إن إشكالية تجديد علم أصول الفقه تمثل موضوعا هامّا وحساسا وخطيرا في الفكر الإسلامي قديما وحديثا وفي عصرنا. وهي إشكالية ارتبطت بالتراث العربي الإسلامي وبمناهج قراءته ودراسته وتحليله ونقده. فالخطاب العربي الإسلامي منذ القديم إلى يومنا هذا وفي مجتمعاتنا التاريخية التراثية ارتبط بالوحي وبالعلوم التي انبثقت عنه نقلية عقلية ونقلية صرفة وعقلية بحتة. وعلم أصول الفقه واحد من العلوم النقلية العقلية بدأت مع نزول الوحي، وجاءت قواعده ومناهجه متناثرة بين اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم واجتهادات الصحابة والتابعين والأئمة الفقهاء والعلماء بعد ذلك، حتى تأسس كعلم قائم بذاته في ‘الرسالة’ للشافعي وتطوّر في ‘الموافقات’ للشاطبي. ومنذ عصر الشاطبي لم يعرف علم أصول الفقه التطور حتى بداية القرن الرابع عشر الهجري، فعرف حركة تطور وانتعاش عند علماء الأصول الشيعة ومنهم ‘محمد باقر الصدر’ ومحاولته تجديد علم أصول الفقه ظهرت في أعمال كثيرة وهامة. كما توالت النداءات والدعوات إلى تجديد علم أصول الفقه ليواكب التطورات والمستجدات في الواقع العربي والإسلامي المعاصر. ومن دعاة تجديد الفقه وأصوله في عصرنا حسن الترابي، ومحمد الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي وحسن حنفي وجمال الدين عطية وغيره.
لقد طرح الفكر الإسلامي المعاصر وخطابه موضوع تجديد الفقه وأصوله باعتباره ضرورة ملحّة تقتضيها ظروف العصر الحالي والمستجدات والتغيّرات التي عرفها ولا زال يعرفها في كافة ميادين الحياة، الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية. وهناك من طرح الموضوع على مستوى أوسع وأكبر من كونه خاصا بعلم أصول الفقه، فطرحه على مستوى التراث العربي الإسلامي القديم لقراءته وتحليله ونقده وإعادة صياغته وإعادة بنائه، وهذا هو المطلوب لتجديد التراث ككل، وعلم أصول الفقه جزء منه، وهو ما يتضمنه مشروع ‘التراث والتجديد’ عند ‘حسن حنفي’. وتمثل محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه في كتاب ‘من النص إلى الواقع’ المحاولة الثالثة بعد المحاولة الأولى إعادة بناء علم الكلام في ‘من العقيدة إلى الثورة’، والمحاولة الثانية إعادة بناء علوم الحكمة “الفلسفة” في ‘من النقل إلى الإبداع’، وتأتي المحاولة الرابعة فيما بعد لإعادة بناء علوم التصوف في ‘من الفناء إلى البقاء’. والغرض من محاولة إعادة بناء أصول الفقه حسب صاحبها هو دحض شبهة أن الشريعة الإسلامية لا تعرف إلا تطبيق الحدود والقتل والرجم وقطع الأيدي والأرجل والتعليق على جذوع النخل. ودحض شبهة الفهم والتطبيق الحرفيين للنص الديني، واعتبار ذلك البديل الإسلامي دون أدنى اعتبار لتجدد الواقع وللمرحلية والتدرج في التغيّر. والهدف من ‘من النص إلى الواقع’ كذلك هو تحويل علم أصول الفقه من علم فقهي استدلالي منطقي استنباطي بحت إلى علم فلسفي إنساني سلوكي يهتم بمشكلات الإنسان الفردية والاجتماعية ويتعاطى مع التحديات الراهنة للأمة ويساهم في ضبط السلوك الفردي والجماعي، ويساهم في إصلاح أوضاع الأمة وفي نهضتها الحضارية. وبالتالي تمثل محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه عند ‘حسن حنفي’ إحدى الخطوات في اتجاه تجديد التراث عامة والفقه وأصوله بصفة خاصة داخل مشروع ‘التراث والتجديد’، وهو مشروع ذو أهمية في الفكر العربي الإسلامي المعاصر الذي هو امتداد للفكر العربي الإسلامي القديم في مراحل تراجعه وانتكاسه أو في فترات تطوره وازدهاره.
ولما كانت الإشكالية في البحث تدور حول تجديد علم أصول الفقه في عصرنا، توزعت مواقف المشتغلين بالتراث وبالعلوم التراثية وبعلم أصول الفقه في عصرنا باعتباره واحدا من هذه العلوم على ثلاثة اتجاهات من منطلق أن الفقه في حالة تجدّد مستمر لأنّه ملزم بالإجابة على تساؤلات المستفتين في العبادات والمعاملات. كما يتعرض الفقه بالضرورة لشؤون الحياة ومشكلاتها المختلفة لدى الفرد والمجتمع والأمة وهي أطراف تعيش على التراث وهو مخزونها النفسي. وإذا كان تجديد الفقه ضرورة وحاجة ملحة فتجديد أصول الفقه أمر متنازع عليه بين مواقف ثلاثة هي: موقف التأييد، وهو موقف يؤيد تجديد علم أصول الفقه في البناء والمادة، في الشكل والمضمون، في الصورة والمحتوى، فلا مانع من تجديد الفقه وتجديد أصوله، فالقدماء رجال أسسوا العلم وطوّروه، والمعاصرون رجال لهم الحق كلّ الحق في تطويره وتجديده طبقا لروح العصر. لأن الفقه القديم وأصوله لم يعد يفي بأغراض وحاجات الواقع المعاصر، ولم يعد الواقع المعاصر يستوعب قضايا وموضوعات الفقه القديم، لأن البيئة الثقافية والدينية والاجتماعية التي نشأ فيها علم أصول الفقه القديم مغايرة تماما للبيئة الثقافية والاجتماعية التي يشهدها العالم العربي والإسلامي المعاصر. فلا مكان الآن لفقه الفيء والغنائم ولا مكان لفقه الجواري والعبيد، فالمادة الأصولية والفقهية تغيّرت تماما، فالحديث الآن عن العولمة واقتصاد السوق، والمعلوماتية وتقنية الاتصال، والأمة والحضارة، والعدالة الاجتماعية، والاحتلال، والتحرر من الاستعمار ومن الظلم والاستبداد، والأقليات المسلمة وغير المسلمة ، وحقوق الإنسان وحرية المرأة، والمجتمع المدني، وغيرها من القضايا والمسائل – وما أكثرها في البلاد الإسلامية- التي تعيش التخلف والانحطاط، وتعيش الأزمة بمختلف أبعادها وأوجهها.
أما الموقف الثاني فيُفند الدعوة إلى تجديد علم أصول الفقه، ويبطل أية محاولة في هذا الاتجاه، ويرى فيها طعنا في الدين عقيدة وشريعة، ويرمي أصحابها بتهمة العمل على تمييع الشريعة، والاستهتار بتعاليم الإسلام وأحكامه وقيّمه. ويذهب البعض من أصحاب هذا الموقف إلى وصف محاولات تجديد علم أصول الفقه أو حتى الدعوة إلى ذلك بالابتعاد عن الدين والكفر بالإسلام والزندقة والخروج عنه. لأن أصول الفقه تُمثل روح الشريعة الإسلامية، وهي أصول ثابتة في الدين عقيدة وشريعة منذ نزول الوحي. فهي من المعلوم من الدين بالضرورة. فمصادر التشريع الإسلامي لا تتبدل ولا تُستبدل في كل الأوقات وفي كل مكان، سواء بالنسبة للمصادر الأربعة المتفق عليها أو المصادر المتنازع حولها. ومناهج الاستدلال واحدة في استنباط الأحكام الشرعية والاستدلال عليها، وهي لا تقبل التبديل أو التحويل لأنها ثابتة ومُؤيدة عقلا وشرعا وطبيعة، وكذلك الأمر بالنسبة للأحكام الشرعية من حيث هي وضعية وتكليفية ومن حيث هي أقسام معلومة مثل الأمر يدل على الوجوب والنهي يدل على المحظور، فهي ثابتة لا تتغير بتغير الظروف التاريخية الزمانية والمكانية وهو الأمر نفسه بالنسبة للمقاصد والمصالح عامة. وأصول الفقه قادرة على أن تروم أي عصر مهما كانت مشاكله والتحديات القائمة فيه، وثبات أصول الفقه من ثبات روح الشريعة وروح الإسلام، وهو ثبات مستمد من الطبيعة البشرية الثابتة وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها وصبغته التي لا تتبدّل. وتأسيس القدماء لعلم أصول الفقه ليس على سبيل التجديد أو الإبداع بل على سبيل حصر وتحديد وجمع ورصد قواعده وترتيب وتنظيم مناهجه وهو ما فعله الشافعي وبعده الشاطبي، وأية محاولة لتجديد علم أصول الفقه في عصرنا أو في عصر لاحق لا تخرج عن هذا السياق.
أما الموقف الثالث فهو موقف يحاول أن يوفّّق بين الموقفين السابقين المتعارضين. فهو لا يقول بتجديد أصول الفقه ككل في الصورة والمحتوى مثلما يذهب أصحاب الموقف الأول، ولا يرفض تجديد أصول الفقه رفضا قاطعا وفي جميع جوانبه مثلما يذهب أصحاب الموقف الثاني، بل يرى أن هناك ثوابت لا تقبل التغيير وهناك متغيرات في الدين وفي علومه، سواء كانت هذه العلوم نقلية عقلية ومنها علم أصول الفقه أو علوم نقلية بحتة ومنها الفقه. والأمر هنا لا يعني أصول الفقه فحسب بل يعني الفقه، لأن أصول الفقه تمثل فلسفة الفقه ومنطقه وإطاره النظري. فالفقه يشمل ما هو متغيّر يقبل التجديد والتطوير، ويشمل ما هو ثابت لا يقبل التغيير بأي حال من الأحوال. والإسلام في فضائه العربي أو الإسلامي أو الإنساني يتسع لكل تجديد في أي زمان أو مكان في السلوك والأهداف ورعاية المصالح والحاجات، فلا يتراجع عن قبول كل تطور أو تغيّر للقضاء على أسباب الضعف وتوفير أسباب القوة والتقدم وصولا إلى مصاف الأمم الراقية في جميع مجالات الحياة. والحياة المعاصرة مليئة بالمسائل والمشكلات والمستجدات التي تحتاج من المنظور الإسلامي إلى اتخاذ مواقف منها. ورغم اتساع الإسلام للتجديد ورغم ثراء البيئة المعاصرة بالمادة الأصولية والفقهية الجديدة لممارسة التجديد إلا أن الشريعة الإسلامية ومصدرها الوحي الإلهي قد تضمنت ما هو ثابت لا يتغير وما هو متغير لا يقبل الثبات. فأحكام الدين ثابتة مثل أصول الشريعة ومبادئها كالحرية والعدل وأحكام العبادات. وتتغير المعاملات بتغير ظروف الزمان والمكان ومنه تغيّر الاجتهاد. والمعلوم من الدين بالضرورة لا يقبل التجديد أما الاجتهاد ففيما لا نص فيه.
أمام هذه المواقف الثلاثة التي اختلفت حول تجديد علم أصول الفقه، وكل منها ينعت الآخر بقصور الرؤية وضعف النظر في القضية، والقضية بين إثبات التجديد وتأييده من جهة وتفنيده وإبطاله من جهة ثانية وبين تأييد التجديد في مواطن وتفنيده وإبطاله في أخرى من جهة ثالثة، وأمام محاولة “حسن حنفي” لإعادة بناء علم أصول الفقه وتجديده التي تمثل موقفا آخر،أمام هذا التعدد والتباين في المواقف حول موضوع تجديد الفقه وأصوله تُطرح التساؤلات التالية:
• هل يمكن تجديد علم أصول الفقه؟
• إذا كان تجديد علم أصول الفقه أمراً ممكناً، فهل التجديد يمس العلم في مادته أم في هيكله وبنائه أم فيهما معاً؟
• إذا كان تجديد علم أصول الفقه أمرا متعذراً، فكيف يتعامل علم أصول الفقه القديم مع بيئة معاصرة جديدة تماما عليه؟
• إذا كانت محاولة ‘حسن حنفي’ لإعادة بناء علم أصول الفقه في كتابه ‘من النص إلى الواقع’، في ‘تكوين النص’ وفي ‘بنية النص’ تصب في اتجاه تجديد العلم، فماذا قدمت هذه المحاولة؟. هل هي مجرد دعوة إلى تجديد العلم أم هي تجديد القديم أم أنها إبداع الجديد؟
• كيف كان حال علم أصول الفقه قبل محاولة ‘حسن حنفي’ في العصر القديم والعصر الحديث وفي عصرنا؟
• بماذا تميّزت فلسفة ‘حسن حنفي’ وبماذا تميّز مشروعه ‘التراث والتجديد’ ومحاولة إعادة بناء أصول الفقه جزء من المشروع؟
• هل تضمّن فعلاً ‘من النص إلى الواقع’ داخل مشروع ‘التراث والتجديد’ محاولة فعلية وجادّة لإعادة بناء علم أصول الفقه.؟
• ما مكانة هذه المحاولة بين المحاولات الأخرى المعاصرة؟. وهل هي جادّة وذات جدّة؟
هذه التساؤلات المترتبة عن قضية علم أصول الفقه بين القديم والجديد أو بين التجديد والترديد تجد إجاباتها في ثنايا هذا البحث الذي يتكون من فصلين ويمثل الفصل الأول السياق التاريخي والممفاهيمي للإشكالية، تناول المبحث الأول علم أصول الفقه من الشافعي إلى الشاطبي، فيه تمّ تعريف علم أصول الفقه وتحديد موضوعه واستمداده والغاية منه، كما تناول الفقه قبل الشافعي ولدى الشافعي وعند الشاطبي وعند المدارس الأصولية الكلامية والفقهية وعند المدرسة الجامعة بين المدرسة الكلامية والمدرسة الفقهية. أما المبحث الثاني فتناول محاولات تجديد علم أصول الفقه في العصرين الحديث والمعاصر. أما في العصر الحديث فانصب الفكر الإسلامي على الدعوة إلى التحرر والإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي وعلى التجديد في الفكر الإسلامي عامة وكانت نماذج ذلك محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال. أما في العصر الحاضر فظهرت محاولات جادّة وجريئة لتجديد علم أصول الفقه، وكانت نماذج ذلك محمد باقر الصدر وعلال الفاسي وحسن الترابي وجمال الدين عطية. وعنوان الفصل الأول هو علم أصول الفقه، التأسيس ومحاولات التجديد في العصرين الحديث والحاضر.
وبما أن موضوع البحث هو إشكالية تجديد علم أصول الفقه عند ‘حسن حنفي’ ومحاولة إعادة بنائه وفق منظور معاصر ومحاولته مُتضمنة في كتابه ‘من النص إلى الواقع’ في جزأين “تكوين النص” و”بنية النص”، وما دامت هذه المحاولة هي موضوع البحث والدراسة تقع في مشروع ‘التراث والتجديد’ وتنتمي إلى فلسفته، انصب الفصل الثاني على مواطن الإبداع ومكامن التجديد في المحاولة في مقابل تكوين النص الأصولي الكلاسيكي وبنيته وعنوان هذا الفصل محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه بين تجديد القديم وإبداع الجديد. انصب المبحث الأول فيه على عرض مواطن الإبداع في مناهج الاستدلال من خلال المصنف الأصولي ‘من النص إلى الواقع’ بين القديم والجديد، والتجديد في المصطلح والمادة العلمية والأمثلة الفقهية، والأولوية للعمل على النظر وللواقع على النص، والأولوية للزمان والمكان، والأولوية للاستدلال الحر، بمختلف أشكاله. ومن خلال تطوير مقاصد المكلف والنية والفعل وإبراز أهمية ودور المباح. أما المبحث الثاني فانصب على نقد وتقويم محاولة إعادة بناء أصول الفقه وشعار ذلك محاولة ‘حسن حنفي’ لإعادة بناء أصول الفقه في الميزان، تناول المبحث استمداد المحاولة ومكانتها بين المحاولات الأخرى لتجديد علم أصول الفقه في العصر الحاضر، وبين كون المحاولة مجرد دعوة إلى التجديد أو تجديد القديم أو إبداع الجديد.
لقد استخدم البحث في معالجة إشكالية علم أصول الفقه عند ‘حسن حنفي’ وعند غيره ممّن سبقوه أو عاصروه أكثر من منهج، استعان بالمنهج التاريخي الوصفي لنشأة وتكوين وتطوير علم أصول الفقه، ووصف موضوعه ومنهجه واستمداده وغايته. كما استعان بالمنهج التحليلي النقدي لفكر دعاة تجديد أصول الفقه المحدثين والمعاصرين ولفلسفة ‘حسن حنفي’ ولمشروعه ‘التراث والتجديد’ وهو منهج قادر على إزالة الغموض والإبهام والشمول الذي يكشف أحيانا أفكار ومواقف المفكرين والفلاسفة، وذلك لما يستعين به من العمق في التحليل والدقة في الوصف، وما يحتاجه من صحة ودقة وعمق وكفاية وهو منهج تحليل المضمون الذي استعان به البحث في دراسته للمتن الأصولي في ‘من النص إلى الواقع’ في ‘تكوين النص’ وفي ‘بنية النص’، وهو المنهج الذي استعان به ‘حسن حنفي’ في دراسة تحليلية وصفية لتكوين أكثر من مائة نص أصولي، ولأول مرّة في تاريخ علم أصول الفقه يحدث عمل كهذا. كما استعان البحث بمنهج دراسة النص الأصولي بعيدا عن المذاهب الفقهية والاتجاهات الفلسفية والرؤى الإيديولوجية. إلا في النقد والكشف عن الخلفية الفكرية والسياسية والإيديولوجية لمحاولة ‘حسن حنفي’ ولفكر صاحبها. وأثناء استخدام المنهج التحليلي لفلسفة ومشروع المفكر ولمحاولته إعادة بناء علم أصول الفقه وهو منهج تحليل المضمون استُخدمت مناهج أخرى مثل المنهج التاريخي الوصفي والمنهج البنيوي والمنهج التفكيكي لأن الموضوع واسع والإشكالية متشبعة ولا يسع منهج واحد لدراستها. خاصة وأن كل منهج أحادي الجانب في تعاطيه مع الموضوع. إذ لا يوجد منهج واحد كاف لدراسة الظاهرة الإنسانية من جميع جوانبها. الأمر الذي يدعو إلى تكامل المناهج ووحدتها.
إن الغاية من هذا البحث ليس هو الوصول إلى إجابات نهائية على التساؤلات التي طُرحت من قبل، وإنما هو خطوة على طريق البحث في إشكالية تجديد علم أصول الفقه عند أحد المفكرين والأصوليين المعاصرين هو ‘حسن حنفي’ من الذين يتصدّرون الواجهة في عصرنا على الساحة الفكرية والفلسفية والثقافية في العالم العربي والإسلامي، وصاحب مشروع ‘التراث والتجديد’ وهو مشروع ذي قيمة وجادّ وجريء. ومن البحث في إشكالية تجديد علم أصول الفقه عند ‘حسن حنفي’ كخطوة أولى، تكون الخطوة الثانية في مسار تجديد علم أصول الفقه عبر التاريخ وفي عصرنا الحاضر، وهو موضوع يتطلب الولع بالبحث العلمي والفلسفي والتمسك بممارسته. لأن “البحث هو شعار الحياة في الإسلام، الحياة المتجددة، العاملة، الهادفة، البانية، الحياة التي تصنع الحضارة والرفاهية والأمن والسلم للإنسانية جمعاء.”(1)
مما لاشك فيه أنّ حرص الفكر العربي الإسلامي المعاصر على تجديد الفكر الأصولي الفقهي يعبر عن الحاجة إلى عقل أصولي ذي خصائص ومميّزات جديدة تجمع بين الوافد والتراث، خاصة فيما يتعلق بمناهج التجديد وميادينه من منطلق إعادة النظر في العلوم التراثية العقلية والنقلية والعقلية النقلية، وإعادة بناء وصياغة هذه العلوم من منظور معاصر يأخذ في الاعتبار تحديات وحاجيات وتحولات العصر الحاضر، من علمنة وأتمتة وحداثة وما بعد الحداثة وعولمة وغيرها، وهو الأمر الذي طلبه الفكر العربي الإسلامي الحديث لكنّه لم يحصل بسبب اشتغاله بالإصلاح الديني والفكري والتربوي، وبالتحرر السياسي وبالاستعمار، ويحرص المفكرون المعاصرون في العالم العربي والإسلامي على تجديد علم أصول الفقه من خلال محاولاتهم ودعواتهم المتكررة مثل دعوة محمد الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي ومحاولة محمد باقر الصدر، ومحاولة حسن حنفي التي تعبر بحق عن الدعوة الصريحة الأصولية الفكرية والفلسفية لتجديد الفكر الأصولي الفقهي، والتي تضمّنها كتابه الأصولي المعاصر بعنوان “من النص إلى الواقع” في جزأين هما: “تكوين النص” و “بنية النص”.
تمثل محاولة ‘حسن حنفي’ لإعادة بناء علم أصول الفقه في إطار إعادة بناء التراث القديم داخل مشروع ‘التراث والتجديد’ قراءة جديدة لدلالات ومضامين علم أصول الفقه القديم نشأة وتكوينا وبنية أو بناء، كما تمثل صياغة جديدة لمفاهيمه ومدلولاته، والهدف من ذلك قراءة جزء من التراث العلمي القديم من منظور معاصر. لأن فشل القراءات السابقة للتراث هو عدم قراءته طبقا لروح العصر، ومن القراءة المعاصرة لعلم أصول الفقه إلى تحويله من علم فقهي استدلالي استنباطي منطقي بحت إلى علم فلسفي إنساني سلوكي يخدم مصالح الإنسان الفردية والاجتماعية في واقعه المعيش المعاصر، ويعمل على مواجهة التحديات الراهنة ويحقق أهداف الأمة التي هي في أصلها مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ومقاصد الشريعة عامة.
لمحاولة إعادة بناء أصول الفقه سياقها الفكري النظري الإبتسيمي الفلسفي، كما تقوم على أسس ومقومات. فسياقها هو الفكر الإسلامي المعاصر الذي يهتم بقراءة وتحليل ونقد وتطوير التراث القديم للوصول إلى ثقافة متطورة تنطلق من ماضي الأمة وتعالج مشكلاتها في الحاضر وتهتم بمستقبلها. فهو فضاء فكري تجتمع فيه أبعاد الزمان الحاضر والماضي والمستقبل كما تجتمع فيه أبعاد الفكر اللفظ والشيء والمعنى، كما تجتمع فيه المواقف الحضارية في موقف حضاري واحد، وتلك هي غاية ‘التراث والتجديد’، الموقف من التراث القديم والموقف من التراث الغربي والموقف من الواقع، في موقف واحد هو ‘موقفنا الحضاري’. أما الأسس التي تنبني عليها المحاولة فهي أسس فلسفية قديمة وحديثة ومعاصرة. مثل مذهب المعتزلة في اعتبار العقل أصل من أصول الشريعة، ومثل الفلسفات الحديثة، فلسفة كانط وفلسفة هيجل، وفلسفة ماركس وفلسفة فيشته وفلسفة سبينوزا وفلسفة هوسرل وفلسفة جون بول ساتر وغيرهم كثير. فالنقدية الكانطية والجدلية الهيجلية والجدلية الماركسية والمادية التاريخية وفلسفة المقاومة عند نيتشه، والظواهرية والوجودية وغيرها تركت آثارها وبصماتها على فلسفة “حسن حنفي” عموما وحاضرة في مشروعه ‘التراث والتجديد’ وفي محاولاته إعادة بناء التراث ومنها محاولة إعادة بناء أصول الفقه.
وتقوم المحاولة على أسس منهجية تتمثل في المنهج العام الذي ساد البحث وسيطر عليه، هو المنهج الفينومينولوجي في إطار مناهج التجديد في مشروع ‘التراث والتجديد’ هذه المناهج تمثّلت في المستوى الجديد للتحليل وهو المستوى الشعوري والأسلوب الظاهراني ومنطق التجديد اللغوي وتغيير المحيط الثقافي، أي تبديل المحيط القديم والثقافة الأصولية والفقهية التقليدية بمحيط ثقافي جديد وبثقافة فقهية وأصولية جديدة ومعاصرة هي مشكلات العصر وتحدياته الراهنة. وعرف البحث إلى جانب المنهج الظاهراتي مناهج عديدة مثل المنهج الوصفي، والبنيوي والتاريخي ومنهج تحليل المضمون وما يلزمه من إجراءات وأدوات مفاهيمية وخطوات، واستُخدمت هذه المناهج في الجزء الأول ‘تكوين النص’ فتم الوقوف على الأساس في علم أصول الفقه من خلال مسح كشفي لعدد معتبر من المصنفات الأصولية القديمة والمعاصرة. كما قدّمت المناهج المتبعة في المحاولة في الجزء الثاني ‘بنية النص’ بناء علم أصول الفقه وهيكله بصياغة معاصرة جديدة فلسفيا ومنهجيا ولغويا، وحتى من ناحية صلة العلم بالواقع والعصر والإنسان والمجتمع والأمة. بحيث أصبح مسار التراث القديم وأصول الفقه بصفة خاصة يتجه نحو الواقع ونحو الإنسان ونحو المجتمع ونحو الأمة بهدف الإصلاح والنهضة، وتحقيق مصالح الجميع. على أساس أولوية الواقع على النص، والمصلحة على الحرف، والعمل على النظر، والتاريخ على الوحي. على عكس ما كان عليه الأمر في علم أصول الفقه القديم وهو أولوية النص على الواقع، والوحي على المصلحة والنظر على العمل. الأمر الذي جعل المحاولة في مسارها ومبتغاها ذات طابع عملي مصلحي واقعي بحت، وجعل علم أصول الفقه علما مثل العلوم الإنسانية والوحي واحدا من هذه العلوم. وعلم أصول الفقه في حقيقية علم نقلي عقلي فيه دور العقل ودور الوحي فيه أثر الدين وأثر الواقع، وأي محاولة تفتقر إلى هذه الثنائية ولا تراعي التوازن فيها تعترضها صعوبات ولا تكون سويّة. والطابع المثالي الروحي للوحي السابق على كل تجربة يتجاوز العقل لأنه من مصدر إلهي، لا يجعل منه مجرد علم من العلوم الإنسانية التي هي من إنتاج العقل البشري. واعتبار الوحي مجرد علم إنساني بحت لا يمنح الوحي طابعه المثالي المتعالي الروحي ويكون التعاطي معه ناقصا في الفهم والتفسير ومعالجة القضايا في الواقع ومواجهة تحديّاته.
جاءت المحاولة تتميز بالجرأة وبالجدّة وتمثلت الجدّة في التصنيف الأصولي ذاته الذي يشمله ‘من النص إلى الواقع’ في ‘تكوين النص’ و’بنية النص’ وما حمله هذا التصنيف من خصائص ومميزات في الشكل والمحتوى، وفي ردّ علم أصول الفقه إلى الواقع والمصلحة والعمل وفي القراءة الظاهراتية واستخدام المناهج المعاصرة للتراث وفي التجديد اللغوي، وفي الحرص على تغيير البيئة الثقافية وتغيير المادة العلمية الأصولية والأمثلة الفقهية. وفي إبراز أساس علم الأصول وبنائه والدعوة إلى علم أصول مقارن أو علم أصول مطلق، كما بان تجديد القديم في ‘بنية النص’ وتمثّل في إبراز أهمية ودور وأولوية أسباب النزول والناسخ والمنسوخ ونقد المتن ونقد السند في الوعي التاريخي في قناته الأولى والثانية، الكتاب والسنة، في استنباط الأحكام الشرعية والاستدلال عليها. وتمثّل تجديد القديم كذلك في أولوية الاستدلال الحر بمختلف أشكاله في العملية التشريعية وفي إعادة ترتيب الأدلة في مسار استنباط الأحكام الشرعية في الوعي النظري. أما في الوعي العملي فظهر تجديد القديم في عدة مسائل هي إعادة ترتيب مستويات وضع الشريعة، وإعادة ترتيب وتسمية الضروريات الخمس، وربط مقاصد الشريعة بأهداف الأمة والتحديات الراهنة وتطوير مقاصد المكلف والنية والفعل وإبراز دور عقبات الفعل. كل هذا ينبغي أن يُراجع بدقة و يُعتبر في الفعل التشريعي في واقعنا المعاصر وفي عالمنا العربي الإسلامي الحالي.
للإجابة على التساؤل التالي: هل محاولة إعادة بناء أصول الفقه هي مجرد دعوة إلى تجديد أصول الفقه أم هي تجديد للقديم أم هي إبداع الجديد؟ ومن خلال قراءتنا لدلالات هذه المحاولة في ‘من النص إلى الواقع’ وفي كتب أخرى نجدها دعوة قوية لتجديد علم أصول الفقه، ونجد فيها تجديد القديم وهو ما ذكرناه سابقا. وإذا كان الإبداع لابد أن ينطلق من القديم لأنه إنتاج يتكون من عناصر قديمة فتجديد القديم في المحاولة إبداع، إبداع في القراءة وفي الصياغة وفي اللغة وفي المادة العلمية وفي الثقافة الأصولية والأمثلة الفقهية، وعرضت المحاولة العديد من الدلالات والإيحاءات الجديدة المتناثرة بين السطور في كتاب ‘من النص إلى الواقع’ وفي كتب أخرى. هذه الدلالات لم تمس هيكل العلم وبنائه لأن ذلك من الصبغة الإلهية والفطرة البشرية تمثل ما هو ثابت في العالم وهو الأدلة والاستدلال والمقاصد والأحكام أما المتغيرات فهي مواطن التجديد ومجالات الإبداع. ويصرح صاحب المحاولة أن محاولته هذه لم تمس ثوابت العلم بل متغيراته ويدعو إلى إخراج العلم من طابعه التقليدي الفقهي المنطقي إلى أن يحمل طابعا فلسفيا إنسانيا سلوكيا يغيّر الواقع ويقوم بإصلاحه وينهض بالأمة ويساهم إلى جانب كل العلوم الإنسانية وغيرها وكل الإمكانيات في صنع الحضارة والتقدم.
إن ارتباط محاولة إعادة بناء أصول الفقه بمشروع ‘التراث والتجديد’ وبالفلسفة التي يقوم عليها عرّضها ويعرّضها لعدة انتقادات مثل المحاولتين السابقتين لإعادة بناء علم الكلام ولإعادة بناء علوم الحكمة. وانتبه صاحب المشروع لهذه المسألة إذ نجده يقدم نقدا ذاتيا في كل محاولة لاحقة للمحاولة السابقة، وقد يرد النقد الذاتي لمحاولة إعادة بناء علم أصول الفقه في المحاولة الرابعة لإعادة بناء علوم التصوف في ‘من الفناء إلى البقاء’، فيُحسب على المشروع ومحاولات إعادة بناء التراث وتجديده الانتماءُ إلى المذهب العقلي المعتزلي والانتماءُ الإيديولوجي وهو اليسار الإسلامي وربطه بالماركسية كاتجاه فلسفي وفكري. وطغيان العقل والواقع والمصلحة والعمل على الوحي مما يجعل المشروع وأعماله يفتقد الصبغة العلمية والتوازن في الرؤية وفي المنظور على المستوى النظري والعملي. وبهذا فالمشروع وأعماله لا تزيل التباين السائد في الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة، ولا تُرضي التيار العلماني لأنها أعمال تراثية ولا ترضي التيار السلفي لأنها أعمال تعطي الأولوية للعقل والمصلحة والواقع والعمل على الوحي. فهي أعمال تُحسب على العلمانيين لكنها ليست علمانية وتُحسب على السلفيين لكنها ليست سلفية، هذا التفرد وهذه الخصوصية هما ما يميّز فكر ‘حسن حنفي’ وفلسفته وسائر أعماله عن غيرها.
على الرغم من الانتقادات التي تعرّضت لها وتتعرض أعمال ‘حسن حنفي’ في قراءة التراث وفي قراءة الآخر وفي قراءة الواقع تبقى تتصدر الواجهة حاليا على الساحة الفكرية في العالم العربي والإسلامي. ومحاولتُه تجديد علم أصول الفقه عمل من هذه الأعمال فيه الدعوة إلى تجاوز القديم وفيه الكثير من التجديد وفيه الإبداع وفيه الكثير من التناقضات والعيوب. فهو اجتهاد ردّ الفقه وأصوله إلى الواقع لمعالجته ولحفظ مصالح الفرد والمجتمع والأمة، ولتحقيق حاجات الإنسان عامة القريبة والبعيدة، المادية والروحية، الدنيوية والأخروية، وهذا هو مبتغى الإسلام ومقصده. ودور المسلم ومسؤوليته هو التمكين لأحكام الإسلام وقيّمه على أرض الله.
[1]- عبد المنعم خفاجي : البحوث الأدبية مناهجها ومصادرها، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1980، ص5.