الميراث وجدلية التوريث
إن فكرة الحق في الخصوصية قد تبدو مثيرة وجذابة بالنسبة لعلماء الدين والأخلاق، أما بالنسبة للقانون فإن الكثير من العقبات تواجه هذه الفكرة؛ فهي فكرة غامضة وغير واضحة الأبعاد، وحتى المعالم، ومن ثمَّ فإن تطبيقها في ميدان الحياة يكون محل الكثير من الإشكاليات.
ولذلك تعتبر مسألة المواريث من أبرز وأهم المسائل الحقوقية في المجتمعات الإسلامية، فإذا كانت الحياة في أي مجتمع إنساني تعطي الكثير من صور المباهج، وإذا كانت وسائل العلم الحديث تقدم الكثير لأجل سعادة الإنسان، فإن الكثير من العقبات تواجه فكرة الحق في أخذ الحق بما أوجبه الشرع، وبما نص عليه القرآن الكريم كدستور مرجعي في تطبيق الأحكام الشرعية.
إلا أن الدعاية وسوءَ الفَهم، وكذا محاولة التضليل بالعقول، هي عوامل أدَّت إلى المساس بمشاعر الناس وحرمانهم من أبسط حقوقهم، وقد تصدم الفكر والشعور بصفة عامة، فتدخُّل القانون والمحاكم في هذا المجال يؤدي إلى كثير من المشاكل أكثر مما يؤدي إلى الخير وإنصاف الحقوق.
فمن يقول الصدق ويعمل به فلا تثريب عليه؛ لأن الصدق منجاة، ومن ثم فلا مسؤولية على من يقول الحقيقة، ولقول الحقيقة عن الميراث: فهو ذمة لذوي الحقوق.
فعلم الميراث من أنفع العلوم وأشرفها، ولأجل هذه الأهمية نبّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكانته، وحث على تعلُّمه وتعليمه؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام -: ((تعلَّموا الفرائضَ، وعلموها الناس؛ فإنه نصف العلم، وهو أول شيء ينسى، وأول شيء ينزع من أمتي))؛ رواه الدارقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بسندٍ ضعيف.
والمواد من الفرائض أحكام المواريث، وسمِّيت بذلك لأن نصيب كل وارثٍ قد تم تبيانُه في القرآن الكريم؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7].
هل بعد هذا الحد الشرعي يرِدُ سؤال ليفرض فرضية الحرمان خاصة لعنصر الأنوثة أو المرأة؟ كيف لي أن أمهِّد للحديث عن الجدلية القائمة عن مسألة التوريث؟ ثم على أي منطلق سأبين احتمالية الشك، والشك غير وارد في منطوق الشرع؟!
فأحكام الميراث تولى بيانَها وشرحها القرآنُ الكريم، وأكدتها السنة النبوية بالتصديق والإقرار، ووضع صور تطبيقاتها للصحابة الكرام وأئمة الفقهاء، ثم المتتبع لأحكام الشريعة الغراء لن يجدَ جانبًا تشريعيًّا حظي بالبيان الوافي والكافي مثل قضية المواريث، وأرى أن هذه الشموليةَ هي ضمانة لأصولها، بل ولكثير من الفروع.
فعند البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت)).
فمن هذا الحديث يبدو إنصاف المرأة، والتي لم يكن لها نصيبٌ في الميراث قبل الإسلام؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ﴾ [النحل: 58، 59].
ومن ناحية أخرى فإن الإسلام أحيا كيانَ المرأة أدبيًّا في أن تحترم حياتها الخاصة، وتصان حقوقها، فكيف لذهنيات توريث الفساد أن تحجب هذه الحقوق؟!
فالإسلام حينما جعل نصيب المرأة على النصف من نصيب الرجل كان في قمة العدل والحكمة، فهو الدِّين السمح الذي أنقذ كيانها من أن يُهدِرَ أحدٌ آدميتَها على بساط اللاعتراف، وهو الذي أنقذها من ظلم الجاهلية، ممن ينكرون الواقع، ويتجاهلون حقائق الأمور، وينسَوْن ما على الرجل من مشاقَّ ومسؤوليات، غير أن هناك حالاتٍ يتساوى نصيب المرأة مع الرجل في حال الأخت لأم مع الأخ لأم، وأيضًا نصيب الأمِّ يتساوى مع نصيب الأب في حالة وجود الفرع الوارث الذَّكر، وكذلك تساوي الأنصبة في بعض الحالات كما في نصيب الجدَّة والجد، ولتقسيم التركة حسابات لا داعي للخوضِ فيها الآن؛ فمجاله واسع ودقيق، والتركيز الآن على عنصر الأحقية في الميراث، والذي أرى أن المشاكل التي أحدثت الشَّرخ في صلة الأرحام هي سببُ المظالم من الحرمان في الميراث.
تبدو تعقيدات الحرمان والإصرار على حجب المرأة - سواءٌ كانت زوجة أو بنتًا أو أمًّا - تأكيدًا على عدم العمل بما جاء في الشريعة الإسلامية، وبالتالي هو هدم للقيم، وضياع للحقوق، وخَلق عداوات فيما بين الأجيال المتعاقبة ما بين الأولاد والأحفاد؛ لأن الحق يبقى أولوية شرعية لا تسقط بالنسيان أو التغافل بين الأقارب فيما يخص التركة؛ لأن فيه انتقاصًا من شخصية الوارث، وإجحافًا وتعسفًا في استعمال الحق.
فجدلية التوريث أثارتها أطماعٌ مادية ما، من شأنها أن تورث الفقر والفساد لسنوات قادمة؛ لتبقى أحقية انتزاع الحق قضايا قانونية عالقة؛ فالشرع الإسلامي فصَّل الحقوق، وأوضح حدود الميراث بحكمة وعقلانية؛ فغياب الوعي الديني والإحساس بروح إنصاف الحق يجعل الميراثَ في جدلية مستمرة حتى تهتدي الضمائر، وتغلِب المصلحة العامة للورثة على المصلحة الخاصة، وبذلك تتحقق المساواة، ولا ضرر ولا ضرار في الأنصبة ما دام حصر التركة قد تم على النحو الشرعي والقانوني.
إن موضوع الميراث موضوع هام جدًّا، وفيه مسؤولية كبيرة، يترتب عليها عقاب الله - عز وجل - فيما إذا كانت فيه حقوق مهضومة، وأموال تؤكَلُ بين الناس بالباطل؛ لأنه كان حوبًا كبيرًا، فلنتَّقِ اللهَ فيما بيننا ولنُوَفِّ كلَّ ذي حقِّ حقَّه.