد – البلاغة العصرية)، وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، ولطفي السيد (ترجمات أرسطو)، بالإضافة إلى بعض كتابات توفيق الحكيم ومحمود عزمي، وزكي مبارك وإبراهيم مدكور وأمين الخولي وحسين فوزي ولويس عوض وزكي نجيب محمود.
غير أن هذه النظريات لم تلبث أن انكشف فسادها وزيفها وعرف المثقفون الأهداف القائمة وراء إذاعتها وترديدها.
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرازق ’’ثلمة’’ في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلاً؛ فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي وأنه لا صلة له بنظام الحكم، مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية التي أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الإنجليز أو المعارضين للملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، ومنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرازق ومَن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.
هذه الثلمة تكذبها كل الوقائع التاريخية وكل النصوص والأسانيد. ومن يقرأ بحث علي عبد الرازق الذي حاول دعاة التغريب في السنوات الأخيرة إعادة طبعه ونشره بعد أن مات وانطوى أكثر من أربعين عاماً-يجدون أنه لم يعتمد على كتاب من كتب الأصول؛ وإنما كان اعتماده على مراجع أدبية كالعقد الفريد وغيره. وقد كان جُل اعتماد علي عبد الرازق على بعض الكتب التي صدرت في تركيا لتبرير إلغاء الخلافة وهي مؤلفات كتبها اليهود الدونمة الذين كانوا يطمعون في تحطيم هذا البناء منذ وقت طويل؛ حتى يستطيعوا أن ينفذوا إلى فلسطين بعد أن وقف السلطان عبد الحميد في وجههم سداً منيعاً، وكل ما جاء به علي عبد الرازق نقلاً من هؤلاء إنما هو مستمد من نظريات الفكر المسيحي حول البابوية والفصل بين الدين والدولة وهو النهج الذي وصلت إليه أوربا بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والشعب، وكان جُل اعتماده في نصوصه المنقولة على شطائر تؤيد وجهة نظره استعان بها وترك الأجزاء الباقية مغالطة منه وتبريراً لوجهة نظره، بالإضافة إلى اعتماده على كتب المحاضرات والأدب وهي ليست مراجع للبحث الفقهي الجاد.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت طويل إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار كثيرون إلى ’’أهل العقل والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدب وأسفار الأخبار’’، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه ’’العواصم من القواصم’’: ’’هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد، وهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصريين’’.
أما كتاب في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي من بعده، فإن القضية الكبرى والأساسية التي حاول مؤلفه أن يفرضها هي أن على الباحثين أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل إلى البحث العلمي، نقول (حتى إذا كان دينهم هو الإسلام) الذي هو مصدر كل مناهج البحث وأساس علوم المعرفة والذي هدى البشرية إلى نقد الرواة وإلى الجرح والتعديل وإلى التأكد من سلامة المصادر.
ولكن المؤلف لم يكن ليؤمن بذلك أساساً؛ لأنه حاول إنكار نصوص من القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وقال: ’’مهما تحدثنا التوراة ويحدثنا القرآن عن إبراهيم وإسماعيل فإن الحقيقة التاريخية تقول إنهما من الشخصيات التي لم توجد أساساً’’، ولقد كان الهدف الرئيسي في الشعر الجاهلي أساساً هو انتقاص هذه الأسس في الإسلام وانتقاص رسوله الكريم الذي قال عنه: (لأمرٍ ما كان لابد أن يكون محمد من قريش)، ومَن يراجع الكتب التي تصدت لهذا الكتاب والأبحاث والمعارك التي دارت حوله يجد تحدياً واضحاً صريحاً للحقائق الإسلامية والسنة الصحيحة ولكل ما يتصل بتاريخ رسول الله وأصحابه، فإذ ربطنا هذا بكتاب هامش السيرة وجدنا جانباً آخر أراد طه حسين أن يطعن فيه؛ ذلك هو إعادة الأساطير مرة أخرى إلى هذه السيرة بعد أن نقاها المسلمون منها وحرروها، ونحن لسنا الذين نقول ذلك ونأخذه عليه؛ ولكن ذلك ما يقوله رفيق شبابه الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد. ونجد الجانب الثالث من العمل الخطير متمثلاً في كتاب (الفتنة الكبرى)، وهنا نجد طه حسين يحاكم صحابة رسول الله على أنهم بعض السياسيين في العصر الحديث ورجال الأحزاب وأصحاب المطامع والمؤامرات ومحاولة إزاحة ذلك الجو الرفيع الذي يجب أن ينظر فيه إلى هؤلاء الصحابة الكرام، وتلك هي أهداف طه حسين كما أشار إليها هو نفسه في أكثر من موضع ’’إسقاط التقديس لكل قديم’’.
وإذا كان هذا من الأطروحات الغربية التي عرفها الفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وتحت ضغط خلافات عميقة بين رجال العلم ورجال الدين وتحت تأثير جمود الفكرة الدينية وفسادها في الغرب، فما شأننا به نحن في عالم الإسلام حيث نجد الفكر الإسلامي بسماحته وسعته وقدرته الوافرة على العطاء في كل المجالات، وحيث لا يصطدم الدين بالعلم، وحيث لا تتعارض الثوابت والمتغيرات، وحيث أن القديم ليس فكراً بشرياً يكتنفه الفساد والاضطراب؛ ولكن القديم هو ذلك الهدي الرباني الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
تلك كانت غاية طه حسين واضحة في كتاباته الإسلامية كلها من الأدب الجاهلي إلى هامش السيرة إلى الفتنة الكبرى: (إسقاط التقديس لكل قديم)، دون تحديد لهذا القديم هل هو الأصل الرباني الموحى به أم العمل الفكري الذي قام عليه، فضلاً عن إحيائه لتراث الزنادقة والشعوبية وإعادته طبع إخوان الصفا ومقدمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، والدعوة الملحة التي ظل يدعوها طوال حياته بفضل الهلينية والفكر الإغريقي على الفكر الإسلامي وهي دعوة زائفة مبطلة كذبتها مدرسة كاملة قادها الشيخ مصطفى عبد الرازق وتابعها كثير من الأعلام في مقدمتهم الدكتور علي سامي النشار ومحمود قاسم.
ولو كان طه حسين ناقداً سليم القلب لفرق بين الميراث الإسلامي السماوي والسنة الصحيحة وصادق ما كتب أهل السنة والجماعة وبين التراث الإسلامي المتصل بالشعوبية والزندقة والباطنية، ولكنه كما يبدو واضحاً من كل كتاباته إنما كان يغمغم في هذه الدعوى وهو يقصد: الوحي والنبوة والقرآن، وإن كان لا يقدر على أن يكشف عن ذلك خوفاً وفرقاً مما كاد يصيبه عندما أصدر كتاب في الشعر الجاهلي، لقد فتح الباب لكل شبهة وحملت مؤلفاته أوشال الشعوبية القديمة وزيف آراء المستشرقين في كل الجوانب التي يمكن أن يصل إليها الباحث لم غادر منها واحداً مستعملاً أسلوب (الشك الفلسفي)؛ لبث الشبهات والتساؤلات دون أن يدل أحداً على ضوء من رأي صحيح، ولكنها المحاولة المستمرة للتشكيك؛
فهو الداعي إلى الفرعونية والأدب المكشوف وأن عصر الإسلام الأول عصر شك ومجون، وهو الذي سخر بابن خلدون علامة فكرنا، ووصف المتنبي شاعرنا الأكبر بأنه لقيط ليس له أب، وهو الذي قال لطلبته في كلية الآداب أن القرآن كتاب أدب يوضع موضع النقد ويقال أن هذه الآية كذا وكذا، وهو داعية (عالمية الثقافة) لينصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الأممية، وداعي نقل مناهج التعليم والتربية الغربية، وهو الذي اتخذ من كتاب الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي وهو كتاب غير مؤهل لهذه الدراسة. وهو الذي فتح الأبواب لهؤلاء جميعاً الذين جرأوا على مواريث الإسلام، ومِن الحق أن يقال أن الباحثين المسلمين لم يؤمنوا لحظة بمذهب تقديس السلف سواء في التاريخ أو غيره؛ ولكنهم كانوا يؤمنون ولا يزالون بحماية هذا الميراث العظيم الذي أعطاهم الإسلام وتكريم هؤلاء الصفوة من الصحابة الأعلام الذين شادوا هذا المجد، وتجاوزهم البحث في هذا الخلاف الذي دخلته زيوف كثيرة وأكاذيب كثيرة، وكانت وجهتهم دائماً إلى القرآن وحده وإلى التماس الأسوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم والمؤيد بالوحي، وقد فضلوا دائماً بين (منهج الإسلام) وبين (تاريخ الإسلام)، ولكنهم لم يكونوا ليجرؤا على تناول تراثهم على هذا النحو من الاحتقار والسخرية والمهانة التي حاول طه حسين أن يتناوله بها.
في حوالي القرن الأخير (1870 تقريباً إلى) اليوم ألقى الفكر الإسلامي والثقافة العربية نظريات ومذاهب وافدة كثيرة، في مختلف مجالات اللغة والدين والاجتماع والحضارة التربية والتراث.
وهي نظريات فرضت في الأغلب فرضاً تحت ضغط ظروف الغزو الاستعماري والاحتلال البريطاني والفرنسي للعالم الإسلامي. وقد ألقيت هذه النظريات من خلال الإرساليات ومعاهدها وفروعها، وكان مجال الصحافة والتعليم والثقافة أبرز ميادينها.
وقد غلف الدعاة إلى هذه النظريات دعوتهم بحماسة الرغبة في النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر، والخروج من الجمود، وكسر قيود التقليد ومقاومة الرجعية والتماس مناهج الغرب الناهض في خطوه، لمساواته ومحاذاته.
وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة واضحة، هي أن أمتنا وأوطاننا ليست من العرب ولا متصلة بأفريقيا وآسيا ولا تربطها بالصحراء العربية رابطة، ولكنها متصلة باليونان قديماً، وبالغرب حديثاً.
وقد امتدت هذه النظريات إلى العقل فقالت أن العقل المصري والسوري والمغربي هو عقل أوروبي، وأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات خارجة عن أدنى حدود العلم والمنطق والتدقيق. وكلها تهدف إلى عزل كل وطن عربي عن العرب كأمة وعرق من ناحية وعن الإسلام كفكر وثقافة من ناحية أخرى.
وقد صدرت مؤلفات تحمل مثل هذه الآراء أريد بها إحداث ضجة كبرى، كعامل هام في سبيل ترديد هذه النظريات الوافدة وإعادة غرسها في العقول والنفوس. وقد جرت المساجلات ساخنة ومثيرة، حول هذه الأفكار ثم انتقلت هذه القضايا من أعمدة الصحف إلى منابر الجماعات إلى مجال البرلمان، وكان نفوذ الاستعمار وقواه تعمل في مجال البرامج التعليمية والمناهج الجامعية والصحف الكبرى والأسماء اللامعة من أجل إقرار هذه الآراء.
غير أن هذه النظريات لم تلبث طويلاً حتى تحطمت، وما عتمت هذه التيارات أن قضي عليها، وفشلت في تحقيق الهدف منها، ذلك أن ذاتية الفكر العربي الإسلامي المستمدة من قيمه ومقوماته الأصيلة عميقة الجذور قد رفضت هذه المحاولات التغريبية لإخراج هذه الأمة من جلدها وإذابتها في الفكر الأممي الشعوبي، غير أن الأمر لم يتوقف بالتغريب عند حد الهزيمة فإنه سرعان ما جدد هذه الدعوات وألبسها صورة جديدة وقدمها مرة أخرى وما تزال رحى المعركة دائرة بين الزيف والصحيح، وبين الأصالة والتبعية.
في مقدمة هذه النظريات تكريم أدب الإغريق وإعلاء أدب اليونان على الأدب العربي، ودعم شأن الإقليميات الضيقة: كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها من الدعوات، والنهي على العرب ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم، وإثارة الخلاف ومحاولة تمزيق الرابطة العضوية بين العروبة والإسلام، ومعارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها، ومقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العامية، هذا إلى المحاولات الضخمة المبذولة من أجل دحر الحقيقة الواضحة الكبرى وهي أن الإسلام دين ونظام اجتماعي معاً، هذا فضلاً عن محاولة توجيه النقد إلى القرآن ووصفه بأنه كتاب أوربي أو كتاب وضعه النبي محمد وكذلك إلى إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار عطائها للحضارة العربية، والدعوة إلى ما يسمى عالمية الثقافة، وهو تذويب قيم الثقافة العربية في أتون الفكر الغربي مع الفروق الواضحة بينهما. ومحاولة توسيد قيم وافدة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، وذلك إلى مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
كما عهدت حركة التغريب إلى إذاعة نظريات فرويد تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه المخططات العمل على انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله، فضلاً عن طرح مفاهيم غربية في البطولة نفسها تستمد طابعها من مفهوم المسيحية الغربية القائم على ما يسمونه الخلاص، وكذلك إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد من خلال مفاهيم الفلسفة المادية، هذا بالإضافة إلى محاولة إعلاء اتجاه التعبير المادي في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً، ووجد النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة وأثيرت مساجلات ومعارك أدبية متعددة.
غير أن هذه النظريات لم تلبث في ضوء الحقيقية أن سقطت وتحطمت.
حاولت هذه الكتابات أن تنقل وجهات النظر التغريبية إلى مجال الفكر العربي الإسلامي في مختلف مفاهيمه واعتمدت على وجهات نظر المبشرين والمستشرقين وهي وجهات نظر خطيرة مغرضة مصاغة بعناية وحذر يراد بها إغراء القارئ العربي -وخاصة ذلك الذي لم يعرف كثيراً عن الفكر الإسلامي- حتى يتقبلها بسرعة، وقد استخدم لها باحثون ألقيت إليهم أضواء واسعة من الشهرة والمكانة.
وقد اتصلت هذه الكتابات بالتاريخ والأدب والاجتماع واللغة العربية، وحاولت أن يتجرد من كل صلة لهذه العلوم بالإسلام في محاولة للتعمية والتضليل.
ولما كان الفكر الإسلامي يمثل وحدة كاملة، وكانت هذه العلوم أجزاء منه يتكامل بعضها مع البعض الآخر، دون أن ينفصل أحدها أو يشكل وحدة مستقلة، فقد رأى دعاة التغريب في مكر بالغ، أن يبتعدوا عن (الإسلام) كدين بصورة واضحة، وأن يجعلوا ضرباتهم موجهة إلى هذه الجوانب حتى يكونوا في مأمن من حملات العلماء، وحتى يتحقق لهم بهدم هذه النواحي إصابة الإسلام في قلبه وأعماقه.
فهذا كتاب يريد أن يصل صاحبه في بحث له طابع علمي براق إلى أن الخلاقة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن نظام الحكم كان حراً طليقاً، إلى هنا والمسألة في نظر الباحث غير المتعمق -يسيرة وربما مقبولة، ولكن هناك هدف المحق وراء ذلك، ذلك هو الإدعاء بأن الإسلام كان ديناً روحياً خالصاً وأن شئون السياسة والمجتمع والحكم لم تكن منه جزءاً لا يتجزأ، وبذلك أحدث الكتاب ثلمة خطيرة في أدق مقومات الإسلام الأساسية التي تفرق بينه وبين الأديان القائمة على العقائد وحدها دون الشريعة، وعلى اللاهوت وحده دون نظام المجتمع، ولكي نعرف مدى خطر هذا الرأي أن تلقفه المستشرقون ومضوا يصرخون بأن في الإسلام مذهبين وليس مذهب واحد أحدهما يقول بأن الإسلام دين وليس له دولة، وحيث أن مستشرقاً لم يجرؤ على هذا الإدعاء قبل أن يصدر مثل هذا الكتاب، وهذا الكتاب ما يزال في الأيدي، وهناك أكثر من بحث للرد عليه ودحض مزاعمه، ولقد كان علينا أن نعلم ما هي خفايا هذا البحث والغرض منه هنالك نجد أنه عمل سياسي أصلاً، أريد به معارضة اتجاه لإحياء الخلافة ومن ثم فقد انتصرت الدعوة في مجال الخصوم الحزبية والسياسية ولكنها تركت آثاراً مريرة في مجال الفكر الإسلامي، فقد أدخل مفهوماً ليس إسلامي الأصل، من مفاهيم الفكر الأوربي المسيحي القائل بالفصل بين الدين والدولة وهو ما لم يعرفه تاريخ الإسلام، ومن عجب أن كتاباً في الفقه الإسلامي لا تجد فيه مرجعاً واحداً من كتب الفقه؛ وإنما يعتمد على مثل الأغاني والعقد الفريد !!
وهناك كتاب شهير أراد صاحبه أن يدعو الباحثين والأدباء إلى أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل البحت في الأدب، وكان ذلك جرياً وراء تغريب الأدب العربي بإخراجه من وضعه الصحيح في الفكر الإسلامي كجزء منه لا ينفصل، ولا يمكن دراسته إلا في موضعه الصحيح؛ فلقد كان للإسلام في الأدب العربي أثر ضخم بعيد المدى، ومن هنا فإنه من العسير أشد العسر أن ينفصل الأدب عن الفكر الإسلامي ولأن أن= يدرس حراً من هذا الارتباط الاجتماعي والأخلاقي، وهو ارتباط عضوي أصيل.
ولقد جنى الأدب العربي من هذا المذهب الوافد في النقد الأدبي آثاراً مريرة عظيمة، فقد فتح الباب أمام إنكار نصوص الكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن، كما فتح الباب أمام محاولة نقد آيات القرآن وانه جزا الأدباء على التركيز على أبي نواس وبشار والضحاك على أنهم نماذج الأدب العربي، بينما أبعدت آثار الغزالي وابن تيمية وابن حزن، فضلاً أنه فتح الباب أمام الإباحيات والأدب المكشوف وإعلانه، والجرأة على قيم الإسلام، فضلاً عن خطأ إعطاء الأدب هذه الحرية في الحكم على أمور لا تدخل تحت نفوذه، وفي التوسع لفرض سلطانه على قضايا المجتمع والدين والتربية والأخلاق، وهذا ما لم يكن من مفهوم الفكر العربي الإسلامي المتكامل الشامل.
ولقد كان ذلك اتجاهاً خطيراً في خطة التغريب يهدف إلى تحقيق نتائج مضللة تنكشف، فنحن نرى كيف أصبح مثل كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، بينما لم يكن هذا الكتاب في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الغنائية وقد وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء لإزجاء فراغهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن وأنه في ذلك لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بالقوى الفكرية من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والصوفية والمؤرخون، وقد تأكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جماع لقصص فيه الصحيح والزائف جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف: فقال اليوسفي المؤرخ: ’’إن أبا الفرج أكذب الناس؛ لأنه كان يدخل سوق الوراقين وهي مملوءة بالكذب فيشتري منها شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منه’’، بل إن المؤرخين قد وصفوه بأنه رجل عار عن الثقة به.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت بعيد إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار العلماء إلى مَن أسموهم ’’أهل الغفلة والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدباء وأسفار الأخبار’’، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: ’’هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد’’، يقول القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم: ’’لتحذروا من أهل الأدب؛ فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين فلا تبالوا بما رووا’’.
من خلال الاعتماد على مثل كتاب الأغاني (وكتب المحاضرات جميعها مردودة كمصادر علمية وتاريخية) وصل بعض الباحثين إلى القول بأن القرن الثاني من الهجرة كان عصر شك ومجون، وأن هذا الحكم قد صدر اعتماداً على دراسة بعض الشعراء المجان، فاستطاع هذا الكاتب في جرأة عجيبة أن يقول بأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ويخولون له الحق في إصدار حكم على العصر كله، بينما يوجد في ذلك العصر عشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين، ولا يمكن أن تتم صورة عصر إلا بدراسة النماذج المختلفة فيه.
وبعد فإن على شبابنا المثقف وكتابنا وأدبائنا أن يقفوا موقفاً علمياً كلما صدفهم مرجعاً أو مصدراً من المصادر الشهيرة، وأن يسألوا أنفسهم سؤالاً صريحاً:
ألم تصدر في مناقشة هذه الآراء ردود أو معارضات.
ثم عليهم بعد ذلك أن يبحثوا عن هذه الكتب ويقرأوها.
فإذا كان من مصادر الكاتب أو الباحث كتب مثل: الشعر الجاهلي أو الإسلام وأصول الحكم أو فلسفة ابن خلدون الاجتماعية أو تحرير المرأة أو نظرية التطور أو حديث الأربعاء أو هامش السيرة أو مع المتنبي، أو مستقبل الثقافة أو الأخلاق عند الغزالي أو النثر الفني، أو غيرها من مؤلفات، فإن ضرورة التحقيق العلمي تقضي على القارئ أن يراجع كل ما كتب عن هذه الأبحاث من ردود ومعارضات؛ ذلك أن هذه الأبحاث لم تكتب إلا في ضوء تحديات خطيرة، هي تحديات الغزو الفكري والتغريب، وأن كُتابها يجب أن يعرضوا على قانون ’’الجرح والتعديل’’.
في عام 1971 كتبت إلى مجلة دعوة الحق الزاهرة البحث الأول في هذا الموضوع، ثم شغلت عنه وكان الهدف هو لفت نظر الباحث المسلم إلى أن هناك نظريات وافدة طرحت في أفق الفكر الإسلامي وقد تناولها الباحثون بالنقد والرد والتفنيد في وقتها، غير أن ذلك لم يجمع في حينه في كتاب، ومن ثم ظلت هذه الكتب التي تحمل النظريات متداولة كأنما هي حقائق ثابتة وأعيد طبعها مرات ومرات، ولقد لاحظت ذلك وتأثرت به حين رأيت الكثيرين من شبابنا المسلمين القادمين من كل مكان في العالم الإسلامي يبحثون عن سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي، فيجدون مقالاتهم المليئة بالشكوك مجموعة في كتب أنيقة ثم لا يجدون ما وُجه إليها من ردود وما فُند من اتهامات؛ لأنها لا تزال مدفونة في بطون الصحف والدوريات، ولقد دعاني هذا أن أجمع في مجلدين كبيرين أغلب هذه المعارك تحت عنوان (المعارك الأدبية) وتحت عنوان (المساجلات والمعارك الأدبية)، وذلك في محاولة لكي أضع تحت عين القارئ وجهة النظر الأخرى التي كانت غائبة عنه والتي تكشف أن لكل رأي رداً وأن مثل هذه المحاولات في فرض نظريات وافدة قد استشرى في فترة الثلاثينيات وما بعدها، واتسع نطاقه حتى شمل مختلف ميادين الفكر، ولكن الحق أن قضية ما من هذه القضايا لم تمر دون تمحيص؛ =ككتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي ووجه بالرد من كثيرين وصدرت كتب عديدة في تفنيده منها (تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، كما صدر كتاب محمد فريد وجدي وكتاب محمد لطفي جمعة وكتاب للشيخ الخضر حسين وكتاب (النقد التحليلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوي، هذا بالإضافة إلى عشرات الموضوعات والبحوث التي حفلت بها الصحف وجمعت بعد أطرافها في كتابيّ المذكورَين عن المعارك الأدبية. كذلك صدرت في السنوات الأخيرة أطروحة الدكتور ناصر الدين الأسد عن حقيقة الموقف في الشعر الجاهلي وانتحاله.
وبالنسبة إلى كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدرت في حين صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر عاشور والشيخ رشيد رضا، وصدر في العام الماضي كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس.
أما بالنسبة لما أثاره سلامة موسى عن اللغة العربية فقد نوقش وجمع، وكذلك ما اتصل بآراء ساطع الحصري ومحمود عزمي.
ولقد عورضت نظريات لطفي السيد عن الإقليمية المصرية وآرائه عن التعليم، ووجدت نظرية ثقافة البحر التي أثارها طه حسين ومحمود عزمي تفنيداً وتصحيحاً، وكذلك عارض الباحثون نظرية أمين الخولي عن إقليمية الأدب، ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على محاولات نقد النص القرآن التي قام بها زكي مبارك، وكذلك رد كثيرون على محمد أحمد خلف الله ورسالة القصص الفني في القرآن.
أما النظرية المادية التي عرضها شبلي شميل وسلامة موسى من بعد فإنها لم تمضِ بدون نقد ومراجعة وكذلك نظريات الدين في التربية.
وكانت أكثر الشبهات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي تستهدف السيرة النبوية والقرآن واللغة العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وفي معظم هذه النظريات فقد غلفها بريق كاذب وحاول صياغتها ووضعها في إطار علمي وصاحبتها دعوة طنانة إلى النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر والخروج من الجمود وكسر قيد التقليد ومقاومة الرجعية، وفي أعماقها دعوة صريحة إلى التبعية والانصهار في الفكر الغربي؛ إيماناً بأن هذا هو الطريق الوحيد لمساواته ومحاذاته، وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة أن أمتنا ليست من العرب وأن الإسلام قد مر عليها كما تمر كل الدعوات وأن العقل المصري أو السوري أو المغربي هو عقل أوربي وأن الفكر الإسلامي أصلاً هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات تستهدف عزل المسلمين عن فكرهم الأصيل وعن كيانهم الخاص وذاتهم التي تتماثل. وقد صدرت مؤلفات أحدثت ضجة كبرى، لم تكن هذه الضجة بالقبول ولكنها كانت بالرفض، وجرت مساجلات ساخنة ومثيرة انتقلت من أعمدة الصحف إلى أندية الجمعيات إلى منابر الجامعات، ولكن هذه النظريات لم تجد قدرتها على الحياة؛ لأنها دخيلة وزائف ونبت لا يقوى على الحياة في أرض لم تمتصه وطقس لم يستسيغه، ولذلك ما لبثت أن تحطمت، وإن عمد الدعاة إليها إلى تجيدها مرة بعد مرة وإثارتها في صورة وأخرى، ومن هذه النظريات:
(1) إعلاء أدب الإغريق على الأدب العربي ومحاولة فرض الذوق الهليني على العرب.
(2) إعلاء شأن الإقليميات الضيقة كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها.
(3) النعي على العرب والمسلمين ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم.
(4) معارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها.
(5) مقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العاميات.
(6) التنكر للحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام دين ونظام مجتمع في آن.
(7) محاولة توجيه النقد إلى أسلوب القرآن ووصفه بأنه كتاب أدبي.
(8) محاولة إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار إعطائها للحضارة الغربية.
(9) الدعوة إلى ما يسمى ’’عالمية الثقافة’’ ومحالة تذويب قيم الثقافة الإسلامية في أتون الفكر الغربي مع تجاهل الفوارق الواضحة بينهما.
(10) محاولة إثارة الشبهات حول العلاقات الجذرية بين الإسلام والعروبة.
(11) محاولة توسيد قيم مقتبسة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي.
(12) مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
(13) إذاعة نظريات فرويد في النفس وسارتر في الوجودية ودور كايم الاجتماع، وكلها تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي.
(14) انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله.
(15) إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد.
(16) محاولة إعلاء اتجاه المادية في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً وكثير ترديدا حتى كادت أن تصبح من المسلمات، ووجدت النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة، منها: مؤلفات جورجي زيدان (التمدن الإسلامي)، ومؤلفات طه حسين (حديث الأربعاء – في الأدب الجاهلي – مستقبل الثقافة – مع المتنبي – هامش السيرة)، ومؤلفات سلامة موسى (اليوم والغد – البلاغة العصرية)، وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، ولطفي السيد (ترجمات أرسطو)، بالإضافة إلى بعض كتابات توفيق الحكيم ومحمود عزمي، وزكي مبارك وإبراهيم مدكور وأمين الخولي وحسين فوزي ولويس عوض وزكي نجيب محمود.
غير أن هذه النظريات لم تلبث أن انكشف فسادها وزيفها وعرف المثقفون الأهداف القائمة وراء إذاعتها وترديدها.
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرازق ’’ثلمة’’ في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلاً؛ فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي وأنه لا صلة له بنظام الحكم، مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية التي أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الإنجليز أو المعارضين للملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، ومنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرازق ومَن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.
هذه الثلمة تكذبها كل الوقائع التاريخية وكل النصوص والأسانيد. ومن يقرأ بحث علي عبد الرازق الذي حاول دعاة التغريب في السنوات الأخيرة إعادة طبعه ونشره بعد أن مات وانطوى أكثر من أربعين عاماً-يجدون أنه لم يعتمد على كتاب من كتب الأصول؛ وإنما كان اعتماده على مراجع أدبية كالعقد الفريد وغيره. وقد كان جُل اعتماد علي عبد الرازق على بعض الكتب التي صدرت في تركيا لتبرير إلغاء الخلافة وهي مؤلفات كتبها اليهود الدونمة الذين كانوا يطمعون في تحطيم هذا البناء منذ وقت طويل؛ حتى يستطيعوا أن ينفذوا إلى فلسطين بعد أن وقف السلطان عبد الحميد في وجههم سداً منيعاً، وكل ما جاء به علي عبد الرازق نقلاً من هؤلاء إنما هو مستمد من نظريات الفكر المسيحي حول البابوية والفصل بين الدين والدولة وهو النهج الذي وصلت إليه أوربا بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والشعب، وكان جُل اعتماده في نصوصه المنقولة على شطائر تؤيد وجهة نظره استعان بها وترك الأجزاء الباقية مغالطة منه وتبريراً لوجهة نظره، بالإضافة إلى اعتماده على كتب المحاضرات والأدب وهي ليست مراجع للبحث الفقهي الجاد.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت طويل إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار كثيرون إلى ’’أهل العقل والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدب وأسفار الأخبار’’، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه ’’العواصم من القواصم’’: ’’هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد، وهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصريين’’.
أما كتاب في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي من بعده، فإن القضية الكبرى والأساسية التي حاول مؤلفه أن يفرضها هي أن على الباحثين أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل إلى البحث العلمي، نقول (حتى إذا كان دينهم هو الإسلام) الذي هو مصدر كل مناهج البحث وأساس علوم المعرفة والذي هدى البشرية إلى نقد الرواة وإلى الجرح والتعديل وإلى التأكد من سلامة المصادر.
ولكن المؤلف لم يكن ليؤمن بذلك أساساً؛ لأنه حاول إنكار نصوص من القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وقال: ’’مهما تحدثنا التوراة ويحدثنا القرآن عن إبراهيم وإسماعيل فإن الحقيقة التاريخية تقول إنهما من الشخصيات التي لم توجد أساساً’’، ولقد كان الهدف الرئيسي في الشعر الجاهلي أساساً هو انتقاص هذه الأسس في الإسلام وانتقاص رسوله الكريم الذي قال عنه: (لأمرٍ ما كان لابد أن يكون محمد من قريش)، ومَن يراجع الكتب التي تصدت لهذا الكتاب والأبحاث والمعارك التي دارت حوله يجد تحدياً واضحاً صريحاً للحقائق الإسلامية والسنة الصحيحة ولكل ما يتصل بتاريخ رسول الله وأصحابه، فإذ ربطنا هذا بكتاب هامش السيرة وجدنا جانباً آخر أراد طه حسين أن يطعن فيه؛ ذلك هو إعادة الأساطير مرة أخرى إلى هذه السيرة بعد أن نقاها المسلمون منها وحرروها، ونحن لسنا الذين نقول ذلك ونأخذه عليه؛ ولكن ذلك ما يقوله رفيق شبابه الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد. ونجد الجانب الثالث من العمل الخطير متمثلاً في كتاب (الفتنة الكبرى)، وهنا نجد طه حسين يحاكم صحابة رسول الله على أنهم بعض السياسيين في العصر الحديث ورجال الأحزاب وأصحاب المطامع والمؤامرات ومحاولة إزاحة ذلك الجو الرفيع الذي يجب أن ينظر فيه إلى هؤلاء الصحابة الكرام، وتلك هي أهداف طه حسين كما أشار إليها هو نفسه في أكثر من موضع ’’إسقاط التقديس لكل قديم’’.
وإذا كان هذا من الأطروحات الغربية التي عرفها الفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وتحت ضغط خلافات عميقة بين رجال العلم ورجال الدين وتحت تأثير جمود الفكرة الدينية وفسادها في الغرب، فما شأننا به نحن في عالم الإسلام حيث نجد الفكر الإسلامي بسماحته وسعته وقدرته الوافرة على العطاء في كل المجالات، وحيث لا يصطدم الدين بالعلم، وحيث لا تتعارض الثوابت والمتغيرات، وحيث أن القديم ليس فكراً بشرياً يكتنفه الفساد والاضطراب؛ ولكن القديم هو ذلك الهدي الرباني الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
تلك كانت غاية طه حسين واضحة في كتاباته الإسلامية كلها من الأدب الجاهلي إلى هامش السيرة إلى الفتنة الكبرى: (إسقاط التقديس لكل قديم)، دون تحديد لهذا القديم هل هو الأصل الرباني الموحى به أم العمل الفكري الذي قام عليه، فضلاً عن إحيائه لتراث الزنادقة والشعوبية وإعادته طبع إخوان الصفا ومقدمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، والدعوة الملحة التي ظل يدعوها طوال حياته بفضل الهلينية والفكر الإغريقي على الفكر الإسلامي وهي دعوة زائفة مبطلة كذبتها مدرسة كاملة قادها الشيخ مصطفى عبد الرازق وتابعها كثير من الأعلام في مقدمتهم الدكتور علي سامي النشار ومحمود قاسم.
ولو كان طه حسين ناقداً سليم القلب لفرق بين الميراث الإسلامي السماوي والسنة الصحيحة وصادق ما كتب أهل السنة والجماعة وبين التراث الإسلامي المتصل بالشعوبية والزندقة والباطنية، ولكنه كما يبدو واضحاً من كل كتاباته إنما كان يغمغم في هذه الدعوى وهو يقصد: الوحي والنبوة والقرآن، وإن كان لا يقدر على أن يكشف عن ذلك خوفاً وفرقاً مما كاد يصيبه عندما أصدر كتاب في الشعر الجاهلي، لقد فتح الباب لكل شبهة وحملت مؤلفاته أوشال الشعوبية القديمة وزيف آراء المستشرقين في كل الجوانب التي يمكن أن يصل إليها الباحث لم غادر منها واحداً مستعملاً أسلوب (الشك الفلسفي)؛ لبث الشبهات والتساؤلات دون أن يدل أحداً على ضوء من رأي صحيح، ولكنها المحاولة المستمرة للتشكيك؛
فهو الداعي إلى الفرعونية والأدب المكشوف وأن عصر الإسلام الأول عصر شك ومجون، وهو الذي سخر بابن خلدون علامة فكرنا، ووصف المتنبي شاعرنا الأكبر بأنه لقيط ليس له أب، وهو الذي قال لطلبته في كلية الآداب أن القرآن كتاب أدب يوضع موضع النقد ويقال أن هذه الآية كذا وكذا، وهو داعية (عالمية الثقافة) لينصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الأممية، وداعي نقل مناهج التعليم والتربية الغربية، وهو الذي اتخذ من كتاب الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي وهو كتاب غير مؤهل لهذه الدراسة. وهو الذي فتح الأبواب لهؤلاء جميعاً الذين جرأوا على مواريث الإسلام، ومِن الحق أن يقال أن الباحثين المسلمين لم يؤمنوا لحظة بمذهب تقديس السلف سواء في التاريخ أو غيره؛ ولكنهم كانوا يؤمنون ولا يزالون بحماية هذا الميراث العظيم الذي أعطاهم الإسلام وتكريم هؤلاء الصفوة من الصحابة الأعلام الذين شادوا هذا المجد، وتجاوزهم البحث في هذا الخلاف الذي دخلته زيوف كثيرة وأكاذيب كثيرة، وكانت وجهتهم دائماً إلى القرآن وحده وإلى التماس الأسوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم والمؤيد بالوحي، وقد فضلوا دائماً بين (منهج الإسلام) وبين (تاريخ الإسلام)، ولكنهم لم يكونوا ليجرؤا على تناول تراثهم على هذا النحو من الاحتقار والسخرية والمهانة التي حاول طه حسين أن يتناوله بها.