ونحن نعيش الذكرى السابعة والستين لاستشهاد الإمام حسن البنا رحمه الله، وفي ظل ما تتعرض له دعوته وفكرته وجماعته من بطش واضطهاد وقمع ومحنة ربما هي الأشد والأشرس منذ أن زرع بذرتها ذات يوم من شهر مارس سنة 1928، كما تشاء مقادير الله عز وجل أن تتزامن مع وفاة نجله أحمد سيف الإسلام، ليكون شهر فبراير موعدا لمغادرة الأب والابن، ويتكرر فيه مشهد منع العائلة من إقامة عزاء الابن، بعد مرور ما يقارب من سبعين سنة على منعها أيضا وفي نفس الشهر من تشييع وإقامة عزاء الأب الذي حمل نعشه حينها على أكتاف النساء، ولم يمش في جنازته إلى جانب أبيه الشيخ المكلوم ويعزي فيه غير صديقه المحامي والسياسي القبطي مكرم عبيد باشا، ليبقى الإمام البنا ــ حيا وميتا ــ ودعوته ونسله غصة وشوكة في حلق الاستبداد والفساد، وليكون كما قال عنه المرشد عمر التلمساني رحمه الله:((إن حسن البنا كلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم استشهاده كلما ازدادت شخصيته وضوحا وإشراقا، وآثاره نورا وبهاء، كاللوحة الفنية البديعة كلما ابتعدت عنها محملقا في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الإبداع فيها، وحقا ما مضى عام إلا ازداد تاريخ حسن البنا وضوحا في ميادين الدعوة الإسلامية، وكلما ظهر ما أجراه الله له من خير على يديه للإسلام والمسلمين)).
لو رصدنا وتأملنا الآثار الجليلة والإنجازات العظيمة التي تركها الإمام البنا، وبلوغ دعوته وفكرته وحتى جماعته سائر أنحاء المعمورة، مع كل المحن التي عاشتها وتعرضت لها في تاريخها الذي يقارب القرن، رغم عمره القصير حيث لم يعش سوى 43 سنة منها حوالي 20 سنة فقط من بداية تأسيس دعوته، لظهر لنا بجلاء ووضوح ما يمكن أن تفعله بركة العمر المعجونة بإخلاص العمل وصدق التوجه وصفاء السريرة ونبل المقصد من إنجاز وصناعة الفارق على الأرض، لتكون حياة الإمام البنا رحمه الله الشرح العملي والميداني لحكم ابن عطاء الله السكندري التي يقول في أولاها:((رب عمر اتسعت آماده وقلّت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده، فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة))، والثانية:((ورود الأمداد على حسب الاستعداد، وشروق الأنوار على حسب صفاء الأسرار))، والثالثة:((تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيث صار التنوير وصل التعبير)).
ولم يكن الإمام البنا بدعا في هذه القاعدة، بل كان حلقة في سلسلة ذهبية ممتدة ماضيا وحاضرا، لرجال عاشوا أعمارا قصيرة بميزان الزمن، لكنهم أنجزوا الكثير الكثير بميزان الواقع، ببركة العمر وصفاء السرائر وتوفر المعية الإلهية، نذكر من هؤلاء:
ــ الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي عاش 41 سنة وكانت خلافته سنتين ونصف فقط.
ــ الإمام النووي رحمه الله الذي عاش 44 سنة.
ــ الإمام الشافعي رحمه الله الذي عاش 53 سنة.
ــ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله الذي عاش 53 سنة.
ــ الإمام مسلم رحمه الله الذي عاش 54 سنة.
ــ النحوي واللغوي سيبويه رحمه الله الذي عاش 32 سنة.
ــ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله الذي عاش 51 سنة.
وإذا كان الإمام البنا قد أنجب من صلبه: أحمد سيف الإسلام، ومحمد حسام الدين، ووفاء، وسناء، ورجاء، وهالة، واستشهاد، وصفاء، فإنه قد أنجب ببركة عمره وإخلاصه:
ــ ملايين من سيوف الإسلام الذي نافحوا ومازالوا ينافحون عن الإسلام وعقيدته وشريعته ورسالته في أغلب أقطار الدنيا.
ــ ملايين من الأوفياء لدعوته الثابتين على فكرته في العالم أجمع رغم كل المحن
ــ آلاف وآلاف من الدعاة والعلماء الذن بلغ سنا إشعاعهم الروحي والعلمي والفكري والدعوي الآفاق.
ــ آلاف وآلاف من الشباب النقي الطاهر الذين يشكلون الرجاء الصادق لأمتهم للتمكين لدين الله في دنيا الناس إن آجلا أو عاجلا.
ــ آلاف وآلاف من الإستشهاديين في أرض الرباط فلسطين الذين دوّخوا عدوهم ماضيا وحاضرا، وقدّموا أرواحهم ودماءهم زكية في سبيل الله دفاعا عن دينهم وأرضهم وعرضهم ومقدساتهم.
ــ آلاف وآلاف من الأصفياء الأتقياء شبابا وشيبا، رجالا ونساء.
رحم الله الإمام البنا جزاء ما قدّم لدينه وأمته ودعوته، وصدق الأمير المجاهد بطل حرب الريف في المغرب محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله عندما قال لما بلغه نبأ اغتيال الإمام البنا:(( ويح مصر وإخوتي أهل مصر، لقد قتلوا وليّاً من أولياء الله)).