عند تحضيري للخلفية التاريخية لمجموعتي القصصية " أيام من الناصرة" توجب علي التوثيق للفترة السابقة من الإحتلال البريطاني لفلسطين، فتسنت لي فرصة قراءة عمل الكاتبة السيدة كنيزة مراد" من طرف الأميرة الميتة" ترجمة حياة والدتها الأميرة "سلمي" حفيدة السلطان مراد الخامس و بعدها بسنوات طالعت كتابها " حديقة بادلبور" و هو الجزء الثاني الخاص بسيرة والدها الراجا "أمير" حاكم سابق لولاية مسلمة في الهند و قد إستطعت أن أطلع عن كثب عن ظروف معيشة الأقلية المسلمة الهندية في هذه الرواية الأخيرة.
ميزة كنيز مراد أنها كاتبة مناضلة، تدافع بذكاء عن قضايا المسلمين، إنها لا تزايد و لا تهادن. قلما نعثر في أيامنا هذه عن روائيين و أدباء كرسوا أدبهم لخدمة رسالة نبيلة كالإنتصار لقضايا المسلمين في مشارق و مغارب الأرض. أسلوب كنيز مزج بين اللون القصصي و بين عرض موضوعي لأزماتنا المتعددة و المتداخلة. تسحرك بقلمها الذي يحاكي المشاهد كعدسة الكاميرا.
ففي سيرة الذاتية لوالدها أبدعت في تعريفنا بالهند، هذه الدولة القارة. لعلني سأصدم البعض إذا ما قلت بأنني لست من المتحمسات لإنفصال باكستان و البنغلاديش عن الهند ( فالهند كانت متكونة من الهند باكستان، بنغلاديش، سريلانكا، المالديف، النيبال و البوتان). مثل المسلمون في شبه الجزيرة الهندية كيان لا يستهان به داخل الفسيفساء الهندية حتي أن حركة الإستقلال عن التاج البريطاني قادها مسلمون و هندوس في صف واحد، أما ما جري في نهايات النضال السلمي من أجل الإستقلال من الصعب أن نستوعبه في هذه العجالة. توجس المسلمين كان في محله ناحية الهندوس الهنود غير أنه كان بإمكانهم تصور مخرج آخر للأزمة غير الإستقلال عن الهند. فالبرغم من الجوانب السلبية و إستعلاء و عداء الطائفة الغالبة الهندوس، تبقي الهند كديمقراطية أفضل حالا مما هي عليه الأوضاع حاليا في باكستان و بنغلاديش.
حاولت كنيز مراد في " حديقة بادلبور" أن ترفع الستار عن معاناة المسلمين في الهند من خلال فصول و مشاهد حية، نندهش لواقعيتها و حجم المأساة. تناهز أكبر أقلية الدينية في العالم 150 مليون مسلما هنديا. هذا و قد بلغت دعوة الإسلام الهند في القرن الهجري الأول أما الحكم الفعلي للمسلمين بدأ في القرن الثالث عشر إلي القرن الثامن عشر ميلادي. و ها هي فقرة مترجمة من اللغة الفرنسية إلي العربية أردها علي لسان الكاتبة تعبر فيها بأسلوبها الفذ عن هموم المسلمين الهنود: " ليس هناك أفضل تنظيم للقرية من القرية الهندية : فكل طائفة لها حيها الخاص بها، مجموعة من المنازل متراصة بحسب الطبقات. في وسط القرية المنازل الواسعة للبراهمان، الي جنبها حي الطبقات الوسطي، و بعيدة عنها و أفقرها حي المسلمين و هو عبارة عن بيوت متداعية. إزدادت الطائفة المسلمة منذ الإستقلال بؤسا و فقرا بالمقارنة لزمن الإستعمار البريطاني. فبعد ما أضاعت نفوذها السياسي فقدت أيضا نفوذها الإقتصادي. و برحيل البريطانيين في 1948 كان من المفروض أن يحوز المسلمين علي نفس حقوق المواطنة مثلهم مثل الهندوس لكن و بالرغم من القوانين، تدهورت أوضاعهم أكثر فأكثر بينما الهندوس الذين يمثلون 80% من الشعب الهندي إحتلت أغلبيتهم المناصب الرفيعة و ككل طائفة فهم فضلوا توظيف أبناء ديانتهم وكانوا يحيلون المسلمون علي المناصب المتواضعة هذا إذا ما كانوا محظوظين ! فهنا يجد الفلاح الهندي المسلم صعوبة كبيرة جدا في الحصول علي قرض بنكي لشراء البذور، تجديد أدوات الحرث أو سد إحتياجات عائلته بين موسم حصاد و آخر. يعطي مدير البنك الهندوسي الأولوية الي أبناء عقيدته. فتضطر العائلات المسلمة الي الإقتراض من مرابي القرية بنسب فوائد ضخمة لن تتمكن أبدا من تسديدها، مما يعجل في إفلاسها."
و قد نجحت كنيز مراد في 1989 في إختراق أهم تنظيم متطرف في مجموع المنظمات الهندوسية و هذا بفضل بعض الأصدقاء هندوس. حرصت الكاتبة الفرنسية علي طبع بطاقات الزيارة بإسم "شنتال دوبون"، و هذا لأن إسمها المسلم كان سيغلق أمامها الأبواب. و تمكنت عندئذ بمحاورة لعدة أيام مسؤولين هندوس شرحوا لها :" أن العلمانية تفرغ الهند من إنطلاقتها...نريد دولة هندوسية رئيس هندوسي، و وزير أول هندوسي، برلمان هندوسي و طبعا قوانين هندوسية ! و من لم يعجبه الأمر فعليه بالمغادرة!" و في هذا السياق زارت كنيز مراد إحدي المدارس التابعة لهذا التيار و هي مدرسة بين ألفين و خمسمائة مدرسة مكلفة بتكوين ثمانمائة ألف شاب عبر كل الهند" فهذه المدارس ممولة من طرفنا، وضح لها أحد المدراء لئلا نسمح للحكومة أن تفرض علينا برامج علمانية كما تفعل مع بقية المدارس. أما عن أعضاءنا البالغين فهم حوالي ستمائة ألف موزعين عبر عشرين ألف فرع في كامل التراب الوطني. يعمل كل واحد منهم ساعة واحدة يوميا في فرعه. هكذا نضمن تكوين مستمر للحفاظ علي الإنضباط و علي الحماس." و كما لاحظت الصحافية الفرنسية : التكوين الإيديولوجي عسكري أيضا فقد رأت مئات المراهقين في لباس كاكي يتدربون علي خوض المعارك. عند الصفارة يصطفون في مربعات ليبادروا بالتحية العسكرية، مستميعن الي تعليمات رئيسهم بالنسبة لعمل الغد و هو التصدي لعرض فيلم " تاماس" الذي يروي لأول مرة الأسباب الحقيقية لإنقسام الهند و التي لا يتحملها لوحدهم المسلمين. فالهندوس مشاركون في جريمة الإنفصال. و مما زاد في حنق الهندوس ضد هذا الفيلم أنه من إخراج رجل هندوسي ! بعد ما أكملت عملها الإعلامي سارعت الكاتبة كنيز في عرض مادتها مدعومة بصور إلي رئيس تحرير الأسبوعية التي إبتعثتها للهند. و قد كان عملها ذاك سبق صحافي بإمتياز لكنها إصطدمت برفض رئاسة التحرير بدعوي أن " الهندوس مسالمون و الأصولية هي ظاهرة مسلمة بالدرجة الأولي !" فكالعادة الأحكام المسبقة هي من تحكم المزاج الإعلامي في الغرب و العجيب أنهم لا يتزحزحون من مواقفهم هذه ! حاولت كنيز جاهدة توضيح الأمور و تقديم أرقام. إلا أنها في آخر المطاف رضخت للحقيقة المرة : الأحكام المسبقة أقوي من الأمر الواقع ! فالبرغم من أنها تعيش و تعمل في أوساط منفتحة و مثقفة فقد عانت دائما نوعا من الرفض علي هذا المنوال " أوه لا أصدق أنت مسلمة!!" يقال لها هذا الكلام و كأنها مصابة بمرض نقص المناعة الرهيب !
لم يعرف عن كنيز مراد تدينها فهي علمانية متحررة غير أنها إكتشفت هموم و مشاكل المسلمين في سن الواحدة و العشرين عندما ذهبت إلي الهند لتتعرف علي أبيها الراجا أمير. فأمثالها لا يستطيعون أن يتعاطوا مع الواقع بحياد. فهي منذ الساعات الأولي لوصولها إلي نيودلهي أدركت أنها علي عتبة عالم مجهول. و أنه يتعين عليها أن تسجل كل شيء بأمانة. فقد أدركت أن المسلمين متهمين بأنهم يدافعون عن أنفسهم و بعناد ! كونها إنسانة عنيدة هي أيضا لم تتراجع و فضلت أن تدون ما عايشته في كتاب. و رافقت مطلقة أخيها الهندوسية والعضوة في الحزب الشيوعي الهندي التي إختارت أن تناضل من أجل الإعتراف بحقوق المسلمين في مجتمع هندي يدعي الديمقراطية. أظهرت كنيز آلام المسلمين الهنود و إصرار الفقراء و الضعفاء منهم علي عدم الإستسلام لمنطق القوة المتغطرسة و هذا ما يشكل حقا تحديا جديرا بأن يتصدي له المسلمون. فالملفت للإنتباه هو إيمان المستضعفين من الهنود المسلمين بحقهم في العيش آمنين علي أنفسهم، متساويين في الحقوق و الواجيات مع كافة الطوائف و العرقيات. و قد إنجذبت كنيز لتلك الذهنية المصممة علي البقاء في الهند و النضال بشكل سلمي. فالرسالة التي حملها كتابها "حديقة بادلبور" تتضمن دعوة صريحة برفض كل أشكال التعصب و التطرف و تكريس التعايش السلمي كتعامل يومي ملموس.
فقد جاءت كلماتها قوية و مقنعة في الدعوة بشكل غير مباشر للإستمرار و الإصرار علي الحق. ففي نظرها ما دامت قضية التعايش قضية عادلة فهي تستحق التضحيات والعمل الحثيث. فأينما وجد المسلمون كانوا أقلية أو أغلبية فهم أصحاب رسالة حضارية سامية و هم أقدر علي التعالي علي كل ما من شأنه أن يغذي الحقد و الكره بين الشعوب لكن ليتحقق ذلك عليهم أولا أن يعوا جيدا طبيعة التحدي المطروح.
www.natharatmouchrika.net