الصائم ولذة العبادة
جمال زواري أحمد
رمضان فرصة سانحة ليلج المؤمن من خلالها ساحة عبودية الله عز وجل ، والترقي في منازلها ، وتذوق لذاتها المتنوعة ،التي لا تضاهيها لذات الدنيا مجتمعة، وهي في عرف الصالحين أفضل ما في الحياة ، حتى قال قائلهم:(مساكين أهل الدنيا ، تركوها وما عرفوا أفضل ما فيها ، قيل له: وما أفضل ما فيها ؟ قال: الأنس بالله).
فالعيش الدائم في ظلال عبودية المولى ،ترزق العبد شفافية في الروح ، ورقة في القلب، وسموا في النفس، وراحة في البال، واستقامة في السلوك، وحرصا على إسداء المعروف للآخرين، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فإنها تحدد مصيره ودار قراره الأبدية ، فكلما أرتفع منسوب العبودية لديه ، كلما أرتفع مقامه عند مولاه سبحانه ، كما ذكر أبن عطاء:(إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك ، فأنظر فيما أقامك).
فإن أقامك على تقواه ومرضاته وعبوديته وثبتك على ذلك، فأعلم أن مقامك رفيع عنده، وإن أقامك على غير ذلك فلا قيمة لك عنده.
فداوم قرع بابه ، وذق لذة عبوديته، تعرف عظيم إكرامه لك ، ومنه عليك ، فمن ذاق عرف، واجعل مناجاته في هذا الشهر الكريم وسيلة زلفى، وجسر عبور، ودليل حب، وعربون ذل وسكينة، واسكب العطر الحلال ، ولا تبخل عليه بماء المآقي، ينزل عليك شآبيب رحمته، وفضائل مغفرته، وغنائم رضوانه، وتحقق أنك المقصود بقوله:( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ )(الزمر9).
وأنك واحد من الزمرة التي:( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(السجدة16).
شعورا بالافتقار إليه ، ومداومة على التضرع له ، واعترافا بأنعمه التي لا تحصى التي أسداها لك ، ورهبة من قدرته عليك ، ورجاء في تجاوزه على تقصيرك في حقه . على أن لا تغتر بعمل ، ولا تتالى بطاعة ،أو تمن بمعروف ، بل اعتراف بالتقصير في حق الله ، وغلبة الهوى والشهوة والمعصية في أحايين كثيرة ، فإن رافق كل ذلك حياء وذل وانكسار ، فاطمئن فإن ذلك سبب للوصول ، ودليل للقبول ، وجواز للعبور إلى مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر:(فربما فتح لك باب الطاعة ،وما فتح لك باب القبول ،وربما قدر عليك المعصية ، فكانت سببا في الوصول، معصية أورثت ذلا وانكسارا ،خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا).
فعش لذة العبودية ــ أخي المؤمن ــ في مدرسة الثلاثين يوما، واجعل منها شغلك الشاغل، وارتفع إلى مرتبة الإحسان:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك)، واستثمر في فيوضات رحمات الله في شهر التكريمات لمن أراد التكريم ، ورغب في التبجيل ، وصمم على التغيير ، وتخلص من ماضيك المثقل بالآثام والعادات السيئة ، واصنع لنفسك مع عبودية الله مستقبلا مشرقا ، وحياة مطمئنة، وأضمن نهاية مشرفة ، ومصيرا سعيدا، واقهر شيطانك وهواك ، وألزم صفة العبد لمولاك، وقم بمستلزمات ذلك ، تنل شرف الانتماء ، وتأخذ جائزة الموسم ، وأعلم أنه سبحانه ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم باسم عبوديته في أشرف مقاماته، في مقام الإسراء:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )(الإسراء1).
وفي مقام الدعوة:( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً )(الجن19). وفي مقام التحدي:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )(البقرة23).
تعرض لنفحات الله في هذا الشهر المبارك ، لعل بعضها يصادفك ، فلاتشقى بعدها أبدا، كما ورد في الحديث:( إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً)(الطبراني).
لقد أغراك مولاك وأنت على أعتاب شهر الرحمات ، ويسر لك سبل الانطلاق والاستنهاض ، لتكون ضمن قوافل العابدين، وتحجز لك مقعدا في عداد الفائزين ، فضاعف لك أجر العبادات والعمل الصالح ، وصفد لك الشياطين ، لكي تتدرج في معارج عبوديته من الرحمة إلى المغفرة، ثم تكون المحصلة عتقا من النار، وذلك ــ ورب الكعبة ــ هو الفوز المحقق والنجاح الأبدي والنجاة التي ما بعدها نجاة، وهي النتيجة التي عمل لها الصالحون ، وذابت في رغبة الوصول إليها قلوب المشتاقين، وانكسرت في الحرمان منها نفوس النادمين ، فقد قال سبحانه:( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ )(آل عمران185).
فإن استشعرت بأنك قد ولجت ميدان العبودية في شهرها ، وبدأت تذق لذتها في موسمها، فقد أفلحت وقد عرفت فألزم وأثبت على ذلك، وضاعف الجهد وسابق العمر ونافس الخلق وأستنفر كل قوى الخير الكامنة فيك، فإن استطعت أن لا يسبقك إلى مولاك أحد فأفعل، وأجعل عين سيد الأولين والآخرين تقر بك عندما تلقاه ، وإن لم تره في الدنيا، ولتكن في ذلك غيورا من الربيع بن خثيم ،الذي كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا نظر إليه يقول: ( وبشر المخبتين، أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم لفرح بك وفي لفظ آخر لأحبك وفي لفظ آخر لضحك).
وأحذر التسويف والتردد فإن الوقت لن يتوقف لك، والموت يأتي فجأة والقبر صندوق العمل، فليكن صندوقك عامرا، خاصة في هذا الشهر الكريم. فالغبن كل الغبن أن تغلب وحداتك عشراتك ، وأن يخطئك توفيق الله لك، وأن تمنع معيته الخاصة التي يمنحها لعباده الصالحين ، والخسران كل الخسران أن لا يراك أهلا لنيل شرف ذلك ، والحرمان كل الحرمان أن يمر عليك رمضان ، وأنت تراوح مكانك دون أن تنخرط في مدرسة العبودية وتنل عجائبها وترزق من إشراقاتها وتعب عبا من لذائذها.
فلا تخدعنك الأماني، وتصنع لنفسك أعذار التقصير والتفريط ، بحجة أنك تحسن الظن بربك، من دون أن تقدم الثمن ، فقد قال الحسن البصري:(إن قوما خدعتهم الأماني ، يقولون نحسن الظن بالله، كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
فحاسب نفسك وألجمها بلجام التقوى والمراقبة ،وألزمها الصالح من الأعمال ،وضاعف الإنتاج وكثر المحصول منها مغتنما وفرة الموسم وبركته، وقدم دلائل القبول في مدرسة العبودية هذه ، وأجعل محطة الصيام فرصة للتحول والصعود إلى المراتب العالية ، وواصل الترقي حتى تبشر بالوصول ، وعندها يفرح المؤمنون بنصر الله.
وزن نفسك وكلها بمدى تحققك بآثار وثمار وأشراط مدرسة العبودية لله عز وجل ، فإن أكسبتك حساسية في الضمير وطهارة في القلب ورقة في الفؤاد وسلامة في الصدر وزيادة في الإيمان وإشراقه في الوجه ونظافة في الجسم وإمساكا للسان وغضا للبصر وصونا للسمع وحفظا للفرج وزيادة في العلم وارتفاعا في الخشية وسخاء في النفس وإدرارا في الدمع وحسنا في الخلق واستقامة في المعاملة وسماحة في التصرف وورعا في التعامل بالدرهم والدينار وإحسانا إلى جار وبرا للوالدين وصلة لرحم وتربية حسنة للأبناء وشفقة على مسكين ورحمة ليتيم وعدلا مع خصم وتقديرا للعلماء ونفعا للناس وحبا لله ورسوله والمؤمنين وخدمة للدين والدعوة إليه وغيرة على محارم الله وتفاعلا مع قضايا الأمة واهتماما بأمر المسلمين وذكرا للموت واستعدادا له، فإن وجدت كل هذه الثمار والآثار أو معظمها ،فأعلم بأنك قد نجحت في إمتحان العبودية في شهر المكرمات ، فألزم وقدم زكاة الشكر وأحمد الله على التوفيق والتكريم ،وأسأله التثبيت وحسن الخاتمة والسعادة الدائمة تحقيقا لقاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية :(من أراد السعادة الأبدية ، فليلزم طريق العبودية)، فالعبودية منهج حياة وأفضل الفرص لتعلم أبجدياتها والغوص في لذائذها هذا الشهر الفضيل جعلنا الله وإياكم من أهلها والسباقين إليها.
*ينابيع
جمال زواري أحمد
رمضان فرصة سانحة ليلج المؤمن من خلالها ساحة عبودية الله عز وجل ، والترقي في منازلها ، وتذوق لذاتها المتنوعة ،التي لا تضاهيها لذات الدنيا مجتمعة، وهي في عرف الصالحين أفضل ما في الحياة ، حتى قال قائلهم:(مساكين أهل الدنيا ، تركوها وما عرفوا أفضل ما فيها ، قيل له: وما أفضل ما فيها ؟ قال: الأنس بالله).
فالعيش الدائم في ظلال عبودية المولى ،ترزق العبد شفافية في الروح ، ورقة في القلب، وسموا في النفس، وراحة في البال، واستقامة في السلوك، وحرصا على إسداء المعروف للآخرين، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فإنها تحدد مصيره ودار قراره الأبدية ، فكلما أرتفع منسوب العبودية لديه ، كلما أرتفع مقامه عند مولاه سبحانه ، كما ذكر أبن عطاء:(إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك ، فأنظر فيما أقامك).
فإن أقامك على تقواه ومرضاته وعبوديته وثبتك على ذلك، فأعلم أن مقامك رفيع عنده، وإن أقامك على غير ذلك فلا قيمة لك عنده.
فداوم قرع بابه ، وذق لذة عبوديته، تعرف عظيم إكرامه لك ، ومنه عليك ، فمن ذاق عرف، واجعل مناجاته في هذا الشهر الكريم وسيلة زلفى، وجسر عبور، ودليل حب، وعربون ذل وسكينة، واسكب العطر الحلال ، ولا تبخل عليه بماء المآقي، ينزل عليك شآبيب رحمته، وفضائل مغفرته، وغنائم رضوانه، وتحقق أنك المقصود بقوله:( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ )(الزمر9).
وأنك واحد من الزمرة التي:( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(السجدة16).
شعورا بالافتقار إليه ، ومداومة على التضرع له ، واعترافا بأنعمه التي لا تحصى التي أسداها لك ، ورهبة من قدرته عليك ، ورجاء في تجاوزه على تقصيرك في حقه . على أن لا تغتر بعمل ، ولا تتالى بطاعة ،أو تمن بمعروف ، بل اعتراف بالتقصير في حق الله ، وغلبة الهوى والشهوة والمعصية في أحايين كثيرة ، فإن رافق كل ذلك حياء وذل وانكسار ، فاطمئن فإن ذلك سبب للوصول ، ودليل للقبول ، وجواز للعبور إلى مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر:(فربما فتح لك باب الطاعة ،وما فتح لك باب القبول ،وربما قدر عليك المعصية ، فكانت سببا في الوصول، معصية أورثت ذلا وانكسارا ،خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا).
فعش لذة العبودية ــ أخي المؤمن ــ في مدرسة الثلاثين يوما، واجعل منها شغلك الشاغل، وارتفع إلى مرتبة الإحسان:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك)، واستثمر في فيوضات رحمات الله في شهر التكريمات لمن أراد التكريم ، ورغب في التبجيل ، وصمم على التغيير ، وتخلص من ماضيك المثقل بالآثام والعادات السيئة ، واصنع لنفسك مع عبودية الله مستقبلا مشرقا ، وحياة مطمئنة، وأضمن نهاية مشرفة ، ومصيرا سعيدا، واقهر شيطانك وهواك ، وألزم صفة العبد لمولاك، وقم بمستلزمات ذلك ، تنل شرف الانتماء ، وتأخذ جائزة الموسم ، وأعلم أنه سبحانه ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم باسم عبوديته في أشرف مقاماته، في مقام الإسراء:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )(الإسراء1).
وفي مقام الدعوة:( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً )(الجن19). وفي مقام التحدي:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )(البقرة23).
تعرض لنفحات الله في هذا الشهر المبارك ، لعل بعضها يصادفك ، فلاتشقى بعدها أبدا، كما ورد في الحديث:( إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً)(الطبراني).
لقد أغراك مولاك وأنت على أعتاب شهر الرحمات ، ويسر لك سبل الانطلاق والاستنهاض ، لتكون ضمن قوافل العابدين، وتحجز لك مقعدا في عداد الفائزين ، فضاعف لك أجر العبادات والعمل الصالح ، وصفد لك الشياطين ، لكي تتدرج في معارج عبوديته من الرحمة إلى المغفرة، ثم تكون المحصلة عتقا من النار، وذلك ــ ورب الكعبة ــ هو الفوز المحقق والنجاح الأبدي والنجاة التي ما بعدها نجاة، وهي النتيجة التي عمل لها الصالحون ، وذابت في رغبة الوصول إليها قلوب المشتاقين، وانكسرت في الحرمان منها نفوس النادمين ، فقد قال سبحانه:( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ )(آل عمران185).
فإن استشعرت بأنك قد ولجت ميدان العبودية في شهرها ، وبدأت تذق لذتها في موسمها، فقد أفلحت وقد عرفت فألزم وأثبت على ذلك، وضاعف الجهد وسابق العمر ونافس الخلق وأستنفر كل قوى الخير الكامنة فيك، فإن استطعت أن لا يسبقك إلى مولاك أحد فأفعل، وأجعل عين سيد الأولين والآخرين تقر بك عندما تلقاه ، وإن لم تره في الدنيا، ولتكن في ذلك غيورا من الربيع بن خثيم ،الذي كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا نظر إليه يقول: ( وبشر المخبتين، أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم لفرح بك وفي لفظ آخر لأحبك وفي لفظ آخر لضحك).
وأحذر التسويف والتردد فإن الوقت لن يتوقف لك، والموت يأتي فجأة والقبر صندوق العمل، فليكن صندوقك عامرا، خاصة في هذا الشهر الكريم. فالغبن كل الغبن أن تغلب وحداتك عشراتك ، وأن يخطئك توفيق الله لك، وأن تمنع معيته الخاصة التي يمنحها لعباده الصالحين ، والخسران كل الخسران أن لا يراك أهلا لنيل شرف ذلك ، والحرمان كل الحرمان أن يمر عليك رمضان ، وأنت تراوح مكانك دون أن تنخرط في مدرسة العبودية وتنل عجائبها وترزق من إشراقاتها وتعب عبا من لذائذها.
فلا تخدعنك الأماني، وتصنع لنفسك أعذار التقصير والتفريط ، بحجة أنك تحسن الظن بربك، من دون أن تقدم الثمن ، فقد قال الحسن البصري:(إن قوما خدعتهم الأماني ، يقولون نحسن الظن بالله، كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
فحاسب نفسك وألجمها بلجام التقوى والمراقبة ،وألزمها الصالح من الأعمال ،وضاعف الإنتاج وكثر المحصول منها مغتنما وفرة الموسم وبركته، وقدم دلائل القبول في مدرسة العبودية هذه ، وأجعل محطة الصيام فرصة للتحول والصعود إلى المراتب العالية ، وواصل الترقي حتى تبشر بالوصول ، وعندها يفرح المؤمنون بنصر الله.
وزن نفسك وكلها بمدى تحققك بآثار وثمار وأشراط مدرسة العبودية لله عز وجل ، فإن أكسبتك حساسية في الضمير وطهارة في القلب ورقة في الفؤاد وسلامة في الصدر وزيادة في الإيمان وإشراقه في الوجه ونظافة في الجسم وإمساكا للسان وغضا للبصر وصونا للسمع وحفظا للفرج وزيادة في العلم وارتفاعا في الخشية وسخاء في النفس وإدرارا في الدمع وحسنا في الخلق واستقامة في المعاملة وسماحة في التصرف وورعا في التعامل بالدرهم والدينار وإحسانا إلى جار وبرا للوالدين وصلة لرحم وتربية حسنة للأبناء وشفقة على مسكين ورحمة ليتيم وعدلا مع خصم وتقديرا للعلماء ونفعا للناس وحبا لله ورسوله والمؤمنين وخدمة للدين والدعوة إليه وغيرة على محارم الله وتفاعلا مع قضايا الأمة واهتماما بأمر المسلمين وذكرا للموت واستعدادا له، فإن وجدت كل هذه الثمار والآثار أو معظمها ،فأعلم بأنك قد نجحت في إمتحان العبودية في شهر المكرمات ، فألزم وقدم زكاة الشكر وأحمد الله على التوفيق والتكريم ،وأسأله التثبيت وحسن الخاتمة والسعادة الدائمة تحقيقا لقاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية :(من أراد السعادة الأبدية ، فليلزم طريق العبودية)، فالعبودية منهج حياة وأفضل الفرص لتعلم أبجدياتها والغوص في لذائذها هذا الشهر الفضيل جعلنا الله وإياكم من أهلها والسباقين إليها.
*ينابيع