مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/02/22 21:42
طبيب في رئاسة الوزراء -مذكرات الدكتور مهاتير محمد-
طبيب في رئاسة الوزراء
مذكرات الدكتور مهاتير محمد
 
هي قصة ماليزيا كما راها الدكتور مهاتير محمد و هي في نفس الوقت قصته أيضا  حيث كتب عن حكمة آبائه المؤسسين الذين أقاموا نظاما سياسيا مكن البلاد من حل مشكلاتها و مواجهة التحديات المتأصلة في مجتمع قال عنه أنه معقد بطريقة ديمقراطية و سلمية.
ربما لأن ماليزيا لا تحاكي الديمقراطيات الليبرالية كالتي في الغرب ، لكن ترأسها حكومات ينتخبها الشعب على المستوى المركزي و على مستوى الولايات ، و بالمقابل أخفقت مستعمرات سابقة عديدة في انجاح النظام الديمقراطي .
يقول الدكتور مهاتير أن في ماليزيا لديهم مرشحون من المعارضة يمكنهم الفوز و تحقيق نجاح يكفيهم لتشكيل حكومات الولايات، و حتى الحكومة المركزية ، و مع أن حزب الائتلاف و خلفه الجبهة الوطنية فازا في جميع الانتخابات الوطنية منذ الاستقلال و كان آدائهما رائعا باعثا على السرور حينا ، و مخيبا باعثا على القلق حينا آخر يبقى الائتلاف عرضة للفشل بعد أن انتزعت منه المعارضة خمس ولايات في الانتخابات العامة لسنة 2008.
يبقى أنه بالنظر الى السياسات البراغماتية التي اعتمدتها ماليزيا استطاعت الانتقال بشكل سلس من اقتصاد زراعي الى اقتصاد صناعي و أبناء و بنات المزارعين و صيادي السمك الذين عاشوا على الكفاف يعملون الآن في مصانع مكيفة و يتعاملون مع معدات حساسة و ينتجون منتجات مبتكرة للأسواق العالمية ، انها سايسة مهاتير محمد المثيرة و التي خاضها على امتداد 22 عاما قضاها رئيسا لوزراء ماليزيا حيث مر فيها بتجربة نضالية صعبة لتحويل وطنه من بلد زراعي مهمش و فقير الى بلد صناعي متقدم و فاعل اقليميا و متحرر سياسيا و اقتصاديا من الهيمنة الغربية بعد أن خرجت ماليزيا  مرهقة من استعمار بريطاني..انها الارادة و قوة الايمان بضرورة الفكاك من المستعمر و تغيير نمط الحياة الى استقلال ينعم فيه الآن الشعب الماليزي بفضل حنكة و ذكاء حكامها بوافر الحياة الرغيدة.
كتابه المعنو ن " طبيب في رئاسة الوزراء" جاء في 992 صفحة عن دار الشبكة العربية للأبحاث و النشر  و انتهيت من قرائته بشق النفس لأن الترجمة التي قام بها أمين الأيوبي جعلت من الكتاب يغلب عليه القالب السياسي في منهج سردي أكثر منه ديناميكي سردي فكنت أحيانا أضطر لإعادة قراءة ما نسيت منه ،  لكنه في مجمله  عبارة عن حضارة من الانجاز ابتدأ فيها الدكتور مهاتير بالحديث عن القيم الأسرية أين كان والده محمد بن اسكندر رجلا ذا شخصية غير عادية في مسألة الدراسة حيث كان يفر الى المدرسة و ليس اليها و من هنا تعلم ابنه تبجيل العلم و تقديسه ، و كان لتربية والدته الأثر الكبير في تكوين شخصية محمد مهاتير حيث كانت تدفعه دائما و بوضوح أن  يعمل هو بنفسه لأجل الحصول على ما يريد ،زوجته حاسمة طبيبة هي الأخرى ساهمت معه في مشواره السياسي الى جانب كونه أب  حيث عرف أبناؤه وجهات نظر أبيهم فلم يزعجوه ،حتى أنه لم يسمح لهم بالترشح لمناصب في أمنو أو الترشح للانتخابات ،لأنه كان يؤمن ايمانا قاطعا أنه ليس لأسرته دور تؤديه و هو من كان رئيس وزراء الشعب و ليس أسرته .
و مثلما تلقى  مهاتير محمد المبادىء من والدته ووالده قيم الأخلاق الرفيع  تلقى ابناؤه نفس التوجيه الأخلاقي منه ، و أهم درس حرص على تلقينهم اياه هو عدم اساءتهم في استخدام مناصبهم.
الحقيقة كما يصرح بها مهاتير أنه لم يعد ينتمي الى أسرته منذ أن أصبح رئيسا للوزراء ، حيث قبل أبناؤه بأنه ليس في استطاعته كونه رئيسا للوزراء بأن يمضي الوقت مع أبنائه  أو يشغل نفسه بمشاكلهم كثيرا و كذلك عرفت زوجته حاسمة هذا الأمر فلم تعد تشتكي تأخر عودته الى البيت .
 و في ذلك يذكر أنه لم يسىء استعمال السلطة التي كانت في يده.
يذكر في الكتاب أنه في أعقاب الهجمات على الولايات المتحدة الأمريكية يوم 11 ايلول /سبتمبر 2001 تملكه هاجس و كذلك جميع ملاك المباني الشاهقة ، لم يقم بطلب من أحد أن يعطيه ضمانة ضد هذا النوع من الهجمات لكن كل شيء ممكن بالطبع ، لأن تصميم البرجين التوأمين في ماليزيا و استخدام الفولاذ في بنائهما أعطاهما متانة قوية جدا ، و ذكر لمهاتير أنه ربما يتمايل البرجان عندما تهب
ريح قوية أو عند حدوث هزات قوية ، مع انه شخصيا لم يحس بحركتيهما  و كل ما تسببت به هزة أرضية ضربت سومطرة في احدى الليالي كان تكسر بعض الألواح الزجاجية في البرجين.
كان مهاتير هو من قرأ في السابق عن اليابانيين عن كيفية تطوير بلدهم بما أن اليابان تفتقد الى الموارد الطبيعية ،فقد بنت نموها على استيراد المواد الخام ، و معالجتها ، و اضفة قيمة لها ،و هو ما قرر فعله في ماليزيا و لو أن ماليزيا دولة فقيرة بالمواد الطبيعية ،و لكن هذا لم يمنع من الحذو بحذو اليابان و لكن تعين استيراد تكنولوجيا التصنيع الضرورية ،و النتيجة أن تجارة ماليزيا نمت بسرعة مع نمو القطاع الصناعي ،و تشكل السلع المصنعة الآن 82 في المئة من اجمالي الصادرات التي تبلغ 100 مليار دولارو لولا تلك السلع لما تجاوزت صادرات ماليزيا 18 مليار دولار و لكانت ماليزيا دولة فقيرة بكثير، و من هنا تغير انتاج ماليزيا و حلت صناعات محل انتاج المطاط و زيت النخيل و النفط.
بالرغم من أن الكثيرون من أشاروا على مهاتير عدم قدرته على مواكبة التطور أثناء جولاته التجارية الى الدول الأجنبية ، هنا يقول مهاتير أنه لا يبالي بزيارة المعالم الجميلة ، و كل ما يركز عليه في جولاته هي الاجتماعات مع المسؤولين الحكوميين و رجال الأعمال المناسبين لمناقشة العلاقات و التجارة الثنائية ، و قد بدى ذلك واضحا اذ في عهد مهاتير نهض الملاويون بأعداد متزايدة لاتقان فنون التجارة بتعلم العمل بإتقان و الدراسة بجد و على هذا الأساس تواصلت التنمية في البلاد بوتيرة سريعة.
و من نافلة القول أن عددا من الماليزيين اشتكوا من كثرة المال الذي أنفق و تساءلوا عن الأسباب التي احوجتهم الى بناء البرجين ، و في الواقع لم تتجاوز تكلفتهما 3 مليارات رينغت ماليزي بينما ستبلغ التكلفة ثلاثة أمثال هذا المبلغ في أغلبية الدول الأخرى و يتعين على الماليزيين تذكر أن قيمة العقارات ترتفع بمرور الوقت بخلاف السيارات و المنتجات الهندسية الأخرى التي تتقادم و تنخفض قيمتها ،و يقول مهاتير أنه بوسعهم بيع البرجين لو أرادوا و سيجنون أرباحا طائلة ،لأنه في النهاية يؤمن بتحريك المال لجني المزيد منه و يؤمن بذلك بعدم تجميده و في هذه الحالة حفز الاقتصاد لأن الحكومة الماليزية ستجبي ضرائب من جميع هذه الأنشطة المهنية.
هذا بإيجاز فكر مهاتير في التسيير الحكومي ليصل في نهاية مذكراته الى أن العالم عاجز عن التعافي من ركود مالي ، حيث أشهر المصارف الاستثماري " ليهمان بروذرر هولدينغز" افلاسه في الولايات المتحدة الأمريكية و تعين انقاذ "ميريل لينش" و "أمريكان ناشونال غروب" بواسطة رزم انقاذ مالي بلغت مليارات الدولارات أطلق ذلك سلسلة من الانهيارات في أسواق الأسهم المالية في شتى أنحاء العالم و اتخذت الحكومات في أمريكا و أوربا تدابير جذرية لمنع المصارف و المؤسسات المالية من الانهيار ، و هو بالمناسبة ينوه بامتنانه للأشخاص في ماليزيا الذين مكنوه من دعم قيادته لماليزيا حاول من خلالها أن يحكم على عمله و يشعر بقدر كبير من الارتياح و يحمد الله في النهاية على تربية والديه اللذين غرسا فيه القيم و التي جعلته ناجحا في مسيرته المهنية...
هذا باختصار عن الحياة العملية لمهاتير محمد و الزائر لماليزيا حتما سيشعر ببصمات الرجل في نهضة وئيدة يافعة متقدمة و متطورة ليبقى الرجل يتنقل في تقاعده بين مساجد بلده ليصلي مع الناس و يخاطبهم بكل تواضع من غير حرس شخصي و لا بروتوكولات السياسة المقيدة..فلا هو قيد نفسه أثناء ترأسه للحكومة و لا بعد مغادرته لمكتبه ليبقى الرجل محافظا على مبادئه و التي حرص على أن يغرسها في  أبنائه و في شعبه..
ما أحوجنا لمثل هذا الصنف من الرجال في القيادة و الذي يعشق العمل و ينبذ الفساد و المفسدين.
 
 
 
 
 
 
 
 

أضافة تعليق